نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

نظر المحب الى الحبيب سلام ... والصمت بين العا
نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

نــظـر المـحـب إِلى المـحـب سـلام

وَالصـمـت بـيـن العـارفـيـن كـلام

جمعوا العبارة بالإِشارة بينهم

وتـوافـقـت مـنـهـم بـهـا الأَفهام

نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

يَـتَـراجَـعـون بـلحـظـهـم لا لفظهم

فــلذا بـمـا فـي نـفـس ذا إِلهـام

هَـذا هـنـاك وَذا هـنـاك إِذا تَـرى

وَلســــر ذاكَ بــــســـر ذا إِلمـــام

وَتـقـابـلت وَتـعـاشـقـت وَتـعـانـقت

أَســـرارهـــم وَتــفــرقــت أَجــســام

فَيَقول ذا عَن ذا وَذا عَن ذا بما

يَــلقــى إِلَيــهِ وَتـكـتـب الأَقـلام

سـقـط الخـلاف وَحـرفـه عَـن لفظهم

فَــلَهُــم بــحــرف الائتـلاف غَـرام

ألفـوا نـعـم لبـيك وأتلفوا بها

إِذ لا وَلَيـسَ عَـلى الكِـرام حَـرام

أَعــرافــهــم جــنــويـة أَخـلاقـهـم

نـــبـــويـــة ربـــانـــيـــون كِــرام

شـهـواتـهـم وَنـفـوسـهـم وَحـظـوظهم

خــلف وَفــعــل الصــالحــات أَمــام

بـسـطـت بـهـن لهـم أكـف بـالعـطـا

قــامَــت بــواجــبـهـا لهـم أَقـدام

فـــالســـر عــلم وَالعــقــول أَدلة

وَالرب قـــصـــد وَالرَســـول إِمـــام

صــف لمـجـنـون عـامـر دار ليـلى

إِنَّهــ نــحــوهــا يــشــمــر ذيــلا

وأعـــد وصـــف يــوســف لزليــخــا

نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

أَو لِيَـعـقـوب تـشهد الدمع سيلا

وَلورق الحــمــام … القصيدة كاملة

صـفـت بـكـفـيـهـا الصـفوف صفوفا

لتـحـف بـالعـرش المـحـيط حفوفا

بـهـتُ الجـمـال وَصـيـفـة جـنـويـة

تـهـوى مـن الثـقـليـن ثم وَصيفا

زات المَــعــانــي داروت … القصيدة كاملة

أَنـا شـمـسـون ساقيهِ

وَشــمــاسـون سـامـيـهِ

مـن مـحـاريـب عاليه

حـلوة الحـال حاليه

مــن طـواويـس أَحـمـد

مهجة القلب في يدي

زرت عَـن … القصيدة كاملة

تواصل معنا

حسب الدولة (قريباً)

حسب البحر

حسب العصر (قريباً)

عدد ابيات القصيدة:12

الجميل في أمريكا وهو ما جعلها تتقدم على العالم علميا، أن الخيال لا يقتل وليست له حدود وكل المؤسسات تشجعه، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، واذا لم يتخيل العالم ويحلم، سيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئا. – أحمد زويل

فإن كل لذة الحب، وإن أروع ما في سحره، أنه لا يدعنا نحيا فيما حولنا من العالم، بل في شخص جميل ليس فيه إلا معاني أنفسنا الجميلة وحدها، ومن ثم يصلنا العشق من جمال الحبيب بجمال الكون، وينشئ لنا في هذا العمر الإنساني المحدود ساعات إلهية خالدة، تشعر المحب أن في نفسه القوة المالئة هذا الكون على سعته. – مصطفى صادق الرافعي

ما الحب إلا خيال وجنون، وإنّي لأنبئك بأنّ المحبّ يستحق أن يُلقى به في غرفة مظلمة ويجلد بالسوط شأن المجانين، وأمّا السبب في أن المحبين لا يعاقبون على هذا النحو ولا يشفون من علتهم، فهو أن الجنون أصبح شيئا مألوفا حتى ليبتلي به الضاربون بالسياط أنفسهم. – وليم شكسبير

عندما تنظر في المرآة فأنت ترى نفسك أجمل وأنحف من الحقيقة بـ ٤ مرات ، تُحاول ألا تتذكر هذه المعلومة لأن ما تراه ، مع كل فلاترك التجميلية ، لا يعجبك ، ومع ذلك يوجد في هذا العالم شخص ينظر إليك وكأنك الشخص الوحيد ، شخص يغمرك بالجمال ، رغم غضونك وتعبك وشحوبك وتكسرات إبتسامتك ، شخص واحدٌ يراك لأنه يحبّك ، الجمال دائمًا في عين الرائي ، في عين المحِب. – بثينة العيسى

عَبِثَ الحبيبُ وكانَ مِنهُ صُدودُ .. ونأى ولمْ أكُ ذاكَ مِنْهُ أريدُ ، يُمسي ويُصبِحُ مُعرِضاً متَغضبِّاً .. وإذا قصَدتُ إليهِ فَهوَ يَحِيدُ ، ويَضِنُّ عَنّي بالكَلامِ مُصارماً .. وبمُهجتي وبما يُريدُ أجودُ ، إني أحاذِرُ صَدّه وفراقه .. إنّ الفِراقَ على المحبّ شديدُ. – أبو الفضل الأحنف

نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

غبتم فما لي من أُنس لغيبتكم .. سوى التعلّل بالتذكار والأملِ ، أحتالُ في النوم كي ألقى خيالكمُ .. إن المُحب لمحتاج إلى الحيلِ. – البهاء زهير

عارُ المُحِبّ وِصالٌ ليس يدرِكُهُ .. وعارُهُ الشِّعرُ، والمقصودُ يَبتعِدُ ، يا طاوِيَ البِيدِ عرِّجْ عند مسجدِها .. وانزلْ وسلِّمْ؛ فهذي الروح والجسدُ. – شيخ محمد قادري

وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا .. يَملُّ وَأنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ ، بَكُلٍّ تدَاوَيْنَا فلمْ يُشْفَ ما بِنَا .. على أنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ. – قيس بن الملوح

إن المُحب ينسى الإساءة. – فيودور دوستويفسكي

ما بعد بُعدك والصدودِ عقوبةٌ .. يا هاجري قد آن لي أنْ تغفرا ، لا تجمعنَّ عليَّ عَتْبكَ والنوى .. حسبُ المحب عقوبة ً أن يهجرا. – ابن عنين

قولوا لمن تحبوا سلاما .. فقول المحب للمحب شفاء. – ابن الفارض

أتظُنّ أنكَ في هواكَ مُخيّرٌ ؟ وإذا أردتَ تغيّرا تتغيّرُ ؟ كَلَّا! ففي طبع الهوى يا سائلي .. حبُّ الحبيبِ على المُحبّ مُقدَّر. – مانع سعيد العتيبة

القلب المحب هو الأكثر حكمة. – تشارلز ديكنز

وما ذكرتُكِ إلا هِجتِ لي طَرَباً .. ‏إنّ المُحبّ ببعضِ الأمرِ معذورُ. – زهير بن أبي سلمى

أحنُّ بأطراف النّهار صَبابة .. وبالليل يدعُوني الهوى فأجيبُ , وأيامنا تفنى وشوقي زائدٌ .. كأنَّ زَمان الشوق ليسَ يغيبُ. – سمنون المحب

إِنْ كانَ صَبْرِي قَلِيلاً فإنَّ وجدي كثيرُ .. ليس المحبّ صَدُوقاً في الحبّ وهوَ صَبورُ .. يا بدرُ سمّيت بدراً وأين منك البُدُورُ ؟ – خليل مطران

الرجل المحب لنساء كثيرات يعرف المرأة , الرجل المحب لامرأة واحدة يعرف الحب. – سيغموند فرويد

وإذا رحلتُ تركتُ عندك خافقي .. فارفقْ به إن المحبَّ رحيمُ , صَلَّيْتُ في سفري صلاة مسافرٍ .. قصرا وقلبي في هواكَ مُقيمُ. – محمد المقرن

القلب المحب يسع الدنيا والقلب الحقود يأكل صاحبه. – بيتهوفن

الأشخاص الأجمل من بين الذين قابلتهم هم أولئك الذين عرفوا الهزيمة والكفاح والعذاب والخسارة، ووجدوا طريقتهم الخاصة للخروج من الأعماق السحيقة , هؤلاء الأشخاص لهم رؤيتهم وحساسيتهم وفهمهم للحياة .. يملؤهم التعاطف والتواضع والبساطة، والقلق المحب العميق , الأشخاص الجميلون لا يأتون من لا شيء. – إليزابيث كوبلر روس

من الصعب جدا على بني آدم أن يعصي طبيعته البشرية ، كأن يقاوم النوم ، الطعام ، الحب ، وغيرها الكثير من الأشياء التي هي أساس حياته ، إلا أن الحياة بكل ما فيها تجبرنا على أن ننسلخ عن طبيعتنا ، لدرجة تجعلنا نقسم أن هذا الإنسان الضعيف الودود المحب قد أصبح بمقدوره أن يفترس ويجرح ويكذب ويخون ، وتجعلنا بالتالي نراه بصورة لا تستطيع قلوبنا الصافية – التي ما زالت تقاوم زلزال الحياة – تقبلها وتحملها. – مثل الحسبان

فالجنونُ يبدأُ عندما لا يعودُ المحبُ قادراً على الكلام، أي عندما يخونه الكلام، ولهذا كانت لحظة اللقاء الخاطف بين الجنون والكلام، بين جنونٍ يتكلم وكلامٍ يُجنُّ – هي لحظةُ التعبير، أو لحظة الشعر بامتياز، وهي لحظة نادرة. – أدونيس

وعظتني نفسي فعلمتني حبّ ما يمقته الناس , ومصافاة من يضاغنونه , وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحبّ بل في المحبوب , وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين , أما الآن فقد تحول إلى هالة أولها آخرها وآخرها أولها تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون. – جبران خليل جبران

الله ليس بحاجة الى من يدافع عنه, بل الى من يضيء الدروب اليه , بالفكر المنفتح المحب والعمل الصالح. – أدونيس

يا ليت هذا الحب يعشق مرة .. فيعلم ما يلقى المحب من الهجر. – قيس بن الملوح

المحب الصامت يستطيع أن ينقل لغته وحبه إلى الطرف الآخر إذا كان الطرف الآخر على نفس المستوى من رهافة الحس وإذا كان هو الآخر قادرا على السمع بلا أذن والكلام بلا نطق. – مصطفى محمود

قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجّاً فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها وهي تقول:

وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائداً … لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ

رأيتَ الذي لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ … عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لامرأةٍ من الأعراب:

أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى … أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ

نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

وكلهمُ قدْ خالهُ في فؤادهِ … بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ في الشِّعرِ

وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ … ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ

ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى … وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ

وقال آخر:
ما%٨غ:زز
تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا … منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ

ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ … فيا عجباً للقاتلاتِ الضَّعائفِ

وللعينِ ملهًى في التلادِ ولمْ يقدْ … هوَى النَّفس شيئاً كاقتيادِ الطَّرائفِ

وقال آخر:

وكمْ منْ فتًى جَلدٍ يقادُ لحينهِ … بطرفٍ مريضِ النَّاظرَينِ كحيلِ

إذا ما الهوى منهُ تعزَّزَ جانبٌ … فما شئتَ مِن مقتولةٍ وقتيلِ

وقال جرير بن عطية:

إنَّ العيونَ التي في طرفِها مرضٌ … قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا

يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ … وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا

وقال جميل بن معمر العذري:

رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى … وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ

رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ … ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي

أما معنى البيت الأول فقبيح أن يجعل في الغزل إن كان قصد في باطنه ما يتبين في ظاهره وقد زعم بعض أهل الأدب أن قوله رمى الله في عيني بثينة بالقذى إنَّما عنى به الرَّفيبَ وقوله. وفي الغرّ من أنيابها إنَّما عنى به سروات قومها والقوادح الحجارة وقد عرضتُ هذا القول على أبي العباس أحمد بن يحيى فأنكره وقال لم يعن ولم يرَ به بأساً العرب تقول قاتله الله فما أشجعه ولا تريد بذلك سوءاً.

وقال العديل بن الفرج العجلي:

يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى … فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ

وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا … حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ

فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ … إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي

يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها … ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ

وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:

سَمْعي وطرفي حليفَا أعلَى جسدي … فكيفَ أصبرُ عنْ سمعي وعنْ بصري

لوْ طاوَعاني علَى أنْ لا أُطاوعَها … إذاً لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري

وقال يزيد بن سويد الضبعي:

بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها … كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ

ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها … منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ

وأنشدني بعض الكلابيين:

يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ … تَثني إليهِ أعنَّةَ الحدقِ

لي منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ … نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ

لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ … وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ

وقال آخر:

دعا قلبهُ يوماً هوًى فأجابهُ … فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ

بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها … تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

نظر المحب الى الحبيب سلام … والصمت بين العا

طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ … هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ

تُراسلُني باللَّحظِ عندَ لقائها … فتخلسُ قلبي عندَ ذلكَ مِنْ صدري

وقال عمرو بن الأيهم:

ويومَ ارتحالِ الحيِّ راعتكَ روعةً … فلمْ تنسَها مِنْ ذاكَ إلاَّ علَى ذكرِ

رمتكَ بعينيْ فرقدٍ ظلَّ يتَّقي … شآبيبَ قطرٍ بينَ غُصنينِ مِنْ سدرِ

وقال آخر:

قلبي إلى ما ضرَّني داعِي … يُكثرُ أسقامي وأوْجاعي

لقلَّ ما أبقَى علَى ما أَرى … أُشكُ أنْ ينعانِيَ النَّاعِي

كيفَ احْتراسِي من عدوِّي إذا … كانَ عدوِّي بينَ أضلاعِي

ما أقتلَ اليأْسَ لأهلِ الهوَى … لا سيَّما مِنْ بعدِ إطماعِ

وقال الطرماح:

فلمَّا ادَّركناهنَّ أبدينَ للهوَى … محاسنَ واسْتولينَ دونَ محاسنِ

ظعائنُ يستحدثنَ في كلِّ بلدةٍ … رَهيناً ولا يُحسنَّ فكَّ الرَّهائنِ

وقال العجيف العقيلي:

خليليَّ ما صبرِي علَى الزَّفراتِ … وما طاقَتي بالشَّوقِ والعبراتِ

تقطَّعُ نفسِي كلَّ يومٍ وليلةٍ … علَى إثرِ مَنْ قدْ فاتَها حسراتِ

سقَى ورعَى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى … إذا قمنَ جنحَ اللَّيلِ مُنبهراتِ

دعونَ بحبَّاتِ القلوبِ فأقبلتْ … إليهنَّ بالأهواءِ مُبتدراتِ

وأنشدني أحمد بن يحيى الشيباني أبو العباس النحوي:

إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتَى … سقوطَ حصَى المرجانِ مِنْ سلكِ ناظمِ

رمينَ فأنفذنَ القلوبَ ولا ترَى … دماً مائراً إلاَّ جوًى في الحيازمِ

وخبَّركِ الواشونَ ألاّ أُحبّكمْ … بلَى وستورِ البيتِ ذاتِ المحارمِ

أصدُّ وما الصَّدُّ الذي تعلمينهُ … بنا وبكمْ إلاَّ جزع العلاقمِ

حياءً وبُقيا أنْ تشيعَ نميمةٌ … بنا وبكمْ أُفٍّ لأهلِ النَّمائمِ

أمَا إنَّه لوْ كانَ غيركِ أرقلتْ … صعادُ القنا بالرَّاعفاتِ اللَّهاذمِ

ولكنْ وبيتِ اللهِ ما طلَّ مسلماً … كغرِّ الثَّنايا واضحاتِ الملاغمِ

وإنَّ دماً لوْ تعلمينَ جنيتهِ … علَى الحيِّ جانِي مثلهِ غيرُ نائمِ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

فلمَّا تواقَفْنا وسلَّمتُ أقبلتْ … وجوهٌ زهاها الحسنُ أنْ تتقنَّعا

تبالَهْنَ بالعرفانِ لمَّا عرفنني … وقلنَ امرؤٌ باغٍ أضلَّ وأوضعا

وقرَّبنَ أسبابَ الهوَى لمتيَّمٍ … يقيسُ ذراعاً كلَّما قسنَ إصبعا

فقلتُ لمُطريهنَّ بالحسنِ إنَّما … ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعاً فتنفعَا

وقال أيضاً:

وكمْ مِنْ قتيلٍ ما يُباءُ بهِ دمٌ … ومِنْ غلقٍ رهناً إذا لفَّهُ مِنَى

ومن مالئٍ عينيهِ مِنْ شيءِ غيرهِ … إذا راحَ نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمى

أوانسُ يسلبنَ الحليمَ فؤادهُ … فيا طولَ ما شوقٍ ويا حسنَ مُجتلَى

مع اللَّيلِ قصراً قدْ أضرَّ بكفِّها … ثلاثَ أسابيعٍ تعدُّ منَ الحصَى

فلمْ أرَى كالتَّجميرِ منظرَ ناظرٍ … ولا كليالِي الحجِّ أفتنَّ ذا هوَى

وقال آخر:

بوارحُ رحنَ من برحٍ إلينا … بأفئدةِ الرِّجالِ مبرِّحاتِ

رمينَ حصَى الجمارِ بخاضباتٍ … وأفئدةَ الرِّجالِ بصائباتِ

وقال ذو الرمة:

فما ظبيةٌ ترعَى مساقطَ رملةٍ … كسَا الواكفُ الغادي لها ورقاً خُضرا

بأحسنَ مِنْ ميٍّ عشيَّةَ حاولتْ … لتجعلَ صدعاً في فؤادكَ أوْ عَقرا

بوجهٍ كقرنِ الشَّمسِ حرٍّ كأنَّما … تهيجُ بهذا القلبِ لمحتهُ وقْرا

وعينٍ كأنَّ البابليَّيْنِ لبَّسا … بقلبكَ منها يومَ لاقيتَها سِحرا

وقال كثير بن عبد الرحمن:

أصابكَ نبلُ الحاجبيَّةِ إنَّها … إذا ما رمتْ لا يستبلُّ كليمُها

لقدْ غادرتْ في القلبِ منِّي أمانةً … وللعينِ عبراتٌ سريعٌ سجومُها

فذُوقي بما أجنيتِ عيناً مشومةً … عليَّ وقدْ يأتِي علَى العينِ شومُها

وقال آخر:

وتنالُ إذا نظرتْ إليكَ بطرفِها … ما لا ينالُ بحدِّهِ النَّصلُ

وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهِها … فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ

ولقلبِها حلمٌ تصدُّ بهِ … عنْ ذي الهوَى ولطرفِها جهلُ

وقال حبيب بن أوس الطائي:

يا جفوناً سواهِداً أعدمتْها … لذَّةَ النَّومِ والرُّقادِ جفونُ

إنَّ للهِ في العبادِ منايَا … سلَّطتْها علَى القلوبِ عيونُ

وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:

دارَ الهوَى بعبادِ اللهِ كلّهمِ … حتَّى إذا مرَّ بي مِنْ بينهمْ وقفَا

إنِّي لأعجبُ مِنْ قلبٍ يكلِّفكمْ … ومَا يرَى منكمُ برّاً ولا لَطَفا

لولا شقاوةُ جدِّي ما عرفتكمُ … إنَّ الشَّقيَّ الذي يشقَى بمنْ عرَفا

وأنشدني أبو طاهر أحمد بن بشر الدمشقي:

رمتْني وسِترُ اللهِ بيني وبينها … عشيَّةَ أحجارِ الكَنَاسِ رميمُ

رميمُ الَّتي قالتْ لجاراتِ بيتها … ضمنتُ لكمْ أنْ لا يزالَ يهيمُ

ألا ربَّ يومٍ لوْ رمتْني رَمَيْتها … ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ

وبلغني أنَّ بثينة وعزَّة كانتا خاليتين تتحدثان إذ أقبل كثيِّر فقالت بثينة لعزَّة أتحبين أن أُبين لك إن كان كثيِّر فيما يظهره لك من المحبة غير صادق قالت نعم قالت: أدخلي الخباء فتوارت عزَّة ودنا كثيِّر حتَّى وقف على بثينة فسلم عليها فقالت له ما تركت فيك عزَّة مستمتَعاً لأحدٍ فقال كثيِّر والله لو أن عزَّة أمَة لوهبتها لكِ قالت له بثينة إن كنت صادقاً فاصنع في ذلك شعراً فأنشأ يقول:

رمتْني علَى فوتِ بثينةُ بعدَ ما … تولَّى شبابِي وارْجحنَّ شبابُها

بعينينِ نجلاوينِ لوْ رقرقتْهُما … لنوءِ الثُّريَّا لاستهلَّ سحابُها

فبادرت عزَّة فكشفت الحجاب وقالت يا فاسق قد سمعت البيتين قال لها فاسمعي الثالث قالت وما هو فأنشأ يقول:

ولكنَّما ترمينَ نفساً شقيَّةً … لعزَّةَ منها صفوُها ولبابُها

وهذا الشعر وإن كان قبيحاً لمناسبته الخيانة والغدر فهو حسن من ثبات حدَّة الخاطر وسرعة الفكر.

وقال أبو عبادة البحتري:

نظرتْ قادرةً أنْ ينكفِي … كلُّ قلبٍ في هواهَا بعلَقْ

قالَ بُطلاً وأفالَ الرَّأيَ مَنْ … لمْ يقلْ إنَّ المنايا في الحدَقْ

كانَ يكفِي ميِّتاً مِنْ ظمإٍ … فضلُ ما أوبقَ ميْتاً مِنْ غرَقْ

إنْ تكنْ محتسباً مَنْ قدْ ثوَى … لحمامٍ فاحتسبْ مَنْ قدْ عشِقْ

وقال القطامي وهو أحسن ما قيل في معناه:

وفي الخدورِ غماماتٌ برقنَ لنا … حتَّى تصيَّدننَا مِنْ كلِّ مُصطادِ

يقتُلْننا بحديثٍ ليسَ يعلمهُ … مَنْ يتَّقينَ ولا مكتومهُ بادِ

فهنَّ يُبدينَ مِنْ قولٍ يُصبنَ بهِ … مواقعَ الماءِ من ذِي الغلَّةِ الصَّادي

قد ذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوَى أنَّه يقع ابتداؤه من النظر والسَّماع ما في بعضه بلاغٌ ثمَّ نحن إن شاء الله ذاكرون ما في ذلك الأمر الَّذي أوقعه السماع والنظر ولمَ وقع وكيف وقع إذ قد صحَّ كونه عند العامَّة وخفيَ سببه على الخاصَّة أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

وفي مثل ذلك يقول طرفة بن العبد:

تعارفُ أرواحُ الرِّجالِ إذا التقَوْا … فمنهمْ عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ

وإنَّ امرءاً لمْ يعفُ يوماً فكاهةً … لمنْ لمْ يردْ سوءاً بها لجهولُ

وزعم بعضُ المتفلسفين أن الله جلَّ ثناؤه خلقَ كلَّ روحٍ مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة ثمَّ قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الَّذي فيه النصف الَّذي قطع من النصف الَّذي معه كان بينهما عشقٌ للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال النَّاس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم.

وقد قال جميل في ذلك:

تعلَّقُ رُوحي روحَها قبلَ خلقِنا … ومِنْ بعدِ ما كنَّا نِطافاً وفي المهدِ

فزادَ كمَا زِدنا فأصبحَ نامِياً … وليسَ إذا مُتنا بمُنتقضِ العهدِ

ولكنَّهُ باقٍ علَى كلِّ حالةٍ … وزائرُنا في ظُلمةِ القبرِ واللَّحدِ

وفي نحوه يقول بعض أهل هذا العصر:

مَنْ كانَ يشجَى بحبٍّ ما لهُ سببٌ … فإنَّ عندي لِما أشجَى بهِ سببُ

حُبِّيهِ طبعٌ لنفسِي لا يغيِّرهُ … كرُّ اللَّيالِي ولا تُودي بهِ الحقبُ

إن كانَ لا بدَّ للعشَّاقِ من عطبٍ … ففي هوَى مثلهِ يُستغنمُ العطبُ

وكتب بعض الظرفاء إلى أخ له إنِّي صادقت منك جوهر نفسي فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً وحُكي عن أفلاطون أنَّه قال ما أدري ما الهوَى غير أنِّي أعلم أنَّه جنون إلاهي لا محمود ولا مذموم.

وقد قال بعض الشعراء في مثله:

إنَّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ … تُلقَى عليكَ وما لها سببُ

ولقد أحسن الحسين بن مطير في قوله:

قضَى اللهُ يا سمراءُ منِّي لكِ الهوَى … بعزمٍ فلمْ أمنعْ ولمْ أُعطِهِ عمدا

وكلُّ أسيرٍ غيرُ مَنْ قدْ ملكتهِ … مُرجًّى لقتلٍ أوْ لنعماءُ أوْ مُفدَى

وزعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب إما لاتفاق الأرواح فلا يجد المرء بدّاً من أن يحب صاحبه وإما للمنفعة وإما لحزن وفرح فأما اتفاق الأرواح فإنه يكون من كون الشَّمس والقمر في المولدين في برج واحد ويتناظران من تثليث أو تسديس نظر مودَّة فإنه إذا كان كذلك كانا صاحبا المولدين مطبوعين على مودَّة كل واحد منهما لصاحبه فأما اللذان تكون مودَّتهما لحزن أو لفرح فإنه من أن يكون طالع مولديهما برجاً واحداً ويتناظر طالعاهما من تثليث أو تسديس وأما اللذان مودتهما للمنفعة فإن ذلك من أن يكون بينهما سعادتاهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس فإن لك يدل على المولدين تكون منفعتهما من جهة واحدة وينتفع أحدهما بصاحبه فتجلب المنفعة بينهما الصداقة أو تكون مضرتهما من جهة واحدة فيتفقان على الحزن فيتوادان بذلك السبب ويُقوِّي ذلك كله نظر السعود في وقت المواليد ويضعفه نظر النحوس وقد ذكر بعض الشعراء الهوَى فقسمه على نحوٍ من هذا المعنى فقال:

ثلاثةُ أحبابٍ فحبُّ علاقةٍ … وحبُّ تِملاقٍ وحبٌّ هوَ القتلُ

وزعم جالينوس أنَّ المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يُتفق فيه على طريق واحد والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق بين اثنين وقال بعض المتطببتن إنَّ العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص مكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدَّة القلق وكثرة الشَّهوة وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمنِّي ما لا يتمُّ حتَّى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربَّما قتل العاشق نفسه وربَّما مات غمّاً وربَّما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً وربَّما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنَّه قد مات فيقبرونه وهو حيٌّ وربَّما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضمُّ عليها القلب فلا ينفرج حتَّى يموت وربَّما ارتاح وتشوَّق للنَّظر أو رأى من يحبُّ فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحبُّ كيف يهرب ويستحيل لونه وإن كان الأمر يجري على ما ذكر فإنَّ زوال المكروه عمَّن هذه حاله لا سبيل إليه بتدبير الآدميين ولا شفاء له إلاَّ بلطف يقع له من رب العالمين وذلك أن المكروه العارض من سبب قائم منفرد بنفسه يتهيَّأ التَّلطُّف في إزالته بإزالة سببه فإذا وقع الشَّيئان وكل واحد منهما علَّة لصاحبه لم يكن إلى زوال واحدة منهما سبيل فإذا كانت السوداء سبباً لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سبباً لاحتراق الدم والصفراء وقلبها إلى تقوية السوداء كلما قويت قوَّت الفكر والفكر كلما قوي قوَّى السوداء وهذا هو الداء الَّذي يعجز عن معالجته الأطبَّاء وقد زعم بعض المتصوفين أن الله جل ثناؤه إنَّما امتحن النَّاس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه وليشق عليهم سخطه ويسرَّهم رضاؤه فيستدلّ بذلك على قدر طاعة الله عزَّ وجلّ إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئاً غير ممتنٍّ عليهم فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتَّبع رضاه والكلام في اعتبار ما حكيناه والإخبار عن جميعه بما يرضاه يكثر وربَّما استغني بالحكايات عن التَّصريح بالاختبارات ونحن إن شاء الله نذكر بعقب هذا الباب مبلغ الهوَى من قلوب ذوي الألباب ونصف مراتبه وتصرفه وازدياده وتمكنَّه ونخبَّر باقتداره على المقتدرين واستظهاره على المستظهرين وتلاعبه بقلوب المتفلسفين وتمالكه على خواطر المستسلمين.

قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.

وفي ذلك يقول محمد الوراق:

تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ … هذا محالٌ في القياسِ بديعُ

لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ … إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ

ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.

وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:

فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ … فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ

إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرّاً … فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ

ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.

وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:

تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي … فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ

تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ … ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ

ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.

أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:

وإنَّ امرءاً يهوِي إليكِ ودونهُ … منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ

لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ … وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ

ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقاً والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيماً وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئاً إلاَّ وجدته متكاملاً فيها.

وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:

وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي … مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ

أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً … حبّاً لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ

أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ … إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ

وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهداً … ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ

ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

أيا زاعماً أنِّي لهُ غيرُ خالصِ … وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ

كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصاً … تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ

فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ … عليَّ وطالبني إذاً بالنَّقائصِ

سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ … علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ

إلى أن أرَى شكلاً يصونُ مودَّتِي … فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ

أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ … رمانِي إذاً ربي بحتفٍ مُغافصِ

ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهاً والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالاً ولا يستوطن حالاً.

وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:

ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال … بؤسَ بؤساً ولا النَّعيمَ نعيماً

والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.

وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:

أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً … يرينَ لها فضلاً عليهنَّ بيِّنا

برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ … أُحاذرُ أسماعاً عليها وأعيُنا

فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي … إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا

وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى … أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا

أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى … فصادفَ قلبِي خالياً فتمكَّنا

ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.

وقد قال بعض أهل هذا العصر:

وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ … ثمانونَ بلْ تسعونَ نفساً وأرجحُ

يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ … ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ

وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حبِّكمُ … وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ

فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ … فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ

رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذباً … وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ

وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها … إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ

فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ … فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ

فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.

وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:

طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ … فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ

هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ … فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:

وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ … فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ

وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ … فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ … رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ

ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا … وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ

وقال أبو دلف:

الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي … والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي

سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ … وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ

وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفرداً … أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي

سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى … جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ

وقال آخر:

ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ … وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ

فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني … أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ

وقال آخر:

الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهاً … حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ

الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ … يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ

مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى … وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ

وقال النابغة الذبياني:

لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ … يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ

لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها … ولخالَهُ رشَداً وإنْ لمْ يرشدِ

أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائراً … وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ … وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ

ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ … وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ

وقال آخر:

أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً … لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ

ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ … لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي

وقال ماني:

مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى … تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى

يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ … يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى

يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتاً … ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى

تحسبهُ مُستمعاً ناصتاً … وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى

وقال غيره وهو مجنون بني عامر:

وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى … ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي

وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي … أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي

وقال آخر:

مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ … إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ

الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ … مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ

وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:

قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلاً … أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ

فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني … وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ

إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها … إذاً حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ

فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صبابَتي … وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ

أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:

مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي … مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها

كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ … وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها

وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:

مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني … لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها

أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى … مُقاربةً منها ونفسي تريدُها

وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله:

يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ … حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ

مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ … ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ

وهذا ضد قول أبي علي البصير:

لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ … كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ

وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:

إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخراً … هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا

لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ … وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى

هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو:

فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو … دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ

وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهاً … فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ

وللمجنون ما هو أقبح منه:

فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها … كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا

وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها … تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا

وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:

يقولونَ صبراً يا زيدُ إذا نأتْ … ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا

فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:

سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا … أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا

قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:

إذا ما سألتُكَ وعْداً تُريحُ … بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ

فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ … فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ

أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ … فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ

ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:

ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ … لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ

وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً … ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ

وأحسن الَّذي يقول:

وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى … علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ

فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ … فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ … وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا

ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ … تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا

وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:

خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما … قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي

فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها … ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي

وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:

عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى … أحاديثاً لقومٍ بعدَ قومِ

وعروةُ ماتَ موتاً مُستريحاً … وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ

وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:

أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها … أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا

وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها … مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا

أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها … أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا

وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ … فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا

وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:

ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ … هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبهِ

يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ … أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ

قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كرباً على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.

وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:

بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً … فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ

وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:

خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني … أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها

تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها … فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها

وقال أيضاً:

وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً … فأبرقُ مغشياً عليَّ مكانيا

وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما … يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا

تُطيلينَ ليَّاني وأنتِ مليَّةٌ … وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا

هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً … وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقيا

وقال أيضاً:

تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى … وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ

لياليَ ميٌّ موتةٌ ثمَّ نشرةٌ … لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ

وقال آخر:

يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ … فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها

فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها … أَأُبرئُها من دائها أمْ أزيدها

ولقد أحسن الطائي حيث يقول:

أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ … لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسادِ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:

دوائيَ مكروهي ودائي محبَّتي … فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ

فلا كمدٌ يبلى ولا لكِ رحمةٌ … ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ

وقال علي بن محمد العلوي:

كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها … قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظرِ

ولَّى بأوطاري ولستُ أرى … عيشاً يُهشُّ لهُ بلا وطرِ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

نازعني من طرفهِ الوَحْيا … وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا

جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ … أماتَ عن ذا وبِذا أحيى

وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع:

وأتاني مُفحمٌ بغرَّتهِ … قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما

تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ … فما قالَ لا ولا نعما

ثمَّ تولَّى بمُقلتيْ خجلٍ … أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما

فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءاً … من السُّقمِ فابتدا سقما

وقال آخر:

تأمَّلتُها مُغترَّةً فكأنَّما … رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلعا

إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتُها … من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا

وقال آخر:

تمنَّيتُ من أهوى فلمَّا لقيتُهُ … بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِساناً ولا طرفا

فأغضيتُ إجلالاً لهُ ومهابةً … وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه:

ولمَّا بدتْ بينَ الوُشاةِ كأنَّها … عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقتلُ

أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحبي … لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ

وقال آخر:

أيُّها النَّائمون حولي هنيئاً … هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليّاً

منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظاً … وليكنْ من جليسه سامريّاً

وقال مسلم بن الوليد:

أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي … ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْلي

فما حزَني أنِّي أموتُ صبابةً … ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلي

أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبها … دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي

أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندها … مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والمطْلِ

وما نلتُ منها طائلاً غيرَ أنَّني … بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي

بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ … إليها تزيدُ القلبَ خبلاً علَى خبْلِ

وقال أيضاً:

عرفتُ بها الأشجانَ وهيَ خليَّةٌ … من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ

أراها فأطوي للنَّصيحِ عداوةً … وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ

فلا سيَّما العُذَّالَ فيها ملامهُمْ … ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولي عذرُ

شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعاً بحبِّها … متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ

ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلها … فأذْكتْ غليلاً ما لديها بهِ خُبرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

إذا كان اللِّقاءُ يزيدُ شوقاً … وكان فراقُ من أهوى يشوقُ

فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تمادى … عتابُكَ في الهوَى أبداً طريقُ

ومنْ يكُ ذا سقامٍ إنْ تداوى … تزايدَ سُقمهُ فمتى يُفيقُ

وله أيضاً:

إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقاً … تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ

وروَّاني بعينيهِ مُداماً … تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ

فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقماً … ونأيٌ لا يقومُ لهُ قِوامُ

فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ … إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ

وله أيضاً:

أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بها … فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي

فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعشهُ … ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّاءِ

أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابتهِ … بطبِّكمْ ودوائي عندكمْ دائي

وله أيضاً:

متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي … إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي

فهيهاتَ ما هذا علَى ذا يقلع … أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي

وقال آخر:

ومُختلسٍ باللَّحظِ ما لا ينالهُ … قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتباعدِ

وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ … إذا كانَ ممنوعاً سبيلَ المواردِ

وقال آخر:

خليليَّ أضحتْ حاجةٌ لأخيكُما … بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُها

فكيفَ طِلابي حاجةً لا ينالُها … بريدي ولا يجري إليَّ بريدُها

فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبدِ أن ترى … حياضَ القِرى من دونها من يذودها

وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بالبُكا … ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها

وقال مجنون بني عامر:

تداويتُ من ليلى بليلى من الهوَى … كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ

ألا زعمَتْ ليلى بأنْ لا أُحبُّها … بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوترِ

إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبي لِذكرها … كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ

وقال البحتري:

سقى الله أخلاقاً من الدَّهر رطبةً … سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ

ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بعدما … أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفرقُ

تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى … بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ

وقال جميل:

فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلها … وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ

عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْتني … وقتلي بما قالت هناكَ تُحاولُ

فقلتُ لها جودي فقالتْ مُجيبةً … ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ هازلُ

لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنا بكمْ … عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتطاولُ

والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس:

وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربي … بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل

وقال بشار بن برد:

مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى … وفيها دواءٌ للعُيونِ وداءُ

عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ وليلةٍ … وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عناءُ

وقال عبيد بني حسحاس:

تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعا … وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانيا

يعُدنَ مريضاً هنَّ هيَّجنَ داءهُ … ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا

وقال آخر:

كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قدْ رقدوا … خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ

فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بهِ … ولا ظفرتَ ولا نالتْ يديكَ يدُ

وقال آخر:

إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُرهمْ … همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا

لا تطلُبنَّ حياةً عند غيرهم … فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّاكا

فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول:

ولمَّا أبى إلاَّ جِماحاً فُؤادهُ … ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل

تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّتي … تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي

وضد الَّذي يقول:

تسلَّيتُ عن ذكرِ الحبيبِ بغيرهِ … ومِلتُ إليهِ بالمودَّةِ والذِّكرِ

فما زادني إلاَّ اشتياقاً وحُرقةً … إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صبري

وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكلْتها … بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ

فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالباً … سُلوّاً فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالجمرِ

وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.

وقال عبيد الراعي:

بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ … وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا

خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا … قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا

أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ … علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا

وقال علي بن الجهم:

عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ … جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري

أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ … سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمرِ

وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما … تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري

فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ … ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري

وقال آخر:

وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضاً … فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ

فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ … فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ

وقال أبو صخر الهذلي:

وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها … بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ

فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً … فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ

وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ … كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ

وقال آخر:

وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ … بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها

وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها … أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها

تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها … وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها

أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل: )وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء( فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى: )قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ( فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.

قال أنو شروان لبزرجمهر متى يكون العييُّ بليغاً فقال إذا وصف هوًى أو حبيباً وقيل لبعض أهل هذا العصر متى يكون البليغ عييّاً فقال إذا سئل عمَّا يتمنَّاه أو شكا ما به إلى من يهواه وقال:

ما يعلمُ الله أنِّي مذْ هويتكمُ … أطيقُ إظهارَ ما ألقاهُ باللَّفظِ

كمْ قدْ تحفَّظتهُ حتَّى إذا نظرتْ … عينِي إليكِ أزالتْ هَيْبتي حِفظِي

وقال بعض الأدباء في مثل ذلك:

أُفكِّرُ ما أقولُ إذا الْتقينا … وأُحكمُ دائباً حُججَ المقالِ

فترتعدُ الفرائصُ حينَ تبدُو … وأنطقُ حينَ أنطقُ بالمحالِ

وقال آخر:

أتيتُ معَ الحدَّاثِ ليلَى فلمْ أقلْ … وأخليتُ فاستعجمتُ عندَ خلائِي

وجئتُ فلمْ أنطقْ وعدتُ فلمْ أحِرْ … جواباً كلاَ اليومينِ يومُ عنائِي

فيا عجباً ما أشبهَ اليأْسَ بالغِنَى … وإنْ لمْ يكونا عندنا بسواءِ

وهذا المعنى الَّذي ذكره ليس بمستنكر قد تمنع المحبّ هيبة المحبوب من النيل الَّذي هو اللُّطف من الشَّكوى محلاً في القلوب ألم تسمع الَّذي يقول:

محبٌّ قالَ مُكتتماً مُناهُ … وأسعدهُ الحبيبُ علَى هواهُ

أضاعَ الخوفُ أنفسَ ما يُعانِي … وما عذرَ المُضيعَ لما عَناهُ

فأصبحَ لا يلومُ بما جناهُ … منَ التَّفريطِ إنساناً سواهُ

أسرَّ ندامةَ الكُسَعيِّ لمَّا … رأتْ عيناهُ ما صنعتْ يداهُ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:

وإنِّي لأخشَى أنْ أموتَ فُجاءةً … وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليكِ كمَا هيَا

وإنِّي ليُنْسيني لقاؤكِ كلَّما … لقيتكِ يوماً أنِي أبثَّكِ ما بيَا

وقالُوا بهِ داءٌ عياءٌ أصابهُ … وقدْ علمتْ نفسِي مكانَ دوائيَا

فهذا يخبرُ أنَّ لقاءها هو الَّذي يمنعهُ من شكوى ما يجده إلاَّ أنَّه يشفق من ضرره على نفسه ولا يُبقي بكتمانه على غيره على أنَّه قد قصَّر عنه كثير من أهل هذا العلم في قوله: إنَّ لقاءها يحدث في قلبه حالاً لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه إذ لو كان الهوَى قد استوفى منه حقَّه وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئاً ولا ينقصه.

كما قال يزيد بن الطثرية:

ولمَّا تناهَى الحبُّ في القلبِ وارداً … أقامَ وسُدَّتْ بعدُ عنهُ مصادرهْ

فأيُّ طبيبٍ يُبرئُ الحبَّ بعدَما … يسرُّ بهِ بطنُ الفؤادِ وظاهرهْ

وكما قال ذو الرمة:

ومَا زلتُ أطوي الشَّوقَ عنْ أمِّ خالدٍ … وجاراتِها حتَّى كأنْ لا أُريدُها

فما زالَ يَنمِي حبُّ ميَّة عندنا … ويزدادُ حتَّى لمْ نجدْ ما نزيدُها

ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:

إذا أزهدَتْني في الهوَى خِيفةُ الرَّدى … جلتْ ليَ عنْ وجهٍ يُزهِّدُ في الزُّهدِ

فلا دمعَ ما لمْ يبدُ في إثرهِ دمٌ … ولا وجدَ ما لمْ تعيَ عنْ صفةِ الوجدِ

وأحسن علي بن محمد العلوي الكوفي حيث يقول:

قالتْ عَييتَ عنِ الشَّكوى فقلتُ لها … جهدُ الشَّكايةِ أنْ أعيَا عنِ الكلمِ

أشكُو إلى اللهِ قلباً لو كَحلتُ بهِ … عينيكِ لاختضبتْ منْ حرِّهِ بدمِ

لا تُبرِمي فاقدَ الدُّنيا وبهجتَها … وما يسرُّ بهِ منها بلا ولَمِ

على أنَّه من طلب لآدميٍّ مثله بما لم يطالب الله عباده فأخلق بأن يكون ظالماً وقد مدح الله تبارك وتعالى قوماً فقال: )الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قلوبهمْ وإذا تُليتْ عليهمْ آياتهُ زادتهمْ إيماناً( فلم يعبهم تعالى بأن كان ذكره بحضرتهم وظهراً عليهم ما لم يمكن قبل موجوداً منهم ومن أحسن ما قيل وأعرفُ من الشِّعر في هذا المعنى:

تفديكِ نفسِي لستُ أدرِي أيُّما … أيَّامكمْ مِن أيِّها أشجاهَا

في حبِّكمْ شغلٌ لقلبِي شاغلٌ … عن كلِّ نائبةٍ يخافَ رَداها

ومن جيد ما قيل في نحو الفصل الأول:

جعلتُكَ دنيائِي فإنْ أنتَ لم تجُدْ … عليَّ بوصلٍ فالسَّلامُ علَى الدُّنيا

كتمتُكَ ما ألقَى لأنَّكَ مُهجتي … أخافُ عليها أنْ تذوبَ منَ الشَّكوَى

ولبعض أهل هذا الزَّمان في هذا المعنى:

بحُرمةِ هذا الشَّهرِ لما نعَّشتَني … بعفوكَ إنِّي قدْ عجزتُ عنِ العذرِ

فلوْ كنتَ تدرِي ما أُلاقِي منَ الهوَى … لساءَكَ ما ألقَى فليتكَ لا تدرِي

لأشقَى بما ألقَى وتبقَى منعَّماً … خليّاً ونارُ الشَّوقِ تُسعرُ في صدرِي

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير عن أبي العتاهية:

مَنْ لعبدٍ أذلَّهُ مولاهُ … ما لهُ شافعٍ إليهِ سواهُ

يشتكي ما بهِ إليهِ ويخشَا … هُ ويرجوهُ مثلَ ما يخشاهُ

وهذه حال منقوضة لأنَّ من منعه من شكوى ما يلقاه إشفاقه من موجدة من يهواه فإنما أبقى على نفسه ومن امتنع من ذلك إشفاقاً على قلب صاحبه فقد اعترض على وجده التَّصنُّع إذ فعل ما يقدر على تركه.

وقال آخر:

الجسمُ ينقصُ والسَّقامُ يزيدُ … والدَّارُ دانيةٌ وأنتَ بعيدُ

أشكوكَ أمْ أشكُو إليكَ فإنَّهُ … لا يستطيعُ سواهُما المجهودُ

وقال الحسن بن هانئ:

لا والَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ … ما خانَ أحبابُنا وما تاهُوا

ما علمُوا بالَّذي يجنُّ لهمْ … منْ طولِ شوقٍ ولا درَوْا ما هوَ

وللفتح بن خاقان:

قدرتُ علَى نفسِي فأزمعتَ قتلَها … علَى غيرِ جدٍّ منكَ والنَّفسُ تذهبُ

كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها … ورودَ حياضِ الموتِ والطِّفلُ يلعبُ

وقال الحسين بن الضحاك:

أيَا مَنْ طرفهُ سحرُ ويَا مَن ريقهُ خمرُ … تجاسرتُ فكاشفتُكَ لمَّا غلبَ الصَّبرُ

وما أحسنَ في مثلكَ إنْ ينهتكَ السِّترُ … فإنْ عنَّفنِي النَّاسُ ففي وجهكَ لي عُذرُ

وقال أيضاً:

إنَّ منْ أطولِ ليلٍ أمداً … ليلَ مشتاقٍ تَصابَى فكتمْ

ربَّ فظِّ القلبِ لا لِينَ لهُ … لوْ رأَى ما بكَ منهُ لرحمْ

وقال أيضاً:

أُكاتمُ وجدِي وما ينكتمْ … فمنْ لوْ شُكيتُ إليهِ رحِمْ

وإنِّي علَى حسنِ ظنِّي بهِ … لأحذرُ إنْ بُحتُ أنْ يحتشمْ

وقدْ علمَ النَّاسُ أنِّي لهُ … محبٌّ وأحسبهُ قدْ علمْ

ولِي عندَ رؤيتهِ نظرةٌ … تُحقِّقُ ما ظنَّهُ المتَّهمْ

وقال المجنون:

فأنتَ الَّذي إنْ شئتَ أشقيتَ عيشِي … وإنْ شئتَ بعدَ اللهِ أنعمتَ لياليَا

وأنتَ الَّذي ما مِنْ صديقٍ ولا عِدا … رأَى نِضوَ ما أبقيتَ إلاَّ رثَا ليَا

وقال أبو نواس:

قالتْ ظَلومُ سَميَّةُ الظُّلمِ … ما لِي رأيتكَ ناحلَ الجسمِ

يا مَنْ رمَى قلبِي فأقصدَهُ … أنتَ الخبيرُ بموقعِ السَّهمِ

وقال أبو تمام:

واللهِ لوْ تلقَى الَّذي ألقَى … لحرجتَ أنْ تتجاوزَ الحقَّا

بي فوقَ ما تلقَى بواحِدِها … أمٌّ تراهُ لجنبهِ مُلقَى

وقال أبو صخر الهذلي:

بيدِ الَّذي شغفَ الفؤادَ بكمْ … تفريجُ ما ألقَى منَ الهمِّ

ما في الحياةِ إذا هيبت لنا … خيرٌ ولا للعيشِ مِن طعمِ

ولمَا بقيتِ لَتُبقينَّ جوًى … بينَ الجوانحِ مُضرِعاً جسمي

فتيقَّنِي أنْ قدْ كلفتُ بكمْ … ثمَّ اصنَعِي ما شئتِ عن علمِ

وقال خليفة بن روح الأسدي:

قِفي يا أُميمَ القلبِ نقرأ تحيَّةً … ونشكو الهوَى ثمَّ اصنعي ما بدَا لكِ

فلوْ قلتِ طَأْ في النَّارِ أعلمُ أنَّه … هوًى لكِ أو مُدنٍ لنا مِن وصالكِ

لقدَّمتُ رِجلي نحوَها فوطئْتُها … هُدًى منكِ لي أو هفوةً مِن ضلالكِ

فلا تجْعَلِيني كامرئٍ إنْ وصلتهِ … أشاعَ وإنْ صرَّمتهِ لمْ يُبالكِ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

قالتْ لقيتَ الَّذي لمْ يلقهُ أحدٌ … قلتُ الدَّليلُ علَى ذاكَ الَّذي أجدُ

أودَعْتِني سقماً لا أستقلُّ بهِ … فليسَ ينفدُ حتَّى ينفدَ الأبدُ

وقال مضرس بن بطر الهلالي:

وكادتْ بلادُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ … بما رحُبتْ يوماً عليَّ تضيقُ

أذودُ سوادَ الطَّرفِ عنكِ وما لهُ … إلى أحدٍ إلاَّ إليكِ طريقُ

ولوْ تعلَمينَ العلمَ أيقنتِ أنَّني … وربِّ الهدايا المُشعَراتِ صديقُ

سلِي هلْ قلانِي مِن عشيرٍ صحِبتهُ … وهلْ ذمَّ رَحْلي في الرِّفاقِ رفيقُ

وأنشدني آخر:

أمسيتُ لَعَّاباً وأمسَى الهوَى … يلعبُ في رُوحي وجثمانِي

أُشفقُ إنْ بُحنا وإنْ لمْ أبحْ … فالموتُ في سرِّي وإعلانِي

وأنشدني أبو الضياء لنفسه:

أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ … واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ

لا ذقتَ ما ذاقهُ مَن أنتَ مالكهُ … ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ

أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ … والعينُ تُعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ

فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهما … فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ

وقال أبو المنهال الأشجعي:

يا أُمَّ عمروٍ وخيرُ القولِ أصدقهُ … أوْفي وأنتِ منَ المُوفينَ بالذِّممِ

أوْفِي وفاءَ كريمٍ ذِي محافظةٍ … وإنْ أبَيتِ تقاضيْنَا إلى حكمِ

عدلٍ منَ النَّاسِ يُرضِي حينَ يبلغهُ … أنْ كانَ حبلكِ أمسَى واهيَ الرِّممِ

فأعرَضَتْ ثمَّ قالتْ وهيَ لاهيةٌ … بعدَ التَّغضُّبِ قولَ المؤسفِ الأطِمِ

إنْ تدعُ لي حكَماً عدلاً أُحكِّمهُ … أنطِقْ لديهِ بلا عيٍّ ولا بكَمِ

منِّي بأرضكِ شجوٌ لستُ ناسيهِ … لوْ بالحجازِ هوَى أيَّامكِ القدُمِ

وكتب عبد الله بن الدمينة إلى أمامة:

وأنتِ الَّتي كلَّفتِني دلَجَ السُّرَى … وجونُ القطَا بالجَلْهتينِ جثومُ

وأنتِ الَّتي قطَّعتِ قلبِي حزازةً … وفرَّقتِ قرحَ القلبِ فهوَ كليمُ

وأنتِ الَّتي أحفظتِ قومِي فكلُّهمْ … بعيدُ الرِّضا دانِي الصُّدودِ كتومُ

وكتبت إليه:

وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَنِي … وأشمتَّ بِي مَن كانَ فيكَ يلومُ

وأبرزْتَنِي للنَّاسِ ثمَّ تركْتَنِي … لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سليمُ

فلوْ أنَّ قولاً يكلِمُ الجسمَ قدْ بدا … بجسميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كلومُ

وكتب بعض أهل الأدب إلى أخ له من أهل هذا العصر:

سيِّدي أنتَ قدْ أسأْتَ بقولِي … سيِّدي أنتَ فارضَ عبدَكَ عبْدا

لا تلقَّى الدُّعاءَ منِّي بنكرٍ … فتُرى قاتلاً لنفسيَ عمدَا

فأجابه:

أنا بالرِّقِّ في الهوَى منكَ أولَى … وأرَى ذاكَ يشهدُ اللهُ مجدَا

علمَ اللهُ أنَّني منكَ راضٍ … أنْ ترانِي لعيدِ عبدِكَ عبدَا

وقال آخر:

يا مُوقدَ النَّارِ إلهاباً علَى كبدِي … إليكَ أشكُو الَّذي بِي لا إلى أحدِ

إليكَ أشكُو الَّذي بِي مِن هواكَ فقدْ … طلبتُ غيركَ للشَّكوَى فلم أجِدِ

وقال بعض الأعراب:

إذا لمتَها قالتْ عديمٌ وإنَّما … صمتَّ فما جرَّبتَ جُوداً ولا بخلا

بلَى قلتُ هلْ ثمَّ انصرفتْ ولمْ تعدْ … فتستنكِرَ الإعراضَ أوْ تعرفَ البذْلا

أمَّا هذه فقد قرعت صاحبها على تركه تقاضيها تقريعاً يُغري المغترّين بشكوى كل ما يجدونه وبالإلحاح على من يودُّونه في المطالبة بجميع ما يريدونه وهذه حال من تحكَّم على مواردها تحكَّمت عليه مصادرها فيندم حيث لا تنفعه الندامة وهرب إلى حيث لا تنفعه السلامة وكيف يتهيَّأ للنَّادم على إظهار ما في ضميره أن يخفيه بعد إظهاره وقد كان جديراً أن يظهر منه بغلبات الحال في وقت حرصه على أسراره والمحبوب كثيراً ما يُطمع محبُّه في نفسه هذا الإطماع أو نحوه ليطَّلع على حقيقة ما في ضميره وقلبه فإذا وثق بصحَّة الملك زالت عنه دواعي الشك فتراخى حينئذ عن الاستعطاف تراخي المالكين وحصلت للنَّاسي المُظهر ما في ضميره ذلَّة المملوكين ولم أجد فيما جريت إليه في هذا الفصل بأرزأ مني على من أظهر إلفه على ما يجد من المحبَّة وإنَّما جريت إلى عيب من يدعوه إلى إظهار ما في نفسه رجاء النَّوال من صاحبه ولعمري لقد قال حبيب بن أوس في هذا الباب ما يقرب من جهة الصواب وهو قوله:

يا سقيمَ الجفونِ غيرَ سقيمِ … ومريبَ الألحاظِ غيرَ مريبِ

إنَّ قلبي لكمْ لكالكبدِ الحرَّ … ى وقلبي لغيركمْ كالقلوبِ

لستُ أُدلي بحرمةٍ مستزيداً … في ودادٍ منكمْ ولا في نصيبِ

غيرَ أنَّ العليلَ ليس بمذمو … مٍ علَى شرحِ ما بهِ للطَّبيبِ

لوْ رأيْنَا التَّوكيدَ خطَّةَ عجزٍ … ما شفعْنا الأذانَ بالتَّثويبِ

وهذا الَّذي وصف أيضاً من الحال غير مستوعب لحد الكمال وذلك أن الكامل في حاله هو الَّذي كان غرضه في إظهار إلفه على كل ما يُلقى به أن يجعله مشاركاً له في علم ضمائره ومتحكِّماً معه لا بل عليه في سرائره فلا يتحكَّم هو حينئذ على خليله في أمرٍ ولا يستظهر عليه بسرٍّ وكلُّ من زال عن هذه الحال فزائلٌ عن مرتبة الكمال.

أشعار هذا الباب من أولها إلى آخرها مضادَّة للأشعار الَّتي قبلها لأنَّ في أشعار الباب الماضي تحريضاً للمحبِّ على إظهار محبوبه على ما له في نفسه ولوماً لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه وأشعار هذا الباب إنَّما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان والعلَّة في هذا ما قدَّمنا ذكره من أنَّ المحبوب يستعطف محبَّه ليشرف على حقيقة ما في قلبه وليتمكَّن أيضاً هواه من نفسه فإذا وقع له اليقين استغنى عن التعرُّف وإذا حصل له الودُّ استغنى عن التَّألُّف فحينئذ يقع الغضب عن غير ذنب والإعراض من غير وجدٍ لسكون القلب الواثق واستظهار المعشوق على العاشق.

قال بشار بن برد:

أبكِي الَّذي أذاقُونِي مودَّتهمْ … حتَّى إذا أيقَظُونِي للهوَى رقَدُوا

واسْتنهَضُوني فلمَّا قمتُ منتصباً … بثقلِ ما حمَّلونِي ودَّهمْ قعدُوا

لأخرجنَّ من الدُّنيا وحبُّكمُ … بينَ الجوانحِ لمْ يشعرْ بهِ أحدُ

ألقيتُ بينِي وبينَ الحزنِ معرفةً … لا تنقضِي أبداً أوْ ينقضِي الأبدُ

وقال طلحة بن أبي بكر:

لا تُظهرنَّ مودَّةً لحبيبِ … فترَى بعينيكَ منهُ كلَّ عجيبِ

أظهرتُ يوماً للحبيبِ مودَّتِي … فأخذتُ منْ هجرانهِ بنصيبِ

وقال جميل بن معمر:

إذا قلتُ ما بِي يا بثينةُ قاتلِي … منَ الحبِّ قالتْ ثابتٌ ويزيدُ

وإنْ قلتُ رُدِّي بعضَ عقلِي أعِشْ بهِ … معَ النَّاسِ قالتْ ذاكَ منكَ بعيدُ

فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالباً … ولا حبُّها فيما يبيدُ يَبيدُ

إذا فكَّرتْ قالتْ قدْ أدركتُ ودَّهُ … وما ضرَّني بُخلِي ففيمَ أجودُ

يموتُ الهوَى منِّي إذا ما لقيتُها … ويحيَى إذا فارقتُها فيعودُ

وقال ذو الرمة:

ولمَّا شكوتُ الحبَّ كيْما تُثيبَنِي … بوجدِي قالتْ إنَّما أنتَ تمزحُ

دلالاً وإبعاداً عليَّ وقد أرَى … ضميرَ الحشَى قدْ كادَ بالقلبِ ينزحُ

وقال آخر:

ولمَّا شكوتُ الحبَّ قالتْ أمَا ترَى … مكانَ الثُّريَّا وهو منكَ بعيدُ

فقلتُ لها إنَّ الثُّريَّا وإنْ نأتْ … يصوبُ مراراً نوْؤُها فيجودُ

وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:

شكوتُ إليها الحبَّ قالتْ كَذَبْتني … ألستُ أرَى الأجلادَ منكَ كواسِيا

رُويدكَ حتَّى يبتلِي الشَّوقُ والهوَى … عظامكَ حتَّى يرتجعنَ بَوادِيا

ويأخذكَ الوسواسُ مِنْ لوعةِ الهوَى … وتخرسَ حتَّى لا تُجيبُ المنادِيا

وقال آخر:

أحينَ ملكْتِنِي أعرضتِ عنِّي … كأنّي قد قتلتُ لكمْ قتيلا

فهلاَّ إذ هممتِ بصرمِ حبلِي … جعلتِ إلى التَّصبُّرِ لي سبيلا

وقال آخر:

أطعَمَتْني فقلتُ أخذاً بكفِّي … ثمَّ عادتْ مِنْ بعدِ ذاكَ بخُلفِ

زعمتْ أنَّها تريدُ عفافاً … قلتُ ردِّي عليَّ قلبِي وعفِّي

وقال العباس بن الأحنف:

يا ويحَ مَن ختلَ الأحبَّةَ قلبهُ … حتَّى إذا ظفِروا بهِ قتلوهُ

عزُّوا ومالَ بهِ الهوَى فأذلَّهُ … إنَّ العزيزَ علَى الذَّليلِ يتيهُ

أُنظرْ إلى جسدٍ أضرَّ به الهوَى … لولا تقلُّبُ طرفهِ دفنوهُ

مَنْ كانَ خِلواً مِنْ تباريحِ الهوَى … فأنا الهوَى وحليفهُ وأخوهُ

وقال أيضاً:

أحرَمُ منكمْ بما أقولُ وقدْ … نالَ بهِ العاشقونَ ما عشِقُوا

صرتُ كأنِّي ذُبالةٌ نُصبتْ … تُضيءُ للنَّاسِ وهيَ تحترقُ

وأنشدنا أحمد بن يحيى الشيباني:

وما أنصفتْ ذَلفاءُ أمَّا دنوُّها … فهجرٌ وأمَّا نأْيُها فيشوقُ

تباعدُ ممَّنْ واصلتْ وكأنَّها … لآخرَ ممَّنْ لا تودُّ صديقُ

وقال آخر:

وما أنصفتْ أمَّا النِّساءُ فبغَّضتْ … إلينا وأمَّا بالنَّوالِ فضنَّتِ

دعتْنِي بأسبابَ الهوَى فاتَّبعتُها … حنيناً فلمَّا أقصدَتْنِي تولَّتِ

وقال المجنون:

أأدْنَيْتِني حتَّى إذا ما ملكتِنِي … بقولٍ يُحلُّ العُصْمَ سهلَ الأباطحِ

تجافيتِ عنِّي حينَ لا لي حيلةٌ … وخلَّفتِ ما خلَّفتِ بينَ الجوانحِ

وقال آخر:

دنتْ فعلَ ذِي ودٍّ فلمَّا تبعتُها … تولَّتْ وأبقتْ حاجتِي في فؤادِيا

فإنْ قلتمُ إنَّا ظَلمنْا فلمْ نكنْ … ظَلمنَا ولكنَّا أسأْنا التَّقاضيا

وقال ذو الرمة:

وتهجرهُ إلاَّ اختلاساً نهارَها … وكمْ منْ محبٍّ رهبةَ العينِ هاجرِ

إذا خشِيتْ منهُ الصَّريمةُ أبرقتْ … له برقَةً من خلَّبٍ غيرِ ماطرِ

وقال المجنون:

لعمرُ أبيهَا إنَّها لبخيلةٌ … ومِنْ قولِ واشٍ إنَّها لغضوبُ

رَمَتْني عنْ قوسِ العداوةِ إنَّها … إذا ما رأتْنِي مُعرضاً لخلُوبُ

وقال أبو ذهيل:

أبعدَ الَّذي قدْ لجَّ تتَّخذيننِي … عدوّاً وقدْ جرَّعتنِي السُّمَّ مُنْقعا

وشفَّعتِ مَن ينعَى عليَّ ولمْ أكنْ … لأُرجعَ من ينعَى عليكِ مُشفَّعا

فقالتْ وما همَّتْ برجعِ جوابِنا … بلْ أنتَ أبيتَ الدَّهرَ إلاَّ تضرُّعا

فقلتُ لها ما كنتُ أوَّلَ ذِي هوًى … تحمَّلَ حِملاً فادحاً فتوجَّعا

وقال آخر:

وقالتْ وصدَّتْ وجهَها لتغيظَنِي … أبِالصَّدِّ تُجزَى أمْ علَى الذَّنبِ توصلُ

فقلتُ متى أذنبتُ قالتْ تريدهُ … فقلتُ فلمْ أفعل فقالتْ ستفعلُ

فقلتُ وهلْ أُجزَى بذنبٍ لمْ آتهِ … ولكنْ ظفرتمْ بالمحبِّينَ فاقْتُلوا

وقال آخر:

شكوتُ فقالتْ كلُّ هذا تبرُّماً … بحبِّي أراحَ اللهُ قلبكَ مِن حبِّي

فلمَّا كتمتُ الحبَّ قالتْ لشدَّ مَا … صبرتَ وما هذا بفعلِ شَجِي القلبِ

فشكوايَ تُؤذيها وعَتْبي يسوؤُها … وتغضبُ مِن بعدِي وتنفرُ مِن قربِي

فيا قومِ هلْ منْ حيلةٍ تعرِفونَها … أشِيروا بِها واستوجبُوا الأجرَ في الصَّبِّ

وأنشدني أعرابي بنجد:

ذكرتكِ إذا نامَ الخليُّ ولمْ أنمْ … وإذْ أنتِ في شغلٍ بلهوكِ عنْ ذكرِي

وإذْ أنتِ تثنينَ الكَعابَ بقصرهِ … وقلبِي لهُ لذعٌ أحرُّ منَ الجمرِ

فإنْ أنا لمْ أشكُو الهوَى قلتِ قدْ صحَا … وإنْ بحتُ فيهِ خفتِ أنْ يعلَمُوا أمرِي

وليسَ خليلِي بالمُرجَّى ولا الَّذي … إذا غبتُ عنهُ كانَ عوناً علَى الدَّهرِ

ولكنْ خليلِي مَن يصونُ مودَّتِي … ويحفظُنِي إنْ كانَ مِن دونِ البحرِ

وأنشدني أحمد بن طاهر لنفسه:

ذهبتِ علَى صبٍّ شكَا ألمَ الهوَى … كما ذهبتْ أرضٌ وَطئتِ ترابَها

وكانَ يُرجِّي نفعَ شكواهُ إذْ شكَا … إليكِ فقدْ أمسَى يخافُ عقابَها

وقال المؤمل:

شكوتُ وجدِي إلى هندٍ فما اكترثتْ … يا قلبَها أحديدٌ أنتَ أمْ حجرُ

إذا مرِضْنا أتيناكمْ نعودكمُ … وتذنِبونَ فنأتيكمْ فنعتذرُ

وبلغني أنَّ عبد الملك بن مروان جلس يوماً للنظر في المظالم فرُفعت إليه قصةٌ منسوبة إلى عمرو بن حارث وكان فيها:

عَلِقتُ بأسبابِ المودَّةِ والهوَى … فلمَّا حوتْ قلبِي ثنتْ بصدودِ

فلوْ شئتَ يا ذا العرشِ حينَ خلقْتَني … شقِيّاً بمنْ أهواهُ غيرَ سعيدِ

عطفتْ عليَّ القلبَ منها برحمةٍ … وإنْ كانَ قلباً مِنْ صفاً وحديدِ

فقلْ يا أميرَ المؤمنينَ فإنَّما … تُحكَّمُ والأحكامُ ذاتُ حدودِ

فلمَّا قرأها عبد الملك قلبها ثمَّ وقَّع في ظهرِها:

أرَى الجَورَ منها ظاهراً يا ابنَ حارثٍ … وما رأيُها فيما أتتْ برشيدِ

أمِنْ بعدِ ما صادتْ فؤادكَ واحتوت … عليهِ ثنتْ وجهَ الهوَى بصدودِ

فإنْ هيَ لمْ ترحمْ بكاكَ ولا حنَتْ … عليكَ فما منكَ الرَّدى ببعيدِ

سأَقضِي عليها أنْ تُجازِي بودِّها … أخَا صبوةٍ جارتْ عليهِ وَدودِ

ولبعض أهل هذا العصر:

مَنْ لي بعطفِ أخٍ خلَّى الإخاءَ ورَا … ظهرٍ ومِن ثمَّ مارَى الرُّوحَ في اللَّطَفِ

حتَّى يصيِّرَها إنْ خُيِّرتْ تلَفاً … وفُرقةً منهُ لمْ تخترْ سوَى التَّلفِ

أغريتَ بيني وبينَ الدَّهرِ فاحتشدتْ … بيَ الخطوبُ احتشادَ المُحنَقِ الأسِفِ

حتَّى إذا أنِسَتْ نفسِي بأنَّكَ لي … واستعذبَتْ طيبَ ذاكَ المشربِ الأُنُفِ

أمْكنتَ منِّي اللَّيالي فانتصفنَ ومَنْ … يُظلَمْ ويُمكنْ مِنَ الإنصافِ ينتصفِ

يا قلبُ وصفكَ يُغرِي مَن كلفتَ بهِ … فاكْمِدْ بكتمانِ ما تلقَى ولا تصفِ

إنْ كنتَ لمْ تشجَ بالكتمانِ فاشجَ بهِ … أوْ كنتَ لمْ تعترفْ بالصَّرمِ فاعترفِ

قلْ للَّيالي مَلَكتِ الحكمُ فاحتَكِمِي … وللمصائبِ قدْ مُكِّنتِ فانتصفِي

وله أيضاً:

يا مُنيةَ القلبِ لوْ آمالهُ انفسحتْ … وحظَّ نفسيَ مِنْ دينِي ودُنيائِي

قلْ لِي تناسيتَ أمْ أُنسيتَ أُلفَتَنا … أيَّامَ رأْيكَ فينا غيرُ ذا الرَّائِي

كانتْ لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ … فاستجمعَتْ مُذْ رأتكَ العينُ أهوائِي

فصارَ يحسدُنِي مَن كنتُ أحسدهُ … وصرتُ مولَى الورَى مذْ صِرتَ مولائِي

حتَّى إذا استيأَسَ الحسَّادُ مِن دَرَكي … وقلَّ أعدائيَ مذْ قلَلَتْ أكْفائِي

حَمَيتَ طعمَ الكرَى عينيَّ فاهتجرا … فصارَ طِيبُ الكرَى مِن بعضِ أعدائِي

مَن خانَ هانَ وقلبِي رائدٌ أبداً … مَيلاً إليكَ علَى هجرِي وإقصائِي

لا بدَّ لي منكَ فاصنعْ ما بدَا لكَ بي … فقدْ قدرتَ علَى قتلِي وإحيائِي

وأنشدني محمد بن الخطاب:

علَّمتنِي الإصدارَ والإيرادا … فارْفِقي بِي فقدْ ملكتِ القيادا

لا تقولِي إذا نأيتُ سلاَ عنَّ … ا وإن زُرتكمْ أرادَ البعادا

علِّميني الدُّنوَّ منكِ إذا شئ … تِ وعنكِ البعادَ ألْقَ الرَّشادا

وقال الأعشى:

دارٌ لقاتلةِ الغُرانقِ ما بِها … إلاَّ الوحوشُ خلتْ لهُ وخلا لَها

ظلَّتْ تُسائلُ بالمتيَّمِ أهلهُ … وهيَ الَّتي فعلتْ بهِ أفعالَها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

دارُ الَّتي صادتْ فؤادكَ إذْ رمتْ … بالخَيفِ يومَ التفَّ أهلُ الموسمِ

فتجاهلتْ عمَّا بِنا ولقدْ رأتْ … أنْ قدْ تخلَّلتِ الفؤادَ بأسهمِ

أرسلتُ جاريَتِي فقلتُ لها اذْهبِي … فاشْكِي إليها ما لقيتُ وسلِّمِي

قولِي يقولُ تخوَّفِي في عاشقٍ … صبٍّ بكمْ حتَّى المماتِ متيَّمِ

ويقولُ إنِّي قدْ علمتُ بأنَّكمْ … أصبحتمُ يا بِشرُ أوجهَ ذِي دمِ

فتبسَّمتْ عُجباً وقالتْ قولةً … إلاَّ فيُعْلِمَنا بما لمْ نعلمِ

عهدِي بهِ واللهُ يغفرُ ذنبهُ … فيمَا بدَا لِي هوًى متقسِّمِ

قالتْ لها بلْ قدْ أردتِ بعادَهُ … لمَّا علمتِ فإنْ بذلتِ فتمِّمِي

فهذا التَّجنّي والمباعدة أمتع من الإقرار والمواصلة لأن الوصل المتقدم لوقوع العلم إن كان عن مودّة صادقة لم يزده العلم بحقيقة الحال إلاَّ توكيداً وإن كان امتحاناً وتعرُّفاً لم تزده الثقة إلاَّ وفاء وتعطُّفاً وإن كان الَّذي تظهره الثقّة والإدلال نعمة لا يؤدى شكرها إذْ كان دليلاً على تمام الحال الَّتي قصدها ومنهم من يتظاهر عليه ثقلها فيضعف فؤاده عن حملها فتراه ينهى ويأمر بالكتمان ومن قنع بهذه الحال كان انتفاعه قليلاً وقلقه بتعرُّف حاله عند صاحبه طويلاً وليست تنال الرُّتب إلاَّ بالتَّجاسر ولا تصحّ العلى إلاَّ للمخاطر وربَّما نجَّت الجبان قناعته وأهلكت الشُّجاع جسارته بلغني أن فتًى من الأعراب يكنَّى امرء القيس هويَ فتاة من الحيّ فلمَّا وقفت على ما لها عنده هجرته فأشفى على التلف فلما بلغها ذلك جاءت فأخذت بعضادتي الباب وقالت كيف نجدك يا امرء القيس فأنشأ يقول:

دنتْ وظلالُ الموتِ بيني وبينها … وأدلتْ بوصلٍ حينَ لا ينفعُ الوصلُ

ثمَّ لم يلبث إلاَّ يسيراً حتَّى مات فمن غلب عليه الجبن من مثل هذه الحال مال إلى التستُّر والكتمان ومن طمع في مثل ما ذكرنا من حسن المجازاة بالعدل والوصال مال إلى الإعلان وبلوغ الغاية في الوجهين جميعاً شديد والتَّوسُّط أقرب إلى السَّلامة لأن من لم تعلمه بما تنطوي له لم تلذَّ بما يبدو لك من وصله والهجر الَّذي يتولَّد عن الثّقة بالوداد خير من الوصال الَّذي يقع من غير اعتماد ومن أطلعته على كل ما تضمره له لم تجد سبيلاً إلى مكافاته على ما يتجدد لذلك من إحسانه هذا إذا سلمت من الدَّالة المؤدية إلى التلف فخير الأمور لمن أطاقه أن يظهر بعضاً ويخفي بعضاً ثمَّ يظهر الازدياد حالاً فحالاً على أن الحال إذا استغرقت صاحبها كان استعمال الاختيار فيها محالاً.

ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:

مَنْ كانَ يزعمُ أنْ سيكتمُ حبَّهُ … حتَّى يشكِّكَ فيهِ فهوَ كذوبُ

الحبُّ أغلبُ للرِّجالِ بقهرهِ … مِنْ أنْ يُرَى للسِّرِّ فيهِ نصيبُ

وإذا بدَا سرُّ اللَّبيبِ فإنَّهُ … لمْ يبدُ إلاَّ وهوَ مغلوبُ

إنِّي لأُبغضُ عاشقاً مُتحفِّظاً … لمْ تتَّهمهُ أعينٌ وقلوبُ

قد ذكرنا أن تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له في قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به فربَّما جهل المحبُّ على نفسه فتوهَّم أنَّ ذلك داخل في باب الخيانة والغدر فكافى عليه بالانحراف والهجر فيجني على نفسه ما لا يتلافاه العذر ولا يقاومه الصبر والحازم من صبر على مضاضة التَّدلُّل والتمس العزَّ في استشعار التَّذلُّل فحينئذ يتمكَّن من وداد محبوبه ويظفر من هواه بمطلوبه.

قال الحسن بن هانئ:

يا كثيرَ النَّوحِ في الدِّمنِ … لا عليها بلْ على السَّكنِ

سُنَّةُ العشَّاقِ واحدةٌ … فإذا أحببتَ فاسْتَكنِ

وقال معاذ ليلى:

عفَا اللهُ عنِي ليلَى وإنْ سفكتْ دمِي … فإنِّي وإنْ لمْ تُجزِنِي غيرُ عاتبِ

عليها ولا مُبدٍ لليلَى شكايةً … وقدْ يُشتكَى المُشكِي إلى كلِّ صاحبِ

يقولونَ تبْ عن حبِّ ليلَى وذكرِها … وما خلتُنِي عنْ حبِّ ليلَى بتائبِ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

لستُ مِن ظالمَتِي منتصِفاً … قبَّحَ اللهُ محبّاً يَنتصفْ

وفتاةٍ أنْ تغبْ شمسُ الضُّحى … فهيَ للنَّاسِ منَ الشَّمسِ خلَفْ

أجمعَ النَّاسُ على تفضيلِها … وهواهمْ في سِواها مُختلفْ

وقال المؤمل:

أمنْ فقدِ الحبيبِ عيناكَ تبكِي … نعمْ فقدُ الحبيبِ أشدُّ فقدِ

بَرانِي الحبُّ حتَّى صرتُ عبداً … فقدْ أمسيتُ أرحمُ كلَّ عبدِ

فأُقسمُ لو هممتِ بمدِّ قلبِي … إلى جوفِ السَّعيرِ لقلتُ مُدِّي

وقال أبو الوليد عبيد الطائي:

منِّيَ وصلٌ ومنكَ هجرُ … وفيَّ ذلٌّ وفيكَ كِبرُ

عذَّبني حبُّكَ المُعنِّي … وغرَّني منكَ ما يغرُّ

قدْ كنتُ حرّاً وأنتَ عبدٌ … فصرتُ عبداً وأنتَ حرُّ

يا ظالماً لي بغيرِ جرمٍ … إليكَ مِنْ ظُلمكَ المفرُّ

أنتَ نَعيمي وأنتَ بؤسِي … وقدْ يسوءُ الَّذي يسرُّ

وقال آخر:

تُسيءُ بنا هندٌ ونحسنُ جهدَنا … فحتَّى متى هندٌ تُسيءُ ونُحسنُ

وأَجبنُ عنْ تقريعِ هندٍ بذنبِها … ولوْ غيرُ هندٍ كانَ ما كنتُ أجبنُ

وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي قال أنشدني ماني لنفسه:

يزيدُنِي ما استزدتُ مِن صلتهْ … وعنْ قليلٍ يعودُ في هبتهْ

لوْ حزتُ قطرَ السَّماءِ لانهملتْ … عليَّ ظُلماً سماءُ مَوْجَدتهْ

كمْ زلَّةٍ منهُ قدْ ظفرتُ بها … فقامَ حبِّي لهُ بمعذرتهْ

تُفنِي اللَّيالي وعيدَهُ وأنا … قريبُ عهدٍ بسوءِ مملكتهْ

وقال أبو تمام الطائي:

ظنِّي بهِ حسَنٌ لولا تجنِّيهِ … وأنَّهُ ليسَ يرعَى عهدَ حُبِّيهِ

عمَّتْ محاسنهُ عنِّي إساءتَهُ … حتَّى لقدْ حسُنتْ عندِي مساويهِ

تاهتْ علَى صورةِ الأشياءِ صورتهُ … حتَّى إذا خضعتْ تاهتْ علَى التِّيهِ

لمْ تجتمعْ فرقُ الحُسنِ الَّتي افترقتْ … عنْ يوسفِ الحسنِ حتَّى استجمعتْ فيهِ

وقال آخر:

مُستقبلٌ بالَّذي يهوَى وإنْ كثرتْ … منهُ الإساءةُ معذورٌ بما صنعَا

في وجههِ شافعٌ يمحُو إساءتَهُ … منَ القلوبِ وجيهٌ حيثُ ما شفعَا

وأنشدني بعض إخواننا:

يا مَنْ أراهُ أحقَّ بِي منِّي … إنْ غبتُ عنكَ فلمْ تغبْ عنِّي

أغفلْتَنِي لمَّا اعتللتُ ولمْ … يكُ ذاكَ منكَ يدورُ في ظنِّي

وأمرُّ ما ذاقَ امرؤٌ فهِمٌ … ما جاءهُ مِن موضعِ الأمنِ

كنْ كيفَ شئتَ فما منَحْتُكَهُ … صفوٌ بلا كدرٍ ولا منِّ

وقال كثيِّر:

أسيئِي بنا أوْ أحسنِي لا مَلولةً … لدينا ولا مقليَّةً إنْ تقلَّتِ

أصابَ الرَّدى مَن كانَ يهوَى لكِ الرَّدى … وجُنَّ اللَّواتي قلنَ عزَّةُ جُنَّتِ

خليليَّ هذا رسمُ عزَّةَ فاعْقِلا … قلوصَيْكُما ثمَّ ابْكِيا حيثُ حلَّتِ

وقال آخر:

إنَّ الهوانَ هو الهوَى نقضُ اسمهِ … فإذا هويتَ فقدْ لقيتَ هوانَا

وإذا هويتَ فقدْ تعبَّدكَ الهوَى … فاخضعْ لإلفكَ كائناً مَنْ كانا

وقال آخر:

صفحتُ برغمِي عنكَ صفحَ ضرورةٍ … إليكَ وفي قلبِي ندوبٌ منَ العتبِ

خضعتُ وما ذنبِي إنَّما الحبُّ عزَّنِي … فأَغضيتُ ضُعفاً عنْ معالجةِ الحبِّ

وما ذاكَ بِي فقرٌ إليكَ مُنازعٌ … يُذلِّلُ منِّي كلَّ ممتنعٍ صعبِ

إلى اللهِ أشكُو أنَّ ودِّي مُضيَّعٌ … وقلبِي جميعٌ عندَ مقتسمِ القلبِ

وقالت امرأة من الأعراب:

بنفسِي وأهلِي مَن لَوَ انِّي أتيتهُ … علَى البحرِ فاستسقيتُهُ ما سقانِيَا

ومَن لوْ رأَى الأعداءَ ينتَضِلونَنِي … لهمْ غرضاً يرمونَنِي لرَمانِيا

ومَن قدْ عصيتُ النَّاسَ فيهِ جماعةً … وصرَّمتُ خُلاَّني لهُ وجفانِيَا

فيا أخويَّ اللائِمَيَّ علَى الهوَى … أُعيذُكما باللهِ منْ مثلِ ما بِيَا

سألتُكُما باللهِ لِمَّا جعلتُما … مكانَ الأذَى واللَّومِ أنْ ترثيا لِيَا

ولا تغْفَلا إنْ لامَنِي ثَمَّ لائمٌ … ولو سخطَ الواشونَ أنْ تعذُرانِيا

فأُقسمُ لو خُيِّرتُ بينَ فراقهِ … وبينَ أبِي اخترتُ أنْ لا أبا لِيَا

ثكلتُ أبي إنْ كنتُ ذُقتُ كريقهِ … لشيءٍ ولا ماءً منَ المزنِ صافِيَا

وقال كثيّر:

وقائلةٍ دعْ وصلَ عزَّةَ واتَّبعْ … مودَّةَ أُخرى وابلُها كيفَ تصنعُ

أراكَ عليها في المودَّةِ زارِياً … وما نلتَ منْها طائلاً حيثُ تسمعُ

فقلتُ ذَريني بئسَ ما قلتِ إنَّني … علَى البخلِ منها لا علَى الجودِ أتْبعُ

وقال البحتري:

أميلُ إليكَ عنْ ودٍّ قريبٍ … فتُقصيني علَى النَّسبِ البعيدِ

فما ذنبي بأنْ كانَ ابنُ عمِّي … سواكَ وكانَ عودُكَ غيرَ عودي

وفي عينيكَ ترجمةٌ أراها … تدلُّ علَى الضَّغائنِ والحُقودِ

وأخلاقٍ عَهدْتُ اللِّينَ فيها … غدتْ وكأنَّها زُبرُ الحديدِ

وقد عاقدْتَني بخلافِ هذا … وقال الله أوْفوا بالعقودِ

وما ليَ قوَّةٌ تنهاكَ عنِّي … ولا آوي إلى رُكنٍ شديدِ

سأرحلُ عاتباً ويكونُ عتبي … علَى غيرِ التَّهدُّدِ والوعيدِ

وأحفظُ منكَ ما ضيَّعتَ منِّي … علَى رَغمِ المُكاشحِ والحسودِ

هذا الكلام وإن كان فيه شيء من التَّواضع والاستكانة فإنَّ فيه ضرباً من الضَّجر الدَّاعي إلى الخيانة لأنَّ صاحبه لم يصبر على التَّذلُّل نفسه على ما صبر عليه من بدأنا بذكره.

وفي نحو هذا المعنى قول الآخر:

فإنْ يكُ هذا منكَ جدّاً فإنَّني … مُداوي الَّذي بيني وبينكَ بالهجرِ

ومُنصرفٌ عنكَ انصرافَ ابنِ حرَّةٍ … طوى ودَّهُ والطَّيُّ أبقى علَى النَّشرِ

وفي مثله يقول البحتري:

وكنتُ أرى أنَّ الصُّدودَ الَّذي مضى … دلالٌ فما إنْ كانَ إلاَّ تجنُّبا

فوا أسفا حتَّامَ أسألُ مانِعاً … وآمنُ خوَّاناً وأُعتبُ مُذنبا

سأثْني فؤادي عنكِ أو أتبعُ الهوَى … إليكِ إنِ استعصى فؤادي أوْ أبى

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في نحوه:

ما لي أُقرِّبُ منكَ نفسي جاهداً … وأراكَ منِّي جاهداً تتباعدُ

قدَّمتَ دونَ أخيكَ من هو دونهُ … وعندْتَ عنهُ وهوَ منكَ يُعاندُ

أيأستني بعدَ الرَّجاء فمنْ ترى … يرجوكَ بعدي أوْ عليكَ يُحاسدُ

أمْ كيفَ يأملُ منكَ يوماً صالحاً … أحدٌ ورأيكَ فيَّ رأيٌ فاسدُ

وقال ابن حازم في نحو ذلك:

لا ترضَ عيشاً علَى امتهان … ولا تردْ وصلَ ذي امتنانِ

أشدُّ منْ عَيلةٍ وفقرٍ … إغضاءُ حُرٍّ علَى هوانِ

إذا نبا منزلٌ بحُرٍّ … فمنْ مكانٍ إلى مكانِ

وهؤلاء كلُّهم ومن جرى في هذا القول مجراهم إنَّما يتضاجرون على خلاَّنهم لثقلهم إيَّاهم عن عاداتهم ومنعهم إيَّاهم ما استعبدوه من مواصلاتهم لتغلُّب الحيرة على قلوبهم يحسبون أنَّ انحرافهم عن أحبابهم أقلُّ أذًى عليهم من الصبر لهم على محبَّاتهم ولو قد أنفذوا ما عزموا عليه من الفراق والهجر لشاهدوا ما يضطرُّهم إلى الرُّجوع بالصِّغر والتَّوسل إلى الصَّفح بالعذر ما لم يسمع الَّذي يقول:

مزحتَ بالهجرِ ولا علمَ لي … أنَّكَ مُشتاقٌ إلى الهجرِ

فلا يضقْ عفوُكَ عن تائبٍ … تضيقُ عنهُ سعةُ العُذرِ

وفي مثل ذلك يقول الآخر:

يا بيتَ خنساءَ الَّذي أتجنَّبُ … ذهبَ الزَّمانُ وحبُّها لا يذهبُ

ما لي أحنُّ إذا جِمالكِ قرَّبتْ … وأصدُّ عنكِ وأنتِ منِّي أقربُ

لله درُّكِ هلْ لديكِ مُعوَّلٌ … لِمُكلَّفٍ أمْ هلْ لودِّكِ مطلبُ

وفي نحو ذلك يقول البحتري:

رحلتُ عنكَ رحيلَ المرء عن وطنهْ … ورحلةَ السَّكنِ المشتاقِ عن سكنِهْ

فإنْ تحمَّلتُ صبراً عنكَ أوْ مُنيتْ … نفسي به فهو صبرُ الطَّرفِ عن وسنِهْ

ولبعض الأعراب في مثل ذلك:

وإنِّي وإنْ لم آتِ ليلى وأهلها … لَباكٍ علَى ليلى بُكا ذي التَّمائمِ

بُكاً ليسَ بالنَّزرِ القليلِ ودائمٌ … كما الهجرُ من ليلى علَى الوصلِ دائمُ

هجرتُكِ أياماً بذي العُمرِ إنَّني … علَى هجرِ أيامي بذي العُمرِ نادِمِ

فلمَّا مضتْ أيَّامُ ذي العمرِ وارتمى … بيَ الهجرُ لامتني عليكِ اللَّوائمُ

وإنِّي وذاكَ الهجرُ لو تعلمينهُ … كَمَاذيةٍ عن طفلها وهيَ رائمُ

ألمْ تعلمي أنِّي أهيمُ بذكركُمْ … علَى حينِ لا يبقى علَى الوصلِ دائمُ

أظلُّ أُمنِّي النفسَ إيايَ خالياً … كما يتمنَّى باردَ الماء صائمُ

ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:

لا بدَّ للعاشقِ من وقفةٍ … تكونُ بينَ الوصلِ والصَّرْمِ

حتَّى إذا الهجرُ تمادى به … راجعَ من يهوى علَى رغمِ

وأحسن أيضاً في قوله:

العاشقانِ كلاهما مُتعتِّبُ … وكلاهما مُتذلِّلٌ مُتغضِّبُ

صدَّتْ مُراغمةً وصدَّ مُراغماً … وكلاهما ممَّا يُعالجُ مُتعبُ

راجعْ أحبَّتكَ الذين هجرتهم … إنَّ المُتيَّمَ قلَّ ما يتجنَّبُ

إنَّ الصُّدودَ إذا تمكَّنَ منكما … دبَّ السُّلوُّ لهُ فعزَّ المطلبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يا مُتُّ قبلكَ طالَ الحُزنُ والأسفُ … وجاوزَ الشَّوقُ بي حدَّ الَّذي أصِفُ

قلبي إليكَ مع الهجرانِ مُنعطفٌ … وأنتَ عنِّي رخيُّ البالِ مُنحرفُ

فإنْ تكنْ عن إخائي اليومَ مُنصرفاً … فاللهُ يعلمُ ما لي عنكَ مُنصرفُ

هَبْني اعترفتُ بأنِّي لستُ ذا شغفٍ … ألمْ يكنْ كمدي أن لستُ أنتصفُ

كمْ قد كذبتُ علَى قلبي فكذَّبني … طولُ الحنينِ وعينٌ دمعها يكفُ

إن كنتَ يوماً مُقيلي زلَّةً سلفتْ … فالآنَ من قبلِ أن يُغرى بيَ التَّلفُ

اللهَ اللهَ في نفسي فقدْ عطِبتْ … وليسَ في قيلها من شُكرها خلفُ

قد ذلَّلَ الشَّوقُ قلبي فهوَ مُعترفٌ … إنَّ التَّذلُّلَ في حكم الهوَى شرفُ

فاعملْ برأيكَ لا أدعوك مُعتدياً … ولا أقولُ لشيءٍ قُلتهُ سرفُ

من صبر على الامتحان لمن يهواه على مثل ما ذكرناه كان خليقاً أن يبلغ أقصى مُناه وأهل هذه الحال الذين يحمدون الهوَى ويشكرونه ويصفون لذاذته للذين لا يعرفونه ويزرون على عيشٍ من لم يتطعَّم مذاقه ولم يُتعبَّد باسترقاقه ألم تسمع الَّذي يقول:

إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوَى … فكنْ حجراً من يابسِ الصَّخرِ جلْمدا

فما العيشُ إلاَّ ما تلذُّ وتشتهي … وإنْ لامَ ذو الشَّنآنِ فيه وفنَّدا

تبعتُ الهوَى جُهدي فمن شاءَ لامني … ومن شاء آسى في البُكاء وأسعدا

والكميت أنصف من هذا حيث يقول:

ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ونعيمها … فيما مضى أحدٌ إذا لمْ يعشقِ

الحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارةٌ … سائلْ بذلك من تطعَّمَ أوْ ذُقِ

وقال القطامي:

ألا علِّلاني كلُّ حيٍّ مُعلَّلُ … ولا تَعِداني الشَّرُّ والخيرُ مُقبلُ

فإنَّكما لا تدريانِ أما مضى … من الدَّهر أمْ ما قد تأخَّرَ أطولُ

أنشد أبو تمام لنفسه:

أيُّ شيءٍ يكونُ أملحَ من صَ … بٍّ أديبٍ متيَّمٍ بأديبِ

جازَ حُكمي في قلبهِ وهواهُ … بعدما جازَ حُكمهُ في القلوبِ

كادَ أن يكتبَ الهوَى بينَ عينيهِ … كتاباً هذا حبيبُ حبيبِ

غيرَ أنِّي لو كنتُ أعشقُ نفسي … لتنغَّصْتُ عِشقها بالرَّقيبِ

فهؤلاءِ الذين قد سامحهم الدَّهر بصحابهم فاستطابوا المقام على حالهم ومن وصل إلى شيءٍ نفسه تقاصرت عليه الأيام وراصدته بمكروهات الشهور والأعوام.

قال جميل بن معمر:

يطولُ اليومُ لا ألقاكِ فيهِ … وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ

وقالوا لا يضرُّكَ نأيُ شهرٍ … فقلتُ لِصاحبي فلمنْ يضيرُ

وقال آخر:

أقولُ لصاحبي والعيسُ تهوي … بنا بينَ المُنيفةِ والضِّمارِ

تمتَّعْ من شميمِ عَرارِ نجدٍ … فما بعدَ العشيَّةِ من عَرارِ

ألا يا حبَّذا نفحاتُ نجدٍ … وريَّا روضهِ بعدَ القِطارِ

وأهلُكَ إذْ يحلُّ القومُ نجداً … وأنتَ علَى زمانكَ غيرُ زاري

شهورٌ ينقضينَ وما علمنا … بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ

وقال آخر:

لياليَ أعطيتُ الصَّبابةَ مِقْودي … تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أدري

مضى لي زمانٌ لو أُخيَّرُ بينها … وبينَ حياتي خالياً آخر الدَّهرِ

لقلتُ ذروني ساعةً وكلاهما … علَى غفلةِ الواشينَ ثمَّ اقطعوا عمري

وقال أبو تمام لنفسه:

وفاتنِ الألحاظ والخدِّ … مُعتدلِ القامةِ والقَدِّ

صيَّرني عبداً لهُ حسنهُ … والطَّرفُ قد صيَّرهُ عبدي

وقال بعض بني قشير:

لوَ أنَّكَ شاهدتَ الصِّبى يا ابنَ بَوْزلٍ … بجزعِ الغضا إذْ واجهتنا عياطلُهْ

لأبصرتَ عيشاً بعدَ سخطٍ من النَّوى … وبعدَ تنائي الدَّارِ حلواً شمائلُهْ

وقال الطائي:

لو كنتَ عندي أمسِ وهو مُعانقي … ومدامعي تجري علَى خدَّيْهِ

وقدِ ارتوتْ من عبرتي وجناتُهُ … وتنزَّهتْ شفتايَ في شفتيهِ

لرأيتَ بكَّاءً يهونُ علَى الهوَى … وتهونُ تخْليَّةُ الدُّموع عليهِ

ورأيتَ أحسنَ من بُكائيَ قولهُ … هذا الفتَى مُتعنِّتٌ عينيهِ

وقال أيضاً:

ظنُّكَ فيما أُسرُّهُ حكمُ … أرضى بهِ لي وطرفُكَ الفَهِمُ

فيمَ سُلوِّي وأنتَ بي كَلِفٌ … ليسَ بهذا تُعاشرُ النِّعَمُ

كيفَ وعيني إليكَ مُسرعةٌ … فيكَ وقلبي عليكَ مُتَّهمُ

أظهرتُ من لوعةِ الهوَى جزَعاً … والصَّبرُ إلاَّ عن الهوَى كرمُ

وقال أيضاً:

نِعمُ اللهِ فيكَ لا أسألُ اللَّ … هَ إليها نُعمَى سِوى أنْ تدُوما

ولَوَ انِّي فعلتُ كنتُ كمنْ تسْ … ألهُ وهوَ قائمٌ أنْ يقُوما

وقال أيضاً:

أيَّامُنا مصقولةٌ أطرافُها … بكَ واللَّيالي كلُّها أسحارُ

هِمَمي معلَّقةٌ عليكَ رِقابُها … معلولةٌ إنَّ الوفاءَ إسارُ

ومودَّتي لكَ لا تُعارُ بلَى إذا … ما كانَ تأْمُورُ الفؤادِ يُعارُ

والنَّاسُ غيركَ ما تغيّرُ حبوَتِي … لِفراقهمْ هلْ أنجدُوا أو غارُوا

ولذاكَ شِعرِي فيكَ قدْ سمعُوا بهِ … سَحرٌ وأشعارِي بهمْ إشعارُ

وقال علي بن محمد العلوي:

مِنْ قِصرِ اللَّيلِ إذا زُرتنِي … أبكِي وتَبكينَ منَ الطُّولِ

عدوُّ عينيكِ وشانِيهما … أصبحَ مشغولاً بمشغولِ

وقال أبو عبادة البحتري:

لوتْ بالسَّلامِ بناناً خضيباً … ولحظاً يشوقُ الفؤادَ الطَّروبا

وزارتْ علَى عجلٍ فاكْتسَى … لزَوْرتِها أبرقُ الحزنِ طِيبا

فكانَ العبيرُ بها واشياً … وجرسُ الحليِّ عليها رقِيبا

ولمْ أنسَ ليلَتَنا في العناقِ … ولفَّ الصِّبا بقَضيبٍ قضيبَا

كما أقبلتِ الرِّيحُ في مرِّها … فَطوراً خُفوقاً وطوراً هُبوبا

وقال أيضاً:

تأبَى المنازلُ أنْ تُجيبَ ومِنْ جوًى … يومَ الدِّيارِ دعوتُ غيرَ مُجيبِ

وقِصارِ أيَّامٍ بهِ شرَقَتْ لنا … حسَناتُها مِنْ كاشحٍ ورقيبِ

سُقيَ الغَضا والنَّازِليهِ وإنْ همُ … شبُّوهُ بينَ جوانِح وقلوبِ

وله أيضاً:

وأخٌ لبستُ العيشَ أخضرَ ناضراً … بكريمِ عِشرتهِ وفضلِ إخائهِ

وضياءِ وجهٍ لوْ تأمَّلهُ امرؤٌ … صادِي الجوانحِ لارْتَوى مِن مائهِ

فدعِ الهوَى أوْ متْ بدائكَ إنَّ مِنْ … شأنِ المُتيَّمِ أنْ يموتَ بدائهِ

وله أيضاً:

ألنْتَ لي الأيَّامَ مِن بعدِ قسوةٍ … وعاتبتَ لي دهرِي المسيءَ فأعتبا

وألبسْتَنِي النُّعمَى الَّتي غيَّرتْ أخِي … عليَّ فأضحَى نازِحَ الودِّ أجنبَا

وقال آخر:

ولمَّا خلوْنا واطْمأنَّتْ بنا النَّوى … وعادَ لنا العيشُ الَّذي كنتُ أعرفُ

أخذتُ بكفِّي كفَّها فوضعْتُها … علَى كبدٍ من خِشيةِ البَيْنِ ترجفُ

قال محمد بن نصير:

لا أظلمُ اللَّيلَ ولا أدَّعِي … أنَّ نجومَ اللَّيلِ ليستْ تغورُ

اللَّيلُ ما شاءتْ فإن لمْ تزرْ … طالَ وإنْ زارتْ فلَيْلِي قصيرُ

وقال جميل:

تذكَّرَ منها القلبُ ما ليسَ ناسياً … ملاحةَ قولٍ يومَ قالتْ ومعهدَا

فإن كنتَ تهوَى أوْ تُريدُ لقاءَنا … علَى خلوةٍ فاضربْ لنا منكَ موعِدا

فقلتُ ولمْ أملكْ سوابقَ عبرةٍ … أأحسنُ مِنْ هذا العشيَّةَ مَقعدا

فقالتْ أخافُ الكاشحينَ وأتَّقي … عيوناً منَ الواشينَ حوليَ شُهَّدا

وقال خالد الكاتب:

عشيَّةَ حَيانِي بوردٍ كأنَّهُ … خدودٌ أُضيفتْ بعضهنَّ إلى بعضِ

وولَّى وفِعلُ السُّكْرِ في لحظاتهِ … كفعلِ نسيمِ الرِّيحِ بالغصنِ الغضِّ

وقال آخر:

وقصيرةِ الأيَّامِ ودَّ جليسُها … لوْ نالَ مجلسَها بفقدِ حميمِ

بيضاءُ مِنْ بقرِ الجِواءِ كأنَّما … حفن الحياةِ بها وداءُ سقيمِ

وقال عروة بن أذينة:

فذَّانِ يُعنيهما للبينِ فرقتهُ … ولا يملاَّنِ طولَ الدَّهرِ ما اجتمعَا

مستقبلانِ نشاطاً مِنْ شبابِهِما … إذا دعَا دعوةً داعِي الهوَى سمِعا

لا يعجبانِ بقولِ النَّاسِ عنْ عُرضٍ … ويعجبانِ بِما قالا وما صنَعَا

وقال العرجي:

لَقيتُ بهِ سرَّ ينظرنَ موعدِي … وقِدماً وفتْ منِّي لهنَّ المواعدُ

أمِنَّ العيونَ الرَّامقاتِ ولمْ يكنْ … لهنَّ بهِ عينٌ سوَى الصُّبحِ رائدُ

فبتُّ صريعاً بينهنَّ كأنَّني … أخُو سقمٍ تحنُو عليهِ العوائدُ

يفدِّينِي طوراً ويضمُمْنَ تارةً … كما ضمَّ مولوداً إلى الصَّدرِ والدُ

لعمرِي إنْ أبدَيْنَ لي الودَّ إنَّني … بهنَّ وإنْ أخفيتُ وجدي لواجدُ

وقال البحتري:

وأهيفُ مأخوذٍ منَ النَّفسِ شكلهُ … ترَى العينُ ما تحتاجُ أجمعَ فيهِ

ولمْ تنسَ نفسِي ما سُقيتُ بكفِّهِ … منَ الرَّاحِ إلاَّ ما سُقيتُ بفيهِ

أرَى غفلةَ الأيَّامِ إعطاءَ مانعٍ … يُصيبكَ أحياناً وحلمَ سفيهِ

وقال آخر:

وليلٍ لم يقصِّرهُ رقادٌ … وقصَّرهُ مُنادمةُ الحبيبِ

نعيمُ الحبِّ أورقَ فيهِ حتَّى … تناوَلْنا جَناهُ مِنْ قريبِ

ومجلسِ لذَّةٍ لمْ نقوَ فيهِ … علَى شكوَى ولا عذرِ الذُّنوبِ

فلمَّا لمْ نطقْ فيهِ كلاماً … تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

بتْنا بأطيبَ ليلةٍ وألذِّها … يا ليتَها وُصلتْ لنا بليالِ

حتَّى إذا ما اللَّيلُ أُشعلَ لونهُ … بالصّبحِ أوْ أودَى علَى الإشغالِ

نادَى منادٍ بالصَّلاةِ فراعَنا … ومضَى جميعُ اللَّيلِ غيرَ نوالِ

فنهضنَ مِنْ حذرِ العيونِ هوارباً … نهْضَ الهِجانِ بدَكْدَكٍ مُنهالِ

ثمَّ اطَّلعنَ كأنَّهنَّ غمائمٌ … زمنَ الرَّبيعِ هممْنَ باستهلالِ

حتَّى دفعنَ إلى فتًى جشَّمنهُ … ردَّ الكرَى وتعسُّفَ الأهوالِ

وقال بعض أهل هذا العصر:

خليليَّ أغرانِي منَ الشَّوقِ والهوَى … وأخلطُ مِنْ ماءِ الشَّاربينِ بالخمرِ

فصدرٌ علَى صدرٍ ونحرٌ علَى نحرٍ … وخدٌّ علَى خدٍّ وثغرٌ علَى ثغرِ

يظلُّ حسودُ القومِ فينا مفكِّراً … بخيْلٍ منِ المعشوقُ منَّا فلا يدرِي

وقال عمر بن أبي ربيعة:

وغضيضِ الطَّرفِ مِكسالِ الضُّحى … أحورِ المقلةِ كالرِّيمِ الأغنْ

مرَّ بي في بقرٍ يحفُفْنهُ … مثلَ ما حفَّ النَّصارى بالوثنْ

راعَنِي منظرهُ لمَّا بدَا … ربَّما ارتاعَ بالشَّيءِ الحسنْ

قلتُ مَنْ هذا فقالت بعضُ مَنْ … فتنَ اللهُ بهِ فيمنْ فتنْ

بعضُ مَن كانَ سَتيراً زمناً … ثمَّ أضحَى فهواكمْ قد محنْ

قلتُ حقّاً قلتِ قالتْ قولةً … أورثتْ في القلبِ همّاً وحزنْ

قلتُ يا سيِّدتِي عذَّبتِني … قالتِ اللهمَّ عذِّبني إذنْ

أما هذه المخاطبة فقلَّما يقع ألطف منها لفظاً ولا أجلّ منها موقعاً ولو لم يصبر المحبُّ علَى امتحان إلفه إلاَّ بسمع مثل هذا من لفظه لكان ذلك حظّاً جزيلاً ودركاً جليلاً فكيف وحال الصَّفاء إذا ابتدأت بين المتحابَّين بالمشاكلة الطبيعية ثمَّ اتَّصلت بالحراسة عن الأخلاق الدَّنيئة ثمَّ عذبت بالرّعايات الاختياريَّة بلغت بهما الحال إلى حيث انقطعت بهم دونه الآمال وعلى أنَّ الحزم لمن سومح بالوصال ألا يرسل نفسه كلَّ الإرسال فإنَّ ذلك ربَّما دعا المحبوب إلى الملال وإن كان مقيماً على رعاية الحال.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

عليكَ بإقلالِ الزِّيارةِ إنَّها … تكونُ إذا دامتْ إلى الهجرِ مسلكَا

فإنِّي رأيتُ القطرَ يُسأمُ دائماً … ويُسألُ بالأيدي إذا هوَ أمسكَا

قال أبو بكر بن داود وحدثني أبي قال حدثنا سويد بن سعيد الحدثانيّ قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى الفتات عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مَن عشق فعفَّ فكتمه فمات فهو شهيد ولو لم تكن عفَّة المتحابَّين عن الأدناس وتحاميهما ما ينكر في عرف كافة النَّاس محرَّماً في الشرائع ولا مستقبحاً في الطَّبائع لكان الواجب على كلِّ واحد منهما تركه إبقاء ودّه عند صاحبه وإبقاء على ودِّ صاحبه عنده.

أنشدني أحمد بن يحيى عن زبير عن محمد بن إسحاق عن مؤمل بن طالوت من أهل وادي القرى عن حمزة بن أبي ضيغم:

وبتْنا خلافَ الحيِّ لا نحنُ منهمُ … ولا نحنُ بالأعداءِ مُختلطانِ

وبتْنا يقينَا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى … منَ اللَّيلِ بردَا يمنةٍ عَطرانِ

نذودُ بذكرِ اللهِ عنَّا غوَى الصِّبى … إذا كادَ قلبانَا بِنا يرِدانِ

ونصدرُ عن ريِّ العفافِ وربَّما … سُقينا عليكِ النَّفسَ بالرَّشَفانِ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

ويومٍ كإبهامِ الحُبارَى لهوتهُ … بقعمةَ والواشونَ فيهِ تحرِّفُ

بِلا حرجٍ إلاَّ كلامَ مودَّةٍ … علينا رَقيبانِ التُّقى والتَّعفُّفُ

إذا ما تهمَّمنا صددْنا نفوسَنا … كما صدَّ مِنْ بعدِ التَّهمُّمِ يوسفُ

وقال العباس بن الأحنف:

أتأذنونَ لصبٍّ في زيارتكمْ … فعندكمْ شهواتُ السَّمعِ والبصرِ

لا يُضمرُ السُّوءَ إنْ طالَ الجلوسُ بهِ … عفُّ الضَّميرِ ولكنْ فاسقُ النَّظرِ

وأحسن من هذا قول عمر:

نظرتُ إليها بالمحصَّبِ مِنْ منًى … ولِي نظرٌ لولا التَّحرُّجُ عارمُ

فقلتُ أشمسٌ أمْ مصابيحُ بيعةٍ … بدتْ لكَ خلفَ السِّجفِ أمْ أنتَ حالمُ

بعيدةُ مهوَى القرطِ إمَّا لنوفلٍ … أبوها وإمَّا عبدُ شمسٍ وهاشمُ

طلبْنا الصِّبَى حتَّى إذا ما أصبْنهُ … نزعْنا وهنَّ المسلماتُ الكرائمُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أمولايَ لمْ تبعدْ عليكَ مطالبي … ولمْ تخشَ إنْ فكَّرتَ فيَّ فواتِي

أمولايَ لا أينَ المفرُّ منَ الهوَى … فقلْ لي لمَ بادرتَ بالنَّقماتِ

أَأُنسيتَ عهدَيْنا بوادٍ معظَّمٍ … وليسَ بذِي زرعٍ سوَى الحسناتِ

وأنتَ حرامٌ حرمةَ الحجِّ والهوَى … علَى العينِ إلاَّ هفوةُ اللَّحظاتِ

أخنتُكَ كانَ العفوُ أولَى بذِي الهوَى … أمُ ابْلغتَ زوراً لِم شفيتَ وُشاتِي

قال وبلغني عن الأصمعي أنَّه قال بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجاريةٍ متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:

لنْ يقبلَ اللهُ مِنْ معشوقةٍ عملاً … يوماً ووامِقُها غضبانُ مهجورُ

وكيفَ يأْجرُها في قتلِ عاشِقها … لكنَّ عاشقَها في ذاكَ مأْجورُ

قال فقلت لها يرحمك الله أفي مثل هذا الموضع تنشدين هذا فقالت إليك عنِّي يا عراقيُّ لا رهقك فقلت لها وما الحب فقالت هيهات جل والله عن أن يُحصى وخفي عن أن يُرى فهو كامن ككمون النار في حجرها إن قدحته ورى وإن تركته توارى ثمَّ أنشأت تقول:

إنسٌ غرائرُ ما هممنَ بريبةٍ … كظباءِ مكَّةَ صيدهنَّ حرامُ

يُحسبنَ من لِينِ الحديثِ فواسقاً … ويصدُّهنَّ عنِ الخنا الإسلامُ

وقال أبو صخر الهذلي:

ولَليلةٌ منها تعودُ لنَا … في غيرِ ما رفثٍ ولا إثمِ

أهوَى إلى نفسِي ولو نزحتْ … ممَّا ملكتُ ومِنْ بنِي سهمِ

وقال آخر:

فلمَّا التقيْنَا قالتِ الحكمَ فاحتكمْ … سوَى خصلةٍ هيهاتَ منكِ مرامُها

فقلتُ معاذَ اللهِ مِنْ تلكَ خصلةً … تموتُ ويبقَى وزرُها وإثامُها

فبتُّ أُثنِّيها عليَّ كأنَّها … منَ النَّومِ سكرَى وارفاتٌ عظامُها

وقال مسعر بن كدام:

تفنَى اللَّذاذةُ ممَّنْ نالَ صفوتَها … منَ الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ

تبقَى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتِها … لا خيرَ في لذَّةٍ مِنْ بعدِها النَّارُ

وقال جرير:

كانتْ إذا أخذتْ لعِيدٍ زينةً … هشَّ الفؤادُ وليسَ فيها مطمَعُ

تركتْ حوائمَ صادِياتٍ هيَّماً … مُنعَ الشِّفاءُ وطابَ هذا المشرعُ

وقال عبيد الرَّاعي:

نقاربُ أفنانَ الصِّبى ويردُّنا … حياءٌ إذا كدْنا نلجُّ فنجمحُ

حرائرُ ما يَدرينَ ما سوءُ شيمةٍ … ويتركنَ ما يُلحَى عليهِ ويفضحُ

وقال ذو الرمة:

أرَينَ الَّذي استودعنَ سوداءَ قلبهِ … هوًى مثلَ شكٍّ بالرِّماحِ النَّواجمِ

أُولئكَ آجالُ الفتَى إنْ أردنهُ … بقتلٍ وأسبابُ السَّقامِ المُلازمِ

يقاربنَ حتَّى يطمعَ التَّابعُ الصِّبى … وتهتزَّ أحشاءُ القلوبِ الحوائمِ

إذا قالَ يا قدْ حلَّ دَينِي قضينَهُ … أمانيَّ عندَ الزَّاهراتِ العوائمِ

وقال أيضاً:

وإنَّا لنرضَى حينَ نشكُو بخلوةٍ … إليهنَّ حاجاتِ النُّفوسِ بلا بذلِ

وما الفقرُ أزرَى عندهنَّ بوصلِنا … ولكنْ جرتْ أخلاقُهنَّ علَى البُخلِ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

وقدْ كنتُ ودَّعتُ النَّقا ليلةَ النَّقا … بما ليسَ يُبلي ثوبَ جِدَّتهِ الدَّهرُ

وما نلتُ شيئاً غيرَ أنَّكَ قلتَ لِي … سأرْعاكَ فاحْفظنِي فديتُكَ يا بدرُ

سبتْكَ بوجهٍ كالصَّحيفةِ واضحٍ … وفي مقلتَيْ وَسْنانَ في طرفهِ فترُ

وفي مضحكٍ عذبٍ كأنَّ رضابهُ … نُوارُ أقاحيٍّ يدجِّنُها القَطرُ

وما ليَ علمٌ غيرَ أنِّي أظنُّهُ … وما ليَ هلمٌ غيرَ ظنِّي ولا خبرُ

وقال آخر:

فما نطفةٌ مِنْ ماءِ مزنٍ تنسَّمتْ … رياحٌ لأعلَى مَتنهِ فهوَ قارسُ

بأطيبَ مِنْ فيها وما ذقتُ طعمهُ … ولكنَّني فيما ترَى العينُ فارسُ

وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي لزينب بنت فروة:

وما طعمُ ماءٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ … تحدَّرَ مِنْ غرٍّ طوالِ الذَّوائبِ

بمنعرجٍ أوْ بطنِ وادٍ تحدَّثتْ … عليهِ رياحُ الصَّيفِ مِنْ كلِّ جانبِ

نفتْ جِريةُ الماءِ القذَى عنْ متونهِ … فما إنْ ترَى فيهِ مُعاباً لعائبِ

بأطيبَ ممَّنْ يقصرُ الطَّرفُ دونهُ … تُقَى اللهِ واستحياءُ بعضِ العواقبِ

وقال العديس الكناني:

جزَى اللهُ الوُشاةَ جزاءَ سوءٍ … فإنَّهمُ بنا قدْ يولَعونا

ولوْ لمْ نخشَ إلاَّ النَّاسَ كانُوا … علينا في الإساءةِ هيِّنينا

ولكنَّا نخافُ اللهَ حقّاً … ونخشَى اللهَ إسلاماً ودِينا

ونَسْتحيي ونرعَى غيبَ جُمْلٍ … ونحنُ علَى المودَّةِ مُنطوينا

وقال آخر:

وأقصُرُ طرفِي دونَ جُمْلٍ كرامةً … بجُملٍ وللطَّرفِ الَّذي أنا قاصرُهْ

سقَى اللهُ بيتاً لستُ آتِي أهلهِ … وقلبِيَ في البيتِ الَّذي أنا هاجرُهْ

وقال آخر:

تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ إذْ مشتْ … بهِ زينبٌ في نسوةٍ عطِراتِ

خرجنَ بفجٍّ رائحاتٍ عشيَّةً … يلبِّينَ للرَّحمانِ مُعتمراتِ

يُغطِّينَ أطرافَ البنانِ منَ التُّقى … ويخرجنَ بالأسحارِ مُجتمراتِ

ولمَّا رأتْ نكثَ النُّميرِيِّ أعرضتْ … وكنَّ مِنَ انْ يَلقيْنَهُ حذِراتِ

وقال الحسن بن هانئ:

أحسنُ مِنْ زحفِ قبيلتينِ … ومِنْ تَلاقِي كتيبتينِ

ومِنْ نزالٍ بمرهفاتٍ … بينَ مغاويرِ عسكرَيْنِ

فمانِ قدْ أُعمِلا رِضاعاً … ومصَّ ريقٍ بشِفَّتينِ

لمْ يُطعمَا الغمضَ مِنْ نَفارٍ … مُحادثَيْنِ مُلازمَينِ

حتَّى إذا الصُّبحُ لاحَ قامَا … علَى وضوءٍ مُصلِّيينِ

وقال آخر:

فما أنسَ ممَّا قدْ رأيتُ وفاتنِي … بهِ الدَّهرُ ممَّا كنتُ أُعطَى وأُرزقُ

فلنْ أنسَ مسراهَا وسِرباً سرتْ بهِ … بغورِ النَّقا كادتْ لهُ الأرضُ تُشرقُ

إلى موعدٍ منَّا ومنهنَّ شاقَنا … إليهِ الأعادِي والهوَى المتشوَّقُ

فبتنَ جُنوحاً يشتكينَ ونشتكِي … إليهنَّ لمْ يهبطْ لنا الأرضَ مرفقُ

عفائفُ لا يدنونَ منَّا لريبةٍ … ولا نحنُ مكروهاً منَ الأمرِ نرهقُ

فلمَّا رأينَ الصُّبحَ لاحَ وصوَّتتْ … كرائمُ طيرٍ لمْ تكنْ قبلُ تنطقُ

فمَا برحتْ حتَّى وددتُ بأنَّني … بما في فؤادِي منَ دمِ الجوفِ أشرقُ

وأعلنَتِ الشَّكوَى حَصانُ غريرةٌ … تجودُ بماضِي دمعِها ثمَّ تشهقُ

يظلُّ الغيورُ أرغمَ اللهُ أنفهُ … علَى مُلتقانَا قائماً يتحنَّقُ

وقال آخر:

ألا يا شفاءَ النَّفسِ لمْ تسعفِ النَّوى … وتُحيي فؤاداً لا تنامُ سرائرُهْ

أثِيبِي فتًى حقَّقتِ قولَ عدوِّهِ … عليهِ وقلَّتْ في الصَّديقِ معاذرُهْ

أُحبُّكِ يا سلمى علَى غيرِ ريبةٍ … وما خيرُ حبٍّ لا تعفُّ سرائرُهْ

ولبعض أهل هذا العصر:

لا تُلزمَنِّي في رعيِ الهوَى سرفاً … وما أُوفِّيهِ إلاَّ دونَ ما يجبُ

لو كنتَ شاهدَنا والدَّارُ جامعةٌ … والشَّملُ ملتئمٌ والودُّ مُقتربُ

لا بلْ مساواةُ ودِّي ودَّهُ بهوًى … كأنَّهُ نسبٌ بلْ دونهُ النَّسبُ

مُستأنسينَ بما تُخفِي ضمائرُنا … علَى العفافِ ورعيِ الودِّ نصطحبُ

فإنْ محَا الشَّوقَ فرطَ الأُنسِ أوحشَنا … أُنسُ العواذلِ إنْ جدُّوا وإنْ لعبوا

فما نُدافعُ بالهجرانِ فهوَ علَى … أنْ لا يزولَ هوَانَا مُشفقٌ حدِبُ

عاينتَ منزلةً في الظَّرفِ عاليةً … ورتبةً قصَّرتْ عن شأْوِها الرُّتبُ

في عفَّةٍ نتحامَى أنْ يلمَّ بها … سوءُ الظُّنونِ وأنْ تغتالَها الرِّيبُ

وقال آخر:

فلا بخلٌ فيُؤْيِسَ منكَ بخلٌ … ولا جودٌ فينفعَ منكَ جودُ

شكوْنا ما علمتَ فما وليتمْ … وباعدْنا فما نفعَ الصُّدودُ

ونُحسدُ أنْ نزوركمُ ونرضَى … بدونِ البذلِ لوْ رضيَ الحسودُ

وقال آخر:

ويخشَوْنَ في ليلَى عليَّ ولمْ أنلْ … معَ العذلِ مِنْ ليلَى حراماً ولا حِلاَّ

سوَى أنْ محا لوْ تشاءُ أقلَّها … ولوْ تبتَغِي ظلاًّ لكانَ لها ظلاَّ

ألا حبَّذا أطلالُ ليلَى علَى البِلى … ومَا بذلتْ لي مِنْ نوالٍ وإنْ قلاَّ

وما يتمادَى العهدُ إلاَّ تجدَّدتْ … مودَّتها عندِي وإنْ زعمتْ أنْ لا

ولعمري إنَّ هذا من نفيس الكلام قد جمع لفظاً فصيحاً ومعنًى صحيحاً غير أنَّه لم يخبر بالعلَّة الَّتي من أجلها لم ينل حراماً ولا حلالاً فيُقضى له على حسب ذلك لأنَّ من منعه من إتيان المنكر عجزه عنه لم يشكر وإنَّما يُستطرف ممَّن قدر على ما يهواه فتعفَّف.

كما قال مسلم بن الوليد:

وما ذمِّيَ الأيَّامَ أنْ لستُ حامداً … لعهدِ لياليها الَّتي سلفتْ قبلُ

ألا ربَّ يومٍ صادقِ العيشِ نلتهُ … بها وندامايَ العفافةُ والبذلُ

وقال بعض أهل هذا العصر:

يا متُّ قبلكَ قدْ واللهِ برَّحَ بِي … شوقِي إليكَ فهلْ لِي فيكَ مِنْ حظِّ

قلبي يغارُ علَى عينِي إذا نظرتْ … بُقيا عليكَ فَعَا أُرْوَى منَ اللَّحظِ

فهذا يخبر أن صاحبه ونفاسته في صدره منعاه من الاستمتاع بالنظر إلى شخصه وأكسباه الغيرة له على نفسه وله أيضاً في باب التعظيم إلفه والتقديم له على نفسه كلام إن لم يقبح من باب الإفراط والتكثير لم يسهل من باب التساهل والتقصير وهو:

جُعلتُ فداكَ إنْ صلُحتْ فداءً … لنفسكَ نفسُ مثلِي أوْ وِقاءا

وكيفَ يجوزُ أنْ تفديكَ نفسِي … وليسَ محلُّ نفسَيْنا سواءَ

وبلغني أن أعرابياً خلا بصاحبته فقيل له ما كان بينكما فقال ما زال القمر يزيّنها فلما غاب زيّنته فوضعت كفِّي على كفِّها فقالت مَهْ لا تُفسد فقلت والله ما يرانا إلاَّ الكواكب فقالت ويحك وأين مكوكبُها قال فارْفضضتُ والله عرقاً ولم أعد وبلغني أن العباس بن سهل الساعدي دخل على جميل وقد احتضر فقال له جميل بلِّغنا أتظنّ رجلاً عاش في الإسلام لم يزنِ ولم يسرق ولم يسفك دماً حراماً ناجياً من هول يوم القيامة قال العباس فقلت أي والله فمن ذلك قال إنِّي لأرجو أن تكونه قال فتبسَّمت وقلت أبعد إتيانك بثينة عشرين سنة فقال إنِّي في آخر يوم من أيام الدُّنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم إن كنتُ حدَّثت نفسي بحرامٍ منها قطُّ عمَّا وراء ذلك قال ثمَّ مات من يومه.

من سامحته الأيام لمحابِّه ورُزق حسن الوفاء والمساعدة من أحبابه ما يجب عليه في حدود الظَّرف دون ما يجب عليه من رعاية حقوق الإلف أن يقابل نعم الله عليه بما يوجب المزيد فيها لديه فإن لم يفعل ذلك فلا ينبغي له أن يتعرض لأسباب المهالك وليعلم أنَّ وصف ما في صاحبه من الخصال المرتضاة مُغرٍى بمن علمها بالمشاركة له في هواه ولقد أحسن الَّذي يقول:

ولستُ بواصفٍ أبداً خليلاً … أُعرِّضهُ لأهواءِ الرِّجالِ

وما بالي أشوِّقُ عينَ غيرِي … إليهِ ودونهُ سترُ الحِجالِ

كأنِّي آمنُ الشٌّركاءَ فيهِ … وآمنُ فيهِ أحداثَ الرِّمالِ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

أصونُكَ أنْ أدلَّ عليكَ وهماً … لأنَّ الظَّنَّ مِفتاحُ الغيوبِ

وما قصر علي بن محمد العلوي حيث يقول:

ربَّما سرَّنِي صدودكَ عنِّي … وتنائيكَ وامتِناعُكَ منِّي

ذاكَ ألاَّ أكونُ مفتاحَ غيرِي … وإذا ما خلوتُ كنتَ التَّمنِّي

وإذ قد دللنا على قبح وصف الخليل بما فيه من الخَلق والخُلق الجميل فلا حاجة بنا إلى دلالة على قبح الوصف لما حمل عليه نفسه من المسامحة بصاحبه والمسارعة إلى بلوغ محبَّته فإنَّ المحبوب ربما دعته الرأفة بمحبِّه أو الإشفاق عليه إلى أن يحمل نفسه على ما لا يوجبه حقُّ الهوَى عليه وعلى ما لم يوصله صاحبه منه وأن يدعه أليه تحقُّقاً بالرِّعاية لمن يهواه وتظرُّفاً بالسّياسة له إلى أكثر ما يتمنَّاه وإن لم يقع ذلك إلاَّ بالحمل على النَّفس والغضِّ منها فإذا كان وصف الخِلقة الَّتي لا يتهيَّأ نقلها ولا يعاب بها صاحبها ليس بجميل كان وصف الخلائق الَّتي قد سومح فيها أحرى أن يكون غير جميل.

ولعمري لقد أحسن جميل بن عبد الله بن معمر العذري حيث يقول:

هلِ الحائمُ العطشانُ مُسقًى بشُربةٍ … منَ المزنِ تروِي ما بهِ فتُريحُ

فقالتْ فنخشَى إنْ سقيناكَ شربةً … تُخبِّرُ أعدائِي بها فتبوحُ

إذنْ فأَباحتْني المنايا وقادَنِي … إلى أجلِي عضبُ السِّلاحِ سفوحُ

لبئسَ إذنْ مأوَى الكريمةِ سرُّها … وإنِّي إذنْ مِنْ حبِّكمْ لصحيحُ

أما قوله لبئس مأوى الكريمة سرُّها فكلام حسن وأهله وإنِّي إذاً من حبِّكم لصحيح فكلام قبيح أتراه إن صحا من حبِّها خبَّر النَّاس بسرِّها حتَّى يجعل عليه في كتمانه إيَّاه أنَّه مغرم بها. بلغني أن رجلاً قام بحضرة معاوية فقال: قبَّح الله المجوس بلغني أن أحدهم يتزوج بأُمِّه والله لو أُعطيت عشرة آلاف درهم أن أفعل ذلك ما فعلته، فلمَّا انصرف قال معاوية: ما له أسخن الله عينه أترى لو زيد على ذلك كان يفعل، ولكن يُتلقَّى هذا الكلام من جميلٍ باليدين ويحمل على الرأس والعينين إذا سمع كلام الشيخ امرئ القيس:

فلمَّا دنوتُ تسدَّيتُها … فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرْ

ولمْ يرَنا كالئٌ كاشحٌ … ولمْ يُفشَ منَّا لِذا البيتِ سِرْ

وقدْ رابَنِي قولُها يا هناهُ … ويحكَ ألحقتَ شرّاً بشرْ

فما أدري من أي أمريه أعجب أمن خشية في نفسه أم من جهله بأمره يفرح بأن لم يرهم كاشحٌ ولم يفش لهم في البيت سرُّ وما عسى الكاشح لو رآهم إن كان يصنع بهم هل كان يستطيع أن يشيِّع عليهم إلاَّ بعض تشييعهم على أنفسهم.

ولعمري قد أحسن الَّذي يقول:

ما يبلغُ الأعداءُ مِنْ جاهلٍ … ما يبلغُ الجاهلُ مِنْ نفسهِ

فأما هذا النحو من الشِّعر فلست أنشط لذكره لا من شِعر امرئ القيس ولا من شعر غيره فهو فعل خارج عن حدِّ الدِّيانة والمروءة وما خرج عن حدِّ هذين البابين تعدَّى عيبه من فاعله إلى ناشره ومستحسنه وأما ما ذكرناه في الباب الثامن من وصف اجتماع المحبّ مع محبوبه ومُسامحته له فيما يحور محبوبه فهو لعمري معيب ممَّن حكاه عن نفسه وعن صاحبه إلاَّ أنَّه عيبٌ لا ينهتك ستر المودَّة بمثله فمن أجل ذلك سامحنا بذكره وإن كانت مرتبة الكمال موجبة لغيره وكذلك نتساهل إن شاء الله في ذكر بعض ما وصفه المحبُّون من صور المحبوبين وإن كان فيه بعض الهجنة بهم فإنَّ فيه بعض المنفعة لغيرهم.

قال ذو الرمة:

لها بشرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ … رخيمُ الحواشِي لا هُراءٌ ولا نزرُ

وعينانِ قالَ اللهُ كُونا فكانَتَا … فعُولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ

وقال معن بن أوس:

ظعائنُ مِنْ أوسٍ ونُعمانَ كالدُّمى … حواضرَ لمْ يُجزينَ عمّاً ولا بعْلا

أوانسُ يركضنَ المُروطَ كأنَّما … يطأْنَ إذا استوسقنَ في جدَدٍ وَحْلا

وقال ابن مرداس:

وأهوتْ لتَنْتاشَ الرِّواقَ فلمْ تقمْ … إليهِ ولكنْ طأْطأَتهُ الولائدُ

قليلةُ لحمِ النَّاظرينِ يَزِينُها … شبابٌ ومخفوضٌ منَ العيشِ باردُ

تناهَى إلى لهوِ الحديثِ كأنَّها … أخُو سقمٍ قدْ أسلمتْهُ العوائدُ

ترى القُرطَ منها في فِناهُ كأنَّهُ … بمهلكةٍ لولا العُرَى والمعاقدُ

وقال قيس بن الحطيم:

ولمْ أرَها إلاَّ ثلاثاً علَى منًى … وعهدِي بها عذراءُ ذاتُ ذوائبِ

تبدَّتْ لنا كالشَّمسِ تحتَ غمامةٍ … بدَا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ

وقال محمد بن إبراهيم الأسدي:

وأصبحَ ما رجَّيتُ مِنْ أُمِّ واصل … يُقطَّعُ إلاَّ حاجةً سأقولُها

رَقودُ الضُّحى مِبْسامةٌ لا يهمُّها … صروفُ النَّوى تظعانُها وحُلولها

إذا ضحكتْ لمْ تنبسطْ وتبسَّمتْ … حياءً ويكْفيها منَ الحلفِ قيلُها

وقال الضحاك بن عقيل العامري:

بأشنبَ صافٍ تعرفُ النَّفسُ أنَّه … وإنْ لمْ يذقْ حُمشُ اللِّثاثِ عِذابُ

وكفٍّ كقِنوانِ النَّقا لا يضيرُها … إذا أُبرزتْ أنْ لا يكونَ خضابُ

ومَتْنانِ يزدادانِ ليناً إذا مشتْ … كما اهتزَّ مِنْ ماءِ السيولِ جَنابُ

وقال محمد بن بشير الخارجي:

وترَى مدامِعها تُرقرقُ مُقلةً … سوداءَ ترغبُ عنْ سوادِ الأثمَدِ

خوْدٌ إذا كثُرَ الحديثُ تعوَّذتْ … بحِمى الحياءِ وإنْ تكلَّمْ تقصُدِ

وقال الركاض الزبيدي:

وما أَثِرتْ حبِّي علَى نومةِ الضُّحى … لها مهنةً يوماً ولا باكرتْ طعمَا

ولا أنْمَأَتْ يوماً حديثاً لجارةٍ … تُعذِّرُ مِنْ إنمائهِ بعدَ ما يُنمَى

وقال صخر بن الجعد المحازي:

بنفسِي وأهلِي مَنْ إذا عرَّضوا لهُ … ببعضِ الأذَى لمْ يدرِ كيفَ يُجيبُ

ولمْ يعتذرْ عذرَ البرِيِّ ولمْ تزلْ … بهِ سكتةٌ حتَّى يقالَ مُريبُ

لقدْ ظلموا ذاتَ الوشاحِ ولمْ يكنْ … لنا مِنْ هوَى ذاتِ الوشاحِ نصيبُ

سُقيتُ دمَ الحيَّاتِ إنْ كنتُ بعدَها … محبّاً ولوْ عُنِّفتهُ لَحبيبُ

وقال سويد بن أبي كاهل:

حرَّةٌ تجلو شَتيتاً واضحاً … كشعاعِ البرقِ في الغيمِ سطعْ

تمنحُ المرآةَ لوناً حسناً … مثلَ قرنِ الشَّمسِ في الضَّحوِ طلعْ

وقال إبراهيم النظام:

هوَ البدرُ إلاَّ أنَّ فيهِ رقائقاً … منَ الحسنِ ليستْ في هلالٍ ولا بدرِ

وينظرُ في الوجهِ القبيحِ بحسنهِ … فيكسوهُ حسناً باقياً آخرَ الدَّهرِ

وله أيضاً:

رقَّ فلوْ بُزَّتْ سرابيلهُ … عُلِّقهُ الجوُّ منَ اللُّطفِ

يجرحهُ اللَّحظُ بتكرارهِ … ويشتكِي الإيماءَ بالكفِّ

وله أيضاً:

نسَّى المحاسنَ في أجناسِ نُوريِّ … صافي الضَّرائبِ رُوحيِّي

تمَّت علَى أبهَى الصِّفاتِ فلمْ … يُطلقْ لنا عنْ حدِّ كَيْفِيِ

أبدعهُ الخالقُ واختارهُ … مِنْ مازجِ الأنوارِ عُلويِّ

فكلُّ مَنْ أغرقَ في وصفهِ … أصبحَ منسوباً إلى العِيِّ

وهذا البيت لا يتهيَّأ لأحد أن يتخطَّاه ولا يأتي بأجود من معناه وقد قال جرير في هذا النحو فأحسن غير أنَّه حلَّ آخر كلامه ما عقد فإذا ضُمَّ بعضه إلى بعض فسد.

قال جرير:

ما استوصفَ النَّاسُ مِنْ شيءٍ يروقهمُ … إلاَّ ترَى أُمَّ عمرٍو فوقَ ما وصفُوا

كأنَّها مُزنةٌ غرَّاءَ رائحةٌ … أوْ درَّةٌ لا يُوارِي لونَها الصَّدفُ

وقال علي بن العباس الرومي:

بأبي حسنُ وجهكَ اليوسُفِيِّ … يا كفِيَّ الهوَى وفوقَ الكَفِيِّ

فيهِ وردٌ ونرجسٌ وعجيبٌ … اجتماعُ الرَّبيعِ والخَرْفِيِّ

وقال حبيب بن أوس:

لمْ أنسَها وصروفُ البينِ تظلمُها … ولا مُعوَّلَ إلاَّ الواكفُ السَّربُ

أدنتْ نقاباً علَى الخدَّينِ وانتسبتْ … للنَّاظرينَ بقدٍّ ليسَ ينتقبُ

وقال ذو الرمة:

أسيلةُ مجرَى الدَّمعِ هيفاءُ طفلةٌ … رَداحٌ كإيماضِ البروقِ ابتسامُها

كأنَّ علَى فيها وما ذقتُ طعمهُ … زجاجةُ خمرٍ ضاقَ عنها مُدامُها

وقال أبو دلف العجلي:

نفسِي الَّتي لمْ أزلْ بالحبِّ أعرفُها … تحيَّرتْ دونَ مَنْ أهوَى أمانيها

شمسٌ بدت لكَ في أثوابِ جاريةٍ … الشَّمسُ تُشبهُها والبدرُ يحكيها

أطنبتُ مجتهداً في وصفِها فلقدْ … أفنَى جميعَ صفاتِي بعضُ ما فيها

وقال امرؤ القيس:

كأنَّ المُدامَ وصوبَ الغمامِ … وريحَ الخُزامى ونشرَ القُطرْ

يُعلُّ بهِ بردُ أنيابِها … إذا طربَ الطائرُ المستحرْ

وقال يزيد بن الطثرية:

كأنَّ مدامةً مِنْ خمرِ دنٍّ … تُصبُّ علَى ثناياها طُروقا

ألذُّ النَّاسِ في الدُّنيا حديثاً … وأطيبهُ بُعيدَ النَّومِ ريقَا

جُعلتُ لكِ الفداءَ منَ المنايا … وإنْ كلَّفتِني ما لنْ أُطيقا

وقال امرؤ القيس بن حجر:

خليليَّ مرَّا بي علَى أُمِّ جندبٍ … لتقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذَّبِ

ألمْ ترَياني كلَّما جئتُ طارقاً … وجدتُ بها طِيباً وإن لمْ تطيَّبِ

وهذا معنًى لم يسبقه إليهِ أحدٌ قبله ولم يلحقه فيه مَن بعده وإنَّه لحسن اللفظ مستوفي المعنى.

وقال أبو تمام:

كالخُوطِ في القدِّ والغزالةِ في البه … جةِ وابنِ الغزالِ في غَيَدِهْ

وما حكاهُ ولا نعيمَ لهُ … في جِيدهِ لِمْ حكاهُ في جَيَدِهْ

ولأبي تمام أيضاً:

متصرِّفٌ في الطَّرفِ باطنُ صدرِها … مُتفنِّنٌ في الحسنِ ظاهرُ صدرِها

تُعطيكَ منطقَها فتعلمُ أنَّه … لحنٌ عذوبتهُ تمرُّ بثغرِها

وأظنُّ حبلَ وصالِها لمحبِّها … أوهَى وأضعفَ قوَّةً مِنْ خصرِها

وقال علي بن محمد العلوي الكوفي:

وهيفاءَ تلحظُ عنْ شادنٍ … وتبسِمُ عنْ زهرِ الأُقحوانْ

وكالغصنِ بانَ وجدلِ العِنانِ … وميادةِ القُضُبِ الخيزرانْ

ترَى الشَّمسَ والبدرَ معناهُما … بها واحداً وهُما معنَيانْ

وقال آخر:

إذا احتجبتْ لم يكفكَ البدرُ فقدَها … وتكفيكَ ضوءَ البدرِ إن حجبَ البدرُ

وحسبكَ مِنْ خمرٍ بقربكَ ريقُها … وواللهِ مِنْ ريقِها حسبكَ الخمرُ

وقال آخر:

هيَ الخمرُ حسناً وهيَ كالخمرِ ريقُها … ورقَّةُ ذاكَ اللَّونِ في رقَّةِ الخمرِ

فقدْ جُمعتْ فيها خمورٌ ثلاثةٌ … وفي واحدٍ سكْرٌ يزيدُ علَى السُّكْرِ

وقال آخر:

وفي الغصنِ بيضاءُ العوارضِ طفلةٌ … مُبتلَّةٌ يُصبِي الحليمَ ابتسامُها

إذا سُمتَها التَّقبيلَ صدَّتْ وأعرضتْ … صُدودَ شَموسِ الخيلِ ضلَّ لجامُها

وعضَّتْ علَى إبهامِها حينَ أومأَتْ … أخافُ العيونَ أنْ تهبَّ نِيامُها

وقال الأحمر الطائي:

أُلامُ علَى ليلَى ولوْ أنَّ هامَتي … تداوَى بليلَى بعدَ يأسٍ لبلَّتِ

بذِي أشَرٍ تجرِي بهِ الرَّاحُ أنهلتْ … أخاكَ بهِ بعدَ العشاءِ وعلَّتِ

وتبسِمُ إيماضَ الغمامةِ إنْ سمتْ … إليها عيونُ النَّاسِ حينَ استهلَّتِ

وقال حسان بن ثابت:

يا لقومِي هلْ يَقْثُلُ المرءَ مثلِي … واهنُ البطشِ والعظامِ سؤومُ

شأنُها العطرُ والفراشُ ويعلُو … ها لُجينٌ ولؤلؤٌ منظومُ

لوْ يدبُّ الحولِيُّ مِنْ ولدِ الذَّ … رِّ عليها لأندبتْها الكلومُ

وهذا سرف شديد وهو مع ذلك مأخوذ من قول امرئ القيس:

منَ القاصراتِ الطَّرفِ لوْ أنَّ مُحولاً … منَ الذَّرِّ فوقَ اللِّيتِ منها لأثَّرا

ولبعض أهل هذا العصر:

نظرتُ إليهِ نظرةَ مستهامٍ … فأثَّرَ ناظرِي في وجنتيهِ

فلاحظَني وقدْ أثبتُّ وجداً … فأثَّرَ في الفؤادِ بمُقلتيهِ

وقال آخر:

فيكَ لِي فتْنَتانِ لحظٌ ولفظٌ … وَعَظانِي لوْ كانَ ينفعُ وعظُ

لكَ وجهٌ كأنَّه رقَّةُ الماءِ … وقلبٌ كأنَّه الصَّخرُ فظُّ

أنتَ حظِّي فما يضرُّكَ لو كا … نَ لمنْ أنتَ حظُّهُ منكَ حظُّ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

ألَمعُ برقٍ سرَى أمْ ضوءُ مصباحِ … أمِ ابتسامَتُها بالمنظرِ الضَّاحِي

يا بؤسَ نفسٍ عليها جِدَّ آسفةٍ … وشجوَ قلبٍ إليها جِدَّ مُرتاحِ

تهتزُّ مثلَ اهتزازِ الغصنِ أتعبهُ … مُرورُ غيثٍ منَ الوسميِّ سحَّاحِ

أرسلتِ شُغلينِ مِنْ لفظٍ محاسنهُ … تروي الضَّجيعَ ولحظٍ يُسكرُ الصَّاحِي

أُثني عليكِ بأنِّي لمْ أخفْ أحداً … يلحِي عليكِ وماذا يزعمُ اللاَّحِي

ولقد أنصف غاية الإنصاف الَّذي يقول:

فما الشَّمسُ يومَ الدَّجنِ وافتْ فأشرقتْ … ولا البدرُ وافَى أسعداً ليلةَ البدرِ

بأحسنَ منها بلْ تزيدُ ملاحةً … علَى ذاكَ أوْ رأْيُ المحبِّ فلا أدرِي

ومختار ما قالته الشعراء في وصف الخلق والأخلاق أكثر من أن تتضمنه الأوراق وفيما ذكرنا منه بلاغٌ وعلى كل حال وصف الخلائق والأفعال اسهل من وصف الخِلقة بالجمال وكلاهما داخلٌ في معنى الدلالة على الشركة في الأحباب حسب ما تقدم ذِكرنا في صدر هذا الكتاب.

قال الزبير بن بكار: قال جميل بن معمر: ما رأيت مصعباً يختال بالبلاط إلاَّ عرف على بثينة وهي بالحباب وبينهما مسيرة ثلاثٍ.

وقال العباس بن الأحنف:

لم ألقَ ذا شجنٍ يبوحُ بحبِّهِ … إلاَّ ظننتُكِ ذلك المحبوبا

حذراً عليكِ وإنَّني بكِ واثقٌ … ألا ينالَ سوايَ منكِ نصيبا

ولبعض أهل هذا العصر:

أيا أملي هلْ في وفائكَ مطمعٌ … فأطلبَهُ أمْ قد تناهتْ أواخرُهْ

فإنْ يكُ ما قد خفتَ حقّاً فلا تعدْ … فلن يستوي مُوفي الفؤادِ وعاذرُهْ

وإلاَّ فلا تعتبْ عليَّ فإنَّهُ … إذا ظنَّ قلبُ المرءِ ساءتْ خواطرُهْ

وله أيضاً:

قسمتُ عليكَ الدَّهر نصفاً تعتُّبا … لِفعلكَ في الماضي ونصفاً ترقُّبا

إذا استيقنَتْ نفسي بأنْ لستَ عاذراً … ليَ الظَّنَّ والإشفاقَ إلاَّ تريُّبا

فقدْ والَّذي لو شاءَ غلَّبَ واحداً … فروَّحَ قلباً آمناً مُتهيِّبا

شككتُ فلا أدري لِفرطِ مودَّتي … يبريكَ أمرَضني يُرينيكَ مُذنبا

ولو كانَ قصدي منكَ وصلاً أنا لهُ … لقد كنتَ لي أندى جناباً وأخصبا

لوَ ادنوا لأقللْتُ العتابَ ولم أزدْ … علَى أن تراني في امتداحكَ مُطنبا

ولكنَّ بي ظنّاً أبى أنْ يُقيمني … لديكَ بما لا أرتضيهِ مُصوَّبا

وله أيضاً:

لقدْ جمعتْ أهوايَ بعدَ شَتاتها … صفاتُكَ فانقادَ الهوَى لكَ أجمعُ

سوى خصلةٍ ذكري رهينٌ بذِكرها … فقلبيَ منها ما حييتُ مروَّعُ

وحاشاكَ منها غيرَ أنَّ أخا الهوَى … بذكر الَّذي يخشى من الغدْرِ مولعُ

وقال بشار بن برد:

كأنَّ فؤادَهُ كرةٌ تنزَّى … حذارَ البينِ لو نفعَ الحذارُ

يُروِّعنا السِّرارُ بكلِّ شيءٍ … مخافةَ أن يكونَ بهِ السِّرارُ

وقال آخر:

وقدْ خفتُ حتَّى لو تطيرُ حمامةٌ … رقيباً علينا أوْ طليعةَ معشرِ

فإنْ قيلَ خيراً قلتُ هذا خديعةٌ … وإن قيلَ شرّاً قلتُ حقٌّ فشمِّرِ

وقال آخر:

تركتني الوُشاةُ نُصبَ المشيرينَ … وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ

لا أرى خاليَيْنِ للسِّرِّ إلاَّ … قلتُ ما يخلُوانِ إلاَّ لِشاني

قال أبو بكر واتصل بي أن ديك الجن قدم من سفر له فوجد جاريته وقد كان يهواها عبد أخيه تسأله عن خبره لإبطاءةٍ كان عيَّنها فقتلها وقتل أمها وقال في ذلك:

يا مُهجةً طلعَ الحِمامُ عليها … وجنى لها ثمرَ الرَّدى بيديْها

حكَّمتُ سيفي في مجالِ خِناقها … ومدامعي تجري علَى خدَّيْها

روَّيتُ من دمها الثَّرى ولَطالَ ما … روَّى الهوَى شفتيَّ من شفتيها

فوحقِّ نعليها وما وطئَ الحصى … شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها

ما كانَ قتلِيها لأنِّي لم أكنْ … أبكي إذا سقطَ الذُّبابُ عليها

لكنْ بخلتُ علَى العيونِ بلحظها … وأنفتُ من نظرِ العُداةِ إليها

وله أيضاً فيها:

أشفقْتُ أن يردَ الزمانُ بغدرهِ … أو أُبتلى بعدَ الوصالِ بهجرهِ

قمرٌ أنا استخلصْتُهُ من دُجنةٍ … لبليَّتي وجلبتهُ من خِدرهِ

فقتلتهُ وبهِ عليَّ كرامةٌ … ملءُ الحشا ولهُ الفؤادُ بأسرهِ

عهدي بهِ ميتاً كأحسنِ نائمٍ … والدَّمعُ يجرحُ مُقلتي في نحرهِ

لو كانَ يدري الميتُ ماذا بعدهُ … بالحيِّ منهُ بكى لهُ في قبرهِ

غُصصُ الزَّمانِ تفيظُ منها روحهُ … وتكادُ تنزعُ قلبهُ من صدرهِ

وله أيضاً فيها:

ليتني لم أكنْ لِعطفكِ ملتُ … وإلى ذلك الوصالِ وصلتُ

فالَّذي منِّي اشتملتِ عليهِ … ألِعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ

قالَ ذو الجهلِ لمْ جهلتَ ولا أعْ … لمُ أنِّي حلمتُ حتَّى جهلتُ

لائمٌ لي بجهلهِ ولماذا … أنا وحدي أحببتُ ثمَّ قتلتُ

سوفَ آسى طولَ الحياةِ وأبكيكِ … علَى ما فعلتِ لا ما فعلتُ

وهذا وإن سلم من أن يكون مغلوباً على عقله فظنُّه الظنَّ الَّذي لا غاية بعده وذلك أنَّه قد أيس من حبيبه بقتله له وهو غير نادم على فعله بل مصوِّبٌ له وراجع باللَّوم على نفسه فيما أتاه من الغدر.

وقال آخر:

يتعاتبانِ ويشكُوانِ هواهُما … بمدامعٍ جلَّتْ عن الهملانِ

يتهاجرانِ بسوء ظنٍّ في الهوَى … ويقلُّ صبرُهما فيصطلحانِ

وقال آخر:

عجلتُ علَى الصَّديقِ بسوءِ ظنٍّ … وعتبِ أُمورهِ في كلِّ فنِّ

وأُقسمُ صادقاً ما خنتُ عهداً … ولستُ بخائنٍ ما لم تخنِّي

وما كانَ الَّذي استوحشتَ منِّي … علَى المعنى الَّذي بُلِّغتَ عنِّي

وكنتُ إذا أتيتكَ كنتَ حسبي … فلمْ يكُ فيَّ فضلٌ للتَّمنِّي

فهلاَّ إذ عتبتَ بحثتَ عنِّي … ولمْ تُمضِ الحكومةَ بالتَّجنِّي

وقال البحتري:

أعظمُ الرُّزءِ أنْ تُقدَّمَ قبلي … ومنَ الرُّزْءِ أنْ تؤخَّرَ بعدي

حذراً أن تكونَ إلفاً لغيري … إذْ تفرَّدتُ بالهوى فيكَ وحدي

وقال بشار:

نصباً لِعينكَ لا ترى حسناً … إلاَّ رأيتَ بهِ لها شَبها

إنِّي لأُشفقُ أن أُقدِّمها … قبلي وأكرهُ أن أُؤخِّرَها

وقال ماني:

جعلتُ عنانَ ودِّي في يديْكا … فلمْ أرَ ذاكَ ينفعُني لَديكا

وقدْ والله ضقتُ فليتَ ربِّي … قضى أجلي عليَّ ولا عليكا

فلمْ أرَ عاشقاً لكَ قطُّ مثلي … أغارُ عليكَ من نظري إليكا

وقال:

وما في الأرضِ أشقى من محبٍّ … وإن وجدَ الهوَى عذبَ المذاقِ

تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ … مخافةَ فُرقةٍ أوْ لاشتياقِ

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهمْ … ويبكي إنْ دنَوا خوفَ الفِراقِ

فتسخنُ عينهُ عندَ التَّنائي … وتسخنُ عينهُ عندَ التَّلاقِ

وهذه المكاره كلُّها أثمار تلك الملاذّ الَّتي قبلها وذلك أن من هويَ إنساناً فإنما قصاره حين يهواه أن يعيد نظره إليه فيروى من شخصه ويستمتع من لفظه فإذا تهيَّأ ذلك له ازداد وجده به أضعافاً على ما كان في قلبه ثمَّ تدعوه نفسه بعد ذلك إلى كثرة التَّلاقي والمواصلة وتنبسط للمسائلة والمشاورة وهو في كل هذه الأحوال مشغول بحظوظ نفسه غير فارغ معها لصبابة غيره بل يحبُّ أن يكون إلفه سمحاً بالمواصلة لمن علم أنَّه يودُّه ليكون ذلك سبباً له إلى مواصلته وتسهيلاً له السَّبيل إلى معاشرته فإذا تمكَّن ودُّه من نفس محبوبه فاستشعر الوفاء له ودفع قياده إليه فلم يعترض شيء من أمره عليه لكسبه ذلك ضنّاً به وصيانة له.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

إذا ازدادَ رعياً للهوى زِدْتهُ هوًى … وضنِّي به مقدارَ هذين يضعُفُ

قفوه أمني زائدٌ في تخوُّفي … ولا حظَّ لي في أن يزولَ التَّخوُّفُ

فلا يتشاغلْ عاذلٌ بنصيحتي … فمثلي علَى إرشادهِ لا يوقَّفُ

ولا يرْثِ لي في ذلَّتي وتواضُعي … فإنِّي بهذا الذُّلِّ أزهى وأشرفُ

فما ظنُّك بترادف حالين كلُّ واحدة منهما سبب لصاحبتها متى يكون انقضاؤهما أم كيف يتوهَّم زوالهما لا سيَّما وإحداهما قد كانت قوَّتها في نفسها منميةً لها قبل أن تبتدئ الأخرى في معونتها فإذا انتهت الحال إلى حيث وصفنا فرغ المحبُّ حينئذ من المطالبة بحظوظ نفسه وتشاغل بالمطالبة بحقوق إلفه فأنف له من معاشرة غيره بل صانه وأشفق عليه من مخالطته هواه وعاد إلى ما كان يحسب له به مكرمةً من برِّه به فجعله عليه هُجنة وأوهم نفسه أنَّ ذلك الَّذي ناله غيره ممنوع من كلِّ من سأله ألم تسمع الَّذي يقول:

فلا تُكثري قولاً منحتكِ وُدَّنا … فقولُكِ هذا في الفؤادِ مُريبُ

تَعُدِّينَ ما أوليتني منكِ نائلاً … وللقابسِ العجلانِ فيكِ نصيبُ

وفي نحو هذا المعنى يقول الآخر:

تمتَّعْ بها ما ساعفَتْكَ ولا تكنْ … عليكَ شجاً تُؤذيكَ حينَ تبينُ

وإنْ هي أعطتكَ اللِّيانَ فإنَّها … لآخرَ من خُلاَّنها ستلينُ

فحينئذٍ يظنُّ المحبُّ ما لا يخشاه ويتمنَّى ما لا يهواه ويفسد عليه أمر دينه ودنياه وهذه حال الوله الَّذي ذكرناه.

وقال بعض الأدباء في نحو ذلك:

يُسيءُ من كثرةِ الظَّنِّ الظُّنونَ بها … حتَّى يظنَّ ظنوناً ليسَ يخشاها

ومرتبة العشق الَّتي هي في هذا الطَّريق إلى هذه المرتبة توجب على المحب طاعة المحبوب في كلِّ ما أحبَّه حتَّى لا يعصيَ له أمراً ولا يُقبِّح له فعلاً.

وفي مثل ذلك يقول بعضهم:

كلُّ شيءٍ منكَ في عيني حسنْ … ونصيبي منكَ همٌّ وحَزنْ

ويقول الآخر:

صممتُ عنِ الأصواتِ من غيرِ وقرةٍ … وإنِّي لأدنى صوتها لَسميعُ

شفيعي إليها قلبُها إنْ تعتَّبتْ … وقلبي لها فيما عتبتُ شفيعُ

وقد ظفرَتْ منِّي بسمعٍ وطاعةٍ … وكلُّ مُحبٍّ سامعٌ ومُطيعُ

ويقول الآخر:

يقرُّ بعيني ما يقرُّ بعينِها … وأحسنُ شيءٍ ما بهِ العينُ قرَّتِ

كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ … من الصم لو تمشي بها العصم زلتِ

صفُوحاً فما تلقاكَ إلاَّ بخيلةً … فمَنْ ملَّ منها ذلكَ الوصلَ ملَّتِ

وبلغني عن الحسن بن سهل الكاتب أنَّه قال: أما أنا فإذا أحببت إنساناً نظرت إلى فعله ففعلت مثله فإنه إن أبغضني أبغض نفسه فإذا ابتدأ أهل العشق يرتفعون عن هذه الحال تكشَّف لهم عوار هذه الأفعال حالاً بعد حالٍ.

ففي مثل ذلك يقول أبو عبادة البحتري:

يُريِّبُني الشَّيءُ تأتِي بهِ … وأُكبرُ قدركَ أنْ أستَريبا

وأكرهُ أنْ أتمادَى علَى … سبيلِ اغترارٍ فألقَى شَعوبا

ولا بدَّ مِنْ لومةٍ أنتَحي … عليكَ بها مُخطئاً أوْ مُصيبَا

سأصبرُ حتَّى أُلاقِي رضاكَ … إمَّا بعيداً وإمَّا قريبَا

أُراقبُ رأيكَ حتَّى يصحَّ … وانظُرُ عطفكَ حتَّى يثُوبا

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

بدأْتَ بموعدٍ ورجعتَ عنهُ … وكنتُ أعدُّ وعدكَ مِنْ عطائكْ

ولمْ تزلِ الخواطرُ عنكَ تُنبِي … بأنَّكَ لا تدومُ علَى وفائكْ

فلوْ كانت عهودكَ لم تُغيَّرْ … ولمْ يبدُ التَّكدُّرُ في صفائكْ

وفَيتَ بما ابتدأْتَ بهِ ولكنْ … أظنُّكَ قدْ ندمتَ علَى ابتدائكْ

فإنْ تكُ قدْ ندمتَ علَى اصطِفائي … فإنِّي ما ندمتُ علَى اصطفائكْ

وإنْ تكُ لمْ تخُنْ فلأيِّ شيءٍ … تغيَّرَ ما عهِدْنا مِنْ إخائكْ

وله أيضاً في نحو ذلك:

أَمِنتُ عليكَ صرفَ الدَّهرِ حتَّى … أناخَ بغدرهِ ما لمْ أُحاذرْ

وجسَّرنِي وفاؤكَ لي إلى أنْ … أذاقَنِي الرَّدى غبُّ التَّجاسرْ

فجئتُكَ شاكراً وأقلُّ حقِّي … إذا أحسنتَ أنْ ألقاكَ عاذرْ

وحسبكَ رتبةً لكَ مِنْ صديقٍ … أتاكَ بعاتبٍ في زيِّ شاكرْ

ولغيره في نحوه أيضاً:

وكذَّبتُ طرفِي عنكِ والطَّرفُ صادقٌ … وأسمعتُ أُذنِي منكِ ما ليسَ يُسمعُ

فلا كمَدٌ يَبلَى ولا لكِ رحمةٌ … ولا عنكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطمعُ

ولمْ أسكنِ الأرضَ الَّتي تسكُنينَها … لئلاّ يقولُوا صابرٌ ليسَ يجزعُ

وربَّما ضعف الخارج عن حال العشق الَّتي توجب طاعة المحبوب على المحب إلى حالة الوله التي توجب الاعتراض عليه لفرط الميل منه إليهِ فيرجع من قريبٍ وينقاد صاغراً إلى كلِّ ما يريده المحبوب.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

عَلامَ وقدْ أذبتَ القلبَ شوقاً … تصدُّ وقدْ عزمتَ علَى ارتِحالِ

ولمْ أكُ قبلَ ذاكَ أتيتُ ذنباً … سِوى أنِّي نهيتُكَ عنْ خصالِ

أردتُ بذاكَ أنْ تُدعَى رشيداً … إذا افتضحَ المعارفُ بالمقالِ

وألاَّ تُبتلَى بدنيءِ قومٍ … فيكثرَ فيكَ مِنْ قيلٍ وقالِ

فيسمعهُ المصادقُ والمُعادِي … فتندمَ عندَ مُفتخرِ الرِّجالِ

وما كلٌّ يصدِّقُ فيكَ قولِي … فكنتَ تكونُ فوقَ ذُرى المعالِي

فصنْ نفساً عليَّ أعزَّ منِّي … وقاكَ السُّوءَ أهلِي ثمَّ مالِي

وأيقنْ أنَّني لمْ آتِ ذنباً … ودونكَ ما هويتُ منَ الفعالِ

تجدْنِي راضياً بهواكَ طوْعاً … لأمركَ في الحرامِ وفي الحلالِ

فواللهِ العظيمِ لَوَ انَّ قلبِي … عصاكَ هممتُ عنهُ بانتقالِ

أقِلْني تدَّخرْ في الحشرِ أجراً … إذا احتاجَ المُقيلُ إلى المقالِ

والعاشق ما دامت حال العشق مالكة يتوهَّم ألاّ غاية بعدها ولا رتبة فوقها ويرى أن اعتراض المحب على محبوبه إنَّما هو من نقض حاله في قلبه وليس الأمر بحيث علِيَ بل هو بضده.

ولقد أحسن علي بن الرومي وقوله:

يا أخِي أينَ ريعُ ذاكَ الإخاء … أينَ ما كانَ بينَنَا مِنْ صفاءِ

أنتَ عَيني وليسَ مِنْ حقِّ عَيْني … طبقُ أجفانها علَى الأقذاءِ

وإنَّما يغلظ أمر الرقيب على من يمتحن بمفارقة الحبيب فأما من غلبه الفراق وملكه الإشفاق وأذاع سره الاشتياق قلَّ اكتراثه بمن يرتقبه بل سهل عليه ألاّ يعاين من يحبّه إذا وثق بقربه منه وأمن من إعراضه عنه وربَّما كانت غيبة الحبيب أيسر من حضوره مع الرقيب وهذا شيء تختلف فيه الآراء علَى حسب غلبات الأهواء.

قال ابن الدمينة:

يقولونَ قصِّرْ عنْ هواها فقدْ وعتْ … ضغائنَ شبَّانٌ عليكَ وشيبُ

وما إنْ تُبالِي سخطَ مَنْ لا تحبُّهُ … إذا نصحتْ ممَّن تحبُّ جُيوبُ

وقال أبو تمام الطائي:

ما شئتَ مِنْ منطقٍ أديبِ … فيهِ ومِنْ منظرٍ أرِيبِ

لمَّا رأى رقبةَ الأعادِي … علَى معنًّى بهِ كئيبِ

جرَّدَ لِي مِنْ هواهُ نُصحاً … صارَ رقيباً علَى الرَّقيبِ

وقال أيضاً:

مِنْ قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مهلكَتِي … ووصلِ ألحاظهِ تقطيعُ أنفاسِي

رُزقتُ رقَّةَ قلبٍ منهُ نغَّصها … مُنغِّصٌ مِنْ رقيبٍ قلبهُ قاسِي

وقال بعض الفصحاء:

طَلْحٌ ولكنَّا نرَى الح … يَّاتِ رُقطاً في خِلالهْ

يمنعْنَنا أنْ نستظلَّ … منَ الهواجرِ في ظلالهْ

وقال الأخطل:

وليسَ القذَى بالعودِ يسقطُ في الإنَا … ولا بذبابٍ خطبهُ أيسرُ الأمرِ

ولكنَّ شخصاً لا نسرُّ بقربهِ … رمتْنا بهِ الأزمانُ مِنْ حيثُ لا ندرِي

وأنشد أعرابي بالبادية:

أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ وارداً … مياهَ الحِمَى إلاَّ عليَّ رقيبُ

ولا آتياً وحدِي ولا بجماعةٍ … منَ النَّاسِ إلاَّ قيلَ ذاكَ مريبُ

أحبُّ ظباءَ الواديَيْنِ وإنَّني … لمُشتهرٌ بالواديينِ غريبُ

أُميمُ احْفظِي عهدَ الهوَى لا يزُلْ لنا … عنِ النَّأيِ والهجرانِ منكِ نصيبُ

ألا يا أُميمَ القلبِ دامَ لكِ الغِنا … أمَا ساعةٌ إلاَّ عليكِ رقيبُ

وقال آخر:

صغيرٌ يصيرُ بالا كثير مجرب … أوْ آخر يرمي بالظُّنونِ أرِيبُ

وقال آخر:

وإنِّي لآتِي البيتَ أُبغضُ أهلهُ … وأُكثرُ هجرَ البيتِ وهوَ حبيبُ

تطيبُ لي الدُّنيا مراراً وإنَّها … لتخبثُ حتَّى ما تكادُ تطيبُ

وأُعرضُ عنْ أشياءَ منكِ تُريبُنِي … وأُدعى إلى ما نابكُمْ فأُجيبُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

حَبيبي حبيبٌ يكتمُ النَّاسَ أنَّهُ … لنا حينَ ترمينا العيونُ حَبيبُ

يُباعدُني في المُلتقَى وفؤادهُ … وإنْ هوَ أبدَى لي البعادَ قريبُ

ويُعرضُ عنِّي والهوَى منهُ مقبلٌ … إذا خافَ عيناً أو أشارَ رقيبُ

فتخرسُ منَّا ألسنٌ حينَ نلتقِي … وتنطقُ منَّا أعينٌ وقلوبُ

وله أيضاً:

إذا ما التقيْنَا والوُشاةُ بمجلسٍ … فليسَ لنا رسلٌ سِوَى الطَّرفِ بالطَّرفِ

فإنْ غفلَ الواشونَ فزتُ بنظرةٍ … وإنْ نظرُوا نحوِي نظرتُ إلى السَّقفِ

أُسارقُ مولاها السُّرورَ بقربِها … وأهجر أحياناً وفي هجرهمْ حتفِي

وقال آخر:

إذا غفِلوا عنَّا نطقْنا بأعينٍ … مِراضٍ وإنْ خِفنا نظرْنا إلى الأرضِ

شكَا بعضُنا لمَّا التقينَا تستُّراً … بأبصارِنا ما في النُّفوسِ إلى بعضِ

وقال مسلم بن الوليد:

جعلْنا علاماتِ المودَّةِ بينَنا … دقائقَ لحظٍ هنَّ أخفَى منَ السِّحرِ

فأعرفُ منها الوصلَ في لينِ طرفِها … وأعرفُ منها الهجرَ بالنَّظرِ الشزرِ

وأنشدنا ابن أبي طاهر لأبي تمام:

أزورُ محمَّداً وإذا التقَيْنا … تكلَّمتِ الضَّمائرُ في الصُّدورِ

فأرجعُ لمْ ألُمهُ ولمْ يلُمنِي … وقدْ فهمَ الضَّميرُ منَ الضَّميرِ

وقال آخر:

إذا نحنُ خفْنا الكاشحينَ فلمْ نطقْ … كلاماً تكلَّمنا بأعيُننا سرَّا

فنقضِي ولمْ يُعلمْ بِنا كلَّ حاجةٍ … ولمْ نظهرِ الشَّكوى ولمْ نهتكِ السِّترا

ولو قذفتْ أحشاؤُنا ما تضمَّنتْ … منَ الوجدِ والبلوَى إذنْ قذفتْ جمرا

صاحبُ هذا الشِّعر البائس مغترٌّ بالزَّمان جاهل بصروف الأيام يتبرَّم بالرَّقيب مع مشاهدة الحبيب وهو لا يعلم أن هذه الحال تتقاصر عنها الآمال وتنقطع دونها الآجال ولكن من لم ينكبه الفراق ولا الهجر ولم يعترض إلى الخيانة والغدر حسب أن الرَّقيب هو منتهى كيد الدَّهر وظنَّ أنَّه قد امتُحن بما لا يقوم له الصَّبر.

وقد قال بعض أهل هذا العصر:

لَئنْ كانَ الرَّقيبُ بلاءَ قومٍ … فما عندي أجلُّ من الرَّقيبِ

حجابُ الإلفِ أيسرُ من نواهُ … وهجرُ الخلِّ خيرٌ للأديبِ

ولا وأبيكَ ما عاينتُ شيئاً … أشدَّ من الفِراقِ علَى القلوبِ

وقال آخر:

أشارتْ بعينيها إشارةَ خائفٍ … حذارِ عيونِ الكاشحينَ فسلَّمتْ

فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامَها … وأوْما إليها أسكُني فتبسَّمتْ

وأومَتْ إلى طرفي يقولُ لِطَرفها … بنا فوقَ ما تلقى فأشجتْ وتيَّمتْ

فلوْ سئلتْ ألحاظُنا عن قلوبنا … إذنْ لاشتكتْ ممَّا بها وتبرَّمتْ

وما هكذا إلاَّ عيونُ ذوي الهوَى … إذا خافتِ الأعداءَ يوماً تكلَّمتْ

وقال آخر:

وقفنا فلولا أنَّنا راعَنا الهوَى … لهتَّكنا عندَ الرَّقيبِ نحيبُ

وفي دونِ ما نلقاهُ من ألمِ الهوَى … تُشقُّ جيوبٌ بل تُشقُّ قلوبُ

ولمَّا نظرنا بالرَّقيبِ ولحظهِ … ولحظي علَى لحظِ الرَّقيبِ رقيبُ

صدَدْنا وكلٌّ قد طوى تحتَ صدرهِ … فؤاداً له بين الضُّلوعِ وجيبُ

وقال آخر:

إذا ما التقينا والوُشاةُ بمجلسٍ … فألسُننا حربٌ وأعينُنا سِلْمُ

وتحتَ مجاري الصَّدرِ منَّا مودَّةٌ … تطَّلَعُ سرّاً حيثُ لا يذهبُ الوهمُ

وأنشد ابن أبي طاهر:

إذا خِفنا من الرُّقباءِ عيناً … تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ

وفي غمزِ الحواجبِ مُستراحٌ … لِحاجاتِ المُحبِّ إلى الحبيبِ

وقال آخر:

ومُراقَبينِ يُكاتمانِ هواهُما … جعلا الصُّدورَ لما تجنُّ قُبورا

يتلاحظانِ تلاحظاً فكأنَّما … يتناسخانِ منَ الجُفونِ سُطورا

وأنشد ابن أبي طاهر:

عرفتْ بالسَّلامِ عينَ الرَّقيبِ … وأشارتْ بلحظِ طرفٍ مُريبِ

وشكتْ لوعةَ النَّوى بجُفونٍ … أعربتْ عن لسانِ قلبٍ كئيبِ

رُبَّ طرفٍ يكونُ أفصحَ من لفْ … ظٍ وأبدى لِمُضمَراتِ القلوبِ

وقال آخر:

وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ … صمَتِ اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ

تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها … ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهمُ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

كتبتُ إلى الحبيبِ بكسْرِ عيني … كتاباً ليسَ يقرأُهُ سواهُ

فأخبرني تورُّدُ وجنتيهِ … وكسرُ جفونهِ أنْ قد قراهُ

وأنشدني أيضاً لنفسه:

لقدْ عرَّضَ بالحبِّ … كما عرَّضتُ بالحُبِّ

وكانتْ أعينٌ رُسلاً … مكانَ الرُّسلِ بالكتبِ

عيونٌ تنقلُ الأسرارَ … من قلبٍ إلى قلبِ

وقال آخر:

إذا نظرتْ طرفي تكلَّمَ طرفُها … وجاوبَهُ طرفي ونحنُ سُكوتُ

فكمْ نظرةٍ منها تُخبِّرُ بالرِّضا … وأخرى لها نفسي تكادُ تموتُ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

ومُلاحظٍ سرقَ السَّلامَ بطرفهِ … حذرَ العُيونِ ورِقْبةً للحارسِ

راجعتُهُ بلسانِ طرفٍ ناطقٍ … يُخفي البيانَ علَى الرَّقيبِ الجالسِ

فتكلَّمتْ منَّا الضَّمائرُ بالَّذي … نُخفي وفازَ مُجالسٌ بمُجالسِ

وقال الطرماح:

كأنْ لم يرُعْكَ الظَّاعنونَ ببينِهمْ … بلى إنَّ بينَ الظَّاعنينَ نزوعُ

يُراقبْنَ أبصارَ الغيارى بأعينٍ … حواذِرَ ما تجري لهنَّ دموعُ

وقال آخر:

أشارتْ بطرفِ العينِ خيفةَ أهلِها … إشارةَ محزونٍ ولم تتكلَّمِ

فأيقنْتُ أنَّ الطَّرفَ قد قالَ مرحباً … وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المتيَّمِ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

ألاحظُها خوفَ المُراقبِ لحظةً … فأشكو بطرفي ما بقلبي منَ الوجدِ

فتفهمُهُ عن لحظِ عيني بقلبِها … فتومي بطرفِ العينِ أنِّي علَى العهدِ

وله أيضاً:

تُحدِّثنا الأبصارُ ما في قلوبِنا … فنغنى بها عمَّا يُردَّدُ في الكتبِ

علاماتُنا مكتوبةٌ في جِباهنا … حبيبانِ موقوفانِ في سُبلِ الحُبِّ

وقال آخر:

بنانُ يدٍ تُشيرُ إلى بنانٍ … تُجاوبُنا وما يتكلَّمانِ

جرى الإيماءُ بينهُما رسولاً … فأعربَ وحيَهُ المُتناجيانَ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

يُكلِّمُها طرفي فتومي بطرفِها … فتُخبرُ عمَّا في الضَّميرِ منَ الوجدِ

فإنْ نظر الواشونَ صدَّتْ وأعرضتْ … وإنْ غفِلوا قالتْ ألستُ علَى العهدِ

وقال بعض الأعراب:

فلمَّا ادَّركْنا راعهُنَّ مُنادياً … كما راعَ خيلاً من لجامٍ صلاصِلُهْ

فنازعْنَنا وحياً خفيّاً كأنَّهُ … جنى المُجتني الرِّيحانِ أمرعَ حاصلُهْ

بوحيٍ لوَ انَّ العُصمَ تسمعُ رجْعهُ … لقُضْقضَ من أعلى إبانٍ حوافلُهْ

وأنشدنا ابن أبي طاهر:

ومنِّي ومنها اثنانِ قلبٌ ومُقلةٌ … مريضانِ مغبوطٌ وآخرُ يرحَمُ

وطرفي لها عمَّا بقلبي من الهوَى … إذا لم أُطقْ شكوى إليها مُترجِمُ

وقال آخر:

يكلِّمُ طرفي طرفَها حينَ نلتقي … وإن كانَ فينا للعتابِ صدودُ

فإنْ نحنُ صرنا للفراقِ تلاحظتْ … لنا بهوانا أعينٌ وخدودُ

فنحنُ كأنَّا بالقلوبِ وذِكرها … إذا ما افترقنا حاضرونَ شهودُ

وقال الراعي:

يُناجيننا والطَّرفُ دونَ حديثنا … ويقضينَ حاجاتٍ وهُنَّ موازِحُ

فلمَّا تفرَّقنا شجيْنَ بعَبرةٍ … وزوَّدننا شوقاً وهُنَّ فواضحُ

فويلُ امِّها من خلَّةٍ لوْ تنكَّرتْ … لأعدائنا أوْ صالحتْ منْ تُصالحُ

وقال آخر:

قفي أخبريني ثمَّ حُكمكِ واجبٌ … عليَّ إذا خبَّرتِ ما أنا سائلُ

متى أنا ناجٍ يا قتولُ فأوْمأتْ … بطرفٍ كفى رجعَ الَّذي أنا قائلُ

وقال آخر:

ألا حبَّذا الدَّهْنا وطيبُ تُرابها … وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلَ هامُها

ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى … إلى نفرٍ وحيُ العُيونِ كلامُها

وأنشدني الفضل بن أبي طاهر:

إشارةُ أفواهٍ وغمزُ حواجبٍ … وتكسيرُ أجفانٍ وكفٌّ تُسلِّمُ

وألسنُنا معقودةٌ عنْ شَكاتنا … وأبصارُنا عنها الصَّباباتِ تفهمُ

وقال ابن الوليد عبيد الطائي:

يتبسَّمنَ من وراءِ حواشي الرَّيْ … طِ عن بردِ أُقحوانِ الثُّغورِ

ويُساقطنَ والرَّقيبُ قريبٌ … لحظاتٍ يُعلنَّ سرَّ الضَّميرِ

ضعُفَ الدَّهرُ عن هواها وما الدَّهْ … رُ علَى كلِّ دولةٍ بقديرِ

ليسَ في العاشقينَ أنقصُ حظّاً … في التَّصابي من واصلٍ مهجورِ

أمَّا هذا الكلام فكلام متغطرس علَى الأيام وقد كان يقال عند الثِّقة بالأيَّام تُحذر الغِيَر.

وقال إبراهيم النظّام:

ونشكو بالعيونِ إذا التقينا … فنفهمُهُ ويعلمُ ما أردْتُ

أقولُ بمُقلتي أنْ متُّ شوقاً … فيوحي طرفهُ أنْ قدْ علمْتُ

قال ذو الرمّة:

ألِمَّا بميٍّ قبلَ أنْ تطرحَ النَّوى … بنا مطرحاً أوْ قبلَ بينٍ يُزيلُها

ولو لمْ يكنْ إلاَّ معرَّسُ ساعةٍ … قليلاً فإنِّي نافعٌ لي قليلُها

خليليَّ عُدَّا حاجتي من هواكُما … ومن ذا يُداوي النَّفسَ إلاَّ خليلُها

وقال أيضاً:

وإنِّي ليُرضيني قليلُ نوالكُمْ … وإن كنتُ لا أرضى لكمْ بقليلِ

بحُرمةِ ما قد كانَ بيني وبينكمْ … منَ الوُدِّ ألاَّ عُدتمُ بجميلِ

وقال جميل:

ويقُلنَ إنَّكَ قدْ رضيتَ بباطلٍ … منها فهلْ لكَ في اعتزالِ الباطلِ

ولَباطلٌ ممَّنْ أحبُّ حديثَهُ … أشهى إليَّ منَ البغيضِ الباذلِ

ولرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها … بالجدِّ تخلطُهُ بقولِ الهازلِ

فأجبتُها بالقولِ بعدَ تستُّرٍ … حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي

لو كان في قلبي كقدرِ قُلامةٍ … فضلٌ وصلْتُكِ أوْ أتتكِ رسائلي

أما هذا فقد دلَّنا بغاية جهده على شدَّة تمكُّنها من قلبه وأخبرنا مع ذلك في شعره أنَّه لو تهيَّأ خلاص شيء من حبِّه من يدها لصرفه إلى غيرها وهذه حال لا تُرضي أهل الوفاء ولا يستعملها أهل الصَّفاء.

وقال آخر:

وإنِّي لأرضى منكِ يا ليلُ بالَّذي … لوُ اخبرَهُ الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ

بلى وبأنْ لا أستطيعَ وبالمُنى … وبالوعدِ حتَّى يسأمَ الوعدَ آملُهْ

وبالنَّظرةِ العَجلى وبالحولِ تنقضي … أواخرهُ لا تلتقي وأوائلُهْ

هذه لَعمري قناعة شديدة تدلُّ على أن وراءها ذلَّة وكيدة لأن من يتهيَّأ له من يهواه لا يقنع بأن لا يراه وبأن يعده وعده إلاَّ يطالبه بوفائه ولعمري إنَّ هذه الحال تقرُّ عين المعادي وتسخن عين الموالي إلاَّ أنَّه وإن كان قد بالغ في القناعة فإنه قد التمس التعلُّل بالوعد وبتأميل اللقاء على البعد ومن قنع بترك اللقاء وأقام على حال الوفاء كان أتمَّ حالاً.

كما قال أبو دلف العجلي:

إنِّي وإنْ كنتُ لا أراكَ ولا … أطمعُ في ذاكَ سائرَ الأبدِ

لَقانعٌ بالسَّلامِ يبلُغني … أشفي غليلاً به منَ الكمدِ

وأدفعُ الهمَّ بالسُّرورِ إذا … أيقنتُ أنَّا جارانِ في بلدِ

ولبعض أهل هذا العصر:

أأيَّامَ هذا الدهرِ كمْ تعنفينَ بي … كأنْ لم ترى قبلي مُعنًّى ولا بعدي

نوالاً كرجعِ الطَّرفِ أعجلَهُ القذى … وضنّاً كضنِّ الجفنِ بالأعيُنِ الرُّمدِ

فمنْ يكُ مشتاقاً إلى نُجحِ موعدٍ … فها أنا مشتاقٌ إلى خلفِ الوعدِ

فلا خُلفَ إلاَّ بعدَ توكيدِ موعدٍ … ولا وعدَ إلاَّ عن صفاءٍ منَ الوُدِّ

وقد قذفتْ نفسي أجلَّ حُظوظها … لديكَ وفقدُ الحظِّ جُزوءٌ منَ الفقدِ

وقال آخر:

أوَجْدٌ علَى وجدٍ وأنتِ بخيلةٌ … وقد زعموا أنْ لا يحبَّ بخيلُ

بلى والَّذي حجَّ المُلبُّونَ بيتَهُ … ويُشفى الجوى بالنَّيلِ وهو قليلُ

وقال آخر:

يقرُّ بعيني أن أرى من مكانهِ … ذُرى عُقُداتِ الأبرَقِ المُتقاودِ

وأنْ أرِدَ الماءَ الَّذي وردتْ بهِ … سُليمى إذا ملَّ السُّرى كلُّ واحدِ

فأُلصقُ أحشائي بِبَردِ ترابهِ … وإنْ كانَ مخلوطاً بسُمِّ الأساودِ

وقال آخر:

يقرُّ بعيني أن أرى كفَّةَ الغضا … إذا ما بدتْ يوماً لعيني قِلالُها

ولستُ وإنْ أحببتُ من يسكنُ الغضا … بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها

وقال جميل:

قد ماتَ قبلي أخو فهدٍ وصاحبُهُ … مُرقِّشٌ واشتفى من عُروةَ الكمدُ

إنِّي لأحسبُ أوْ قد كدتُ أعلمُهُ … أنْ سوفَ توردُني الحوضَ الَّذي وردوا

فما يضرُّ امرءاً أمسى وأنتِ لهُ … أنْ لا يكونَ من الدُّنيا لهُ سندُ

وقال أيضاً:

يُكذِّبُ أقوالَ الوشاةِ صدودُها … ويجتازُها عنِّي كأنْ لا أريدُها

وتحتَ مجاري الدَّمعِ منَّا مودَّةٌ … تُلاحظُ سرّاً لا يُنادى وليدُها

رفعتُ عن الدُّنيا المنى غيرَ وُدِّها … فما أسألُ الدُّنيا ولا أستزيدُها

وقال أيضاً:

منَ الخفِراتِ البيضِ أُخلِصَ لونُها … تُلاحي عدوّاً لم تجدْ ما يعيبُها

فما مُزنةٌ بينَ السِّماكَيْنِ أوْ مضتْ … منَ النُّورِ ثمَّ استعرضَتْها حبوبُها

بأحسنَ منها يومَ قالتْ وعندنا … من النَّاسِ أوباشٌ يُخافُ شغوبُها

تعايَيْتَ فاستغنيتَ عنَّا بغيرنا … إلى يومِ يلقى كلَّ نفسٍ حسيبُها

وددْتُ ولا تُغني الوَدادةُ أنَّها … نصيبي منَ الدُّنيا وأنِّي نصيبُها

وقال آخر:

هلِ الله عافٍ عنْ ذُنوبٍ تسلَّفتْ … أمِ الله إنْ لمْ يعفُ عنها يُعيدُها

وكُنَّا إذا دانتْ بذلفاءَ نيَّةٌ … رضينا بدُنيانا فما نستزيدها

وقال أيضاً:

عاتبةٌ لم أغنَ عن وصلها … يقتلُ في أجفانها السِّحرُ

إن نظرتْ قلتُ بها ذلَّةٌ … أوْ خطرتْ قلتُ بها كِبرُ

أصبحتُ لا أطمعُ في وصلها … حسبيَ أن يبقى ليَ الهجرُ

وقال آخر:

صدودكَ عنِّي إذْ أسأتُ يسرُّني … ولم أرَ قبلي عاشقاً سُرَّ بالصَّدِّ

سُررتُ بهِ أنِّي تيقَّنتُ أنَّما … دعاكَ إليهِ رغبةٌ منكَ في ودِّي

ولو كنتَ فيَّ زاهداً لم تبالِ بي … ولكنَّما عتبُ المحبِّ منَ الوجدِ

فيا فرحةً لي إذْ رأيتُكَ عاتباً … عليَّ لذنبٍ كانَ منِّي بلا عمدِ

وقال البحتري:

أخٌ ليَ لم تتَّصلْ نِسبتي … بقُربى أبيه ولا أمِّهِ

تنكَّرَ حتَّى لأنكرْتُهُ … خلا أنَّني عارفٌ باسمهِ

وما ليَ منهُ سوى رِقَّةٍ … يُراحُ بها الشِّعرُ من فهمهِ

كذا المسكُ ما فيه مُستَمْ … تَعٌ لمُتَّخذيهِ سوى شمِّهِ

وقال إبراهيم بن العباس:

منِّي الصِّبرُ ومنكَ اله … جرُ فابلغْ بي مداكا

بعُدتْ همَّةُ عينٍ … طمعتْ في أن تراكا

أوَ ما حظٌّ لعينٍ … أن ترى من قد يراكا

أو ترى من قد رأى من … قد رأى من قدْ رآكا

وقال بعض الأعراب:

أيا جبليْ نُعمانَ قلبي إليكُما … مسرٌّ هوى مُستأنسٌ بلِقاكُما

كتمتُ جميعَ النَّاسِ وجدي عليكُما … وأضمرتُ في الأحشاءِ منِّي هواكُما

دعا لكما قلبي الحنينُ وإنَّهُ … ليُؤنسُ عيني أن ترى من يراكُما

وقال بعض الأعراب:

وإنَّ الَّذي أرضى بهِ من نوالِها … عليها وإنْ ضنَّتْ بهِ ليَسيرُ

سلامٌ بعينٍ أوْ سلامٌ بحاجبٍ … إذا ما بهِ لمْ تدرِ كيفَ تُشيرُ

وقال الأحوص بن محمد:

وقد جئتُ الطَّبيبَ لسُقمِ نفسي … ليَشفيها الطَّبيبُ فما شفاها

وكنتُ إذا سمعتُ بأرضِ سُعدَي … شفاني من سقامي أنْ أراها

فمنْ هذا الطَّبيبُ لسُقمِ نفسي … سوى سُعدَي إذا شحطتْ نواها

وقال أيضاً:

أملامُ هلْ لمُتيَّمٍ تنويلُ … أم قد صرمْتِ وغالَ ودَّكِ غولُ

لا تصرميني منْ دلالكِ إنَّهُ … حسنٌ لديَّ وإنْ بخلتِ جميلُ

وقال البحتري:

ويحسنُ دلُّها والموتُ فيهِ … وقد يُستحسنُ السَّيفُ الصَّقيلُ

أقولُ أزيدُ من سقَمٍ فؤادي … وهلْ يزدادُ من قتلٍ قتيلُ

وقال آخر:

إنَّ الَّتي زعمتْ فؤادكَ ملَّها … خُلِقتْ هواكَ كما خُلقْتَ هوًى لها

حجبتْ تحيَّتها فقلتُ لصاحبي … ما كانَ أكثرَها لنا وأقلَّها

ولبعض أهل هذا العصر:

فإنْ تكنِ القلوبُ إذنْ تُجازَى … وأسلُكْ في الهوَى سَنناً سويَّا

فما لِي أهوَى الثَّقَلينِ جمعاً … عليكَ وأنتَ أكرمهمْ علَيَّا

عمرتُ سنينَ أسْتحفِي التَّصافِي … ولا أرضَى منَ الوصلِ الرَّضيَّا

فلمْ تُقلعْ صروفُ الدَّهرِ حتَّى … حُبستُ عنَ أنْ أجِي أوْ أنْ أُحيَّا

تبغَّضْ ما استطعتَ وعشْ سليماً … فأنتَ أحبُّ مخلوقٍ إليَّا

وقال أبو صخر الهذلي:

ويقرُّ عينِي وهيَ نازحةٌ … ما لا يقرُّ يَمينَ ذِي الحلمِ

إنِّي أرَى وأظنُّ أنْ سترَى … وضحَ النَّهارِ وعاليَ النَّجمِ

وهذه لعمري قناعة مفرطة في بابها وإن كانت مقصِّرة عن حال التَّمام لأن صاحب هذه الحال يستجلب بُعداً لنفسه نسيم الوصال وما قصَّر عن هذا النحو الَّذي يقول:

أتانِي عنكِ سبُّكِ لِي فسُبِّي … أليسَ جرَى بفيكِ اسمِي فحسْبي

فسُبِّي ما بدَا لكِ أنْ تسبِّي … فما ذا كلُّهُ إلاَّ لحبِّي

وقال آخر في هذا المعنى فما قصّر:

تعاللْتِ كيْ أُشجى وما بكِ علَّةٌ … تُريدينَ قتلِي قدْ ظفرتِ بذلكِ

لئنْ ساءنِي أنْ نِلتِي بمساءةٍ … لقدْ سرَّنِي أنِّي خطرتُ ببالكِ

وأنشدني أحمد بن يحيى أبو العباس:

يا أيُّها الرَّاكبُ الغادِي لطيَّتهِ … عرِّجْ أُنبِّكَ عنْ بعضِ الَّذي أجدُ

ما عالجَ النَّاسُ مِنْ وجدٍ ألمَّ بهمْ … إلاَّ وجدتُ بهِ فوقَ الَّذي وجدُوا

حسبِي رضاهُ وأنِّي في مسرَّتهِ … وودِّهِ آخرَ الأيَّامِ أجتهدُ

ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول ويقال أنَّه لأبي داود:

لا تنِلْني الرِّضا ولا تهوَ غيرِي … فكفانِي بذاكَ نيلاً ورِفْقا

غايَتي أنْ أراكَ حيّاً وأُضحِي … آمناً أنْ تُعيرَ طرفكَ خلقَا

ثمَّ لا أستزيدُ منكَ ولا أطْ … لبُ نيلاً ولوْ تقطَّعتُ عشقَا

ولبعض أهل هذا العصر في مثله:

أمرتَ ألاَّ أتشكَّى الهوَى … وفعلُ ما تهواهُ مفروضُ

فلستُ أعدُو حدَّ ما قلتهُ … حسبِي منَ التَّصريحِ تعريضُ

وكلُّ هذه الأحوال ناقصة عن حدِّ التَّمام على عجب أصحابها بها وافتخارهم بذكرها وتوهُّمهم أن قد تهيَّأ لهم على أنفسهم ما لم يتهيَّأ لغيرهم من صبرها لأحبابهم على الحظِّ اليسير من نوالهم وأتمُّ من هؤلاء في الحال وأحسن صبراً على قليل النوال بل على ترك جميعه من رضي من النَّيل بسلامة محبوبه وكان ذلك نهاية مطلوبه.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

إلاَّ تكنْ في الهوَى أرويتَ مِنْ ظمإٍ … ولا فككتَ منَ الأغلالِ مأسورا

لقد ذللتُ علَى محضِ الهوَى لكَ لا … لأجلِ ما كانَ مرجوّاً ومدخورا

فحسبُ نفسِي عَناً علمِي بوضِعِها … منَ الهوَى وحسبُ أنْ كنتُ معذورَا

فأينَ أذهبُ بلْ ماذا أُريدُ منَ ال … أيَّامِ أروِي عليها الإفكَ والزُّورا

وأنتَ ذاكَ وقلبِي ذا الَّذي ملكَتْ … هواهُ نسُفْكَ إكراهاً وتخْييرا

لمْ يهوكَ القلبُ إنْ أظهرتَ أنتَ لهُ … برّاً فيسلاكَ إذْ أظهرتَ تقصيرَا

ولمْ يكنْ باختيارٍ لي فأتركهُ … ولا اضطرارٍ أتاهُ القلبُ مَقهورا

لكنَّهُ مِنْ أمورِ اللهِ ممتنعٌ … في الوصفِ قدَّرهُ الرَّحمانُ تقديرَا

لنْ يُضبطَ العقلَ إلاَّ ما يدبِّرُهُ … ولنْ ترَى في الهوَى بالعقلِ تدبيرَا

كنْ مُحسناً أوْ مُسيئاً وابقَ لي أبداً … تكنْ لديَّ علَى الحالينِ مشكورَا

أصل الحجاب يكون من جهتين إمَّا أن يقع من المحبوب اختياراً وإمَّا أن يوقعه غيره به اضطراراً فأمَّا الاضطرار فقسم واحد وهو صون المحبوب عن المحجوب وأما الاختيار فينقسم على ضروب فربَّما كان امتحاناً للمحبِّ من المحبوب وربَّما كان خوفاً عليه من الرَّقيب وربَّما كان استدعاءً للزيادة في الحال وربَّما كان إشفاقاً على النَّفس من العذَّال وتصوُّناً عن قبيح المقال وربَّما كان على جهة الضَّجر والملال وهذا هو شرُّ الأحوال وفي كل ذلك قد قالت الشُّعراء ونحن إن شاء الله نذكر من ذلك بعض ما يتهيَّأ على حسب ما يحتمله العدد الَّذي شرطناه.

وأنشدني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر:

حجابٌ فإنْ تبدُو فللدَّمعِ جولةٌ … يكونُ لهُ مِنْ دونِ رؤيَتِها سِترا

فإنْ غاضَ دمعُ العينِ أقبلَ كاشحٌ … يردُّ جفونَ العينِ قدْ مُلئتْ ذُعرا

ومَنْ يشترِي منِّي حياتِي بمِيتَةٍ … أبعهُ حياةً يشترِي بعدَها قبرَا

ومَنْ يشترِي عَيْني بعينٍ صحيحةٍ … أزدهُ علَى عَيْنيَّ قلباً أبى الصَّبرا

وقال عبد الله بن طاهر:

إنْ يمنَعُوني ممرِّي نحوَ بابكمُ … فسوفَ أنظرُ مِنْ بُعدٍ إلى الدَّارِ

لا يقدِرونَ علَى منْعِي وإنْ جهدوا … إذا مررتُ وتسليمِي بإضمارِ

ما ضرَّ جيرانكمْ واللهُ يكلأُهمْ … لولا شقائِي إقبالِي وإدْبارِي

وقال قيس بن ذريح:

فإنْ يحجبُوها أو يحلْ دونَ وصلِها … مقالةُ واشٍ أوْ وعيدُ أميرِ

فلنْ يحجبُوا عينيَّ مِنْ دائمِ البُكا … ولنْ يُذهبُوا ما قدْ أجنَّ ضميرِي

وقال بعض الأعراب:

فإنْ يمنعُوا ليلَى وحسنَ حديثِها … فلنْ يمنعُوا منِّي البُكا والقوافِيا

فهلاَّ منعتمْ إذْ منعتمْ كلامَها … خيالاً يُوافينا علَى النَّأيِ هادِيا

وقال آخر:

لِي إلى الرِّيحِ حاجةٌ إنْ قضتْها … كنتُ للرِّيحِ ما حَييتُ غُلاما

حجبُوها عنِ الرِّياحِ لأنِّي … قلتُ للرِّيحِ بلِّغيها السَّلاما

وقال البحتري:

ويكفِي الفتَى مِنْ نُصحهِ ووفائهِ … تمنِّيهِ أنْ يُردَى ويسلمَ صاحبُهْ

فلا تحسَبا ترْكِي الزِّيارةَ جفوةً … ولا سوءَ جاذَبَتْني جواذبُهْ

ومَنْ لِي بإذنٍ حينَ أعدُو إليكُما … ودونكُما البرجُ المطلُّ وحاجبُهْ

وقال آخر:

خليليَّ ليسَ الهجرُ أنْ تشحطَ النَّوى … بإلفينِ دهراً ثمَّ يلتقيانِ

ولكنَّما الهِجرانَ أنْ تجمعَ النَّوى … وأُحصرَ عمَّنْ قد أرَى ويَرانِي

وقال البحتري:

فكمْ جئتُ طوعَ الشَّوقِ مِنْ بعدِ غايةٍ … إلى غيرِ مشتاقٍ وما ردَّنِي بشرُ

وما بالهُ يأْبَى دخولِي وقدْ أرَى … خُروجِيَ مِنْ أبوابهِ ويدِي صفرُ

وقال أيضاً:

إذا أتيتكَ إجلالاً وتكرمةً … رجعتُ أحملُ برّاً غيرَ مقبولِ

فإنْ أردْتكَ عرَّضتُ الرَّسولَ لِمَا … يُخشَى منَ الرَّدِّ واستأذنتُ مِنْ ميلِ

وقال أبو تمام الطائي:

صبراً علَى المطلِ ما لمْ يتلهُ الكذبُ … فللخطوبِ إذا سامحتُها عقبُ

ليسَ الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملاً … إنَّ السَّماءَ تُرجَّى حينَ تحتجبُ

وقال ابن أبي طاهر:

حُجبتُ وقدْ كنتُ لا أُحجبُ … وأُبعدتُ عنكَ فما أقربُ

وما ليَ ذنبٌ سوَى أنَّني … إذا أُغضبتُ لا أغضبُ

وأنْ ليسَ دونكَ لي مطلبٌ … ولا دونَ بابكَ لي مهربُ

فليتَكَ تبقَى سليمَ المحلّ … وتأذنُ إنْ شئتَ أوْ تَحجبُ

وقال العرجي:

لقدْ أرسلتْ ليلَى رسولاً بأنْ أقمْ … ولا تقرَبَنَّا فالتَّجنُّبُ أمثلُ

لعلَّ العيونَ الرَّمِقاتِ لودِّنا … تُكذِّبُ عنَّا أوْ تنامُ فتغفلُ

أناسٌ أمنَّاهمْ فنمُّوا حديثَنا … فلمَّا كتمْنا السِّرَّ عنهمُ تقوَّلوا

فما حفظُوا العهدَ الَّذي كانَ بينَنا … ولا حينَ همُّوا بالقطيعةِ أجمَلوا

فقلتُ وقدْ ضاقتْ بلادِي برُحْبها … عليَّ بما قدْ قيلَ والعينُ تهملُ

سأجتنبُ الدَّارَ الَّتي أنتمُ بها … ولكنَّ طرفِي نحوَها سوفَ يُعملُ

ألمْ تعلمِي أنِّي وهل ذاكَ نافِعِي … لديكِ وما أُخفِي منَ الودِّ أفضلُ

أرَى مستقيمَ الطَّرفِ ما الطَّرفُ أَمَّكمْ … وإنْ رامَ طرفِي غيركمْ فهوَ أحولُ

وقال آخر:

ألا طرقتْنا آخرَ اللَّيلِ زينبٌ … عليكِ سلامٌ هلْ لِما فاتَ مطلبُ

وقالتْ تجنَّبنا ولا تقرَبَنَّنا … فكيفَ وأنتمْ حاجَتِي أتجنَّبُ

وقال آخر:

اللهُ يعلمُ ما ترْكي زيارتكمْ … إلاَّ مخافةَ أعدائِي وحرَّاسِي

ولوْ قدرتُ علَى الإتيانِ جئتكمُ … سبحاً علَى الوجهِ أوْ مشياً علَى الرَّأسِ

وقال آخر:

عُقيلِيةٌ أمَّا مَلاتَ إزارِها … فدِعْصٌ وأمَّا خصرُها فثقيلُ

تقيظُ بأكنافِ الحِمَى ويظلُّها … بنُعمانَ منَ وادِي الأراكِ مَقيلُ

أيا مَنْ كتمْنا حبَّها لمْ نُطعْ بهِ … عدوّاً ولم يُؤمنْ عليهِ دخيلُ

ويا خلَّةَ النَّفسِ الَّتي ليسَ دونَها … لنَا مِنْ أخلاَّءِ الصَّفاءِ دخيلُ

أمَا مِنْ مقامٍ نشتكِي غُربةَ النَّوى … وخوفَ العِدَى فيهِ إليكِ سبيلُ

فديتكِ أعدائِي كثيرٌ وشُقَّتي … بعيدٌ وأشياعِي إليكِ قليلُ

وكنتُ إذا ما جئتُ جِئتُ بعلَّةٍ … فأفنيتُ علاَّتي فكيفَ أقولُ

فما كلَّ يومٍ لي بأرضِكِ حاجةٌ … ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسولُ

أليسَ قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها … إليكِ وكلٌّ منكِ ليسَ قليلُ

وقال البحتري:

قدَّمتَ قُدَّامي رجالاً كلُّهمْ … متخلِّفٌ عنْ غايتِي مُتقاعسُ

وأذلتَنِي حتَّى لقدْ أشمتَّ بِي … مَنْ كانَ يحسدُ منهمُ ويُنافسُ

أوعدْتَني يومَ الخميسِ وقدْ مضَى … مِنْ بعدِ موعدكَ الخميسَ الخامسُ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه:

إذا كنتَ لا تحفَى بقُربِي ولا بُعدِي … ولمْ تدرِ ما عِندي وقدْ جلَّ ما عِندِي

فهلْ أنتَ إنْ حكَّمتُ جودكَ منصفٌ … فما لي عليهِ غيرُ جودكَ مِنْ مُعدِ

أبَى الحقُّ أنْ يخفَى وأقضِي ولا أرَى … بجودكَ يوماً في سعيدٍ ولا سعدِ

ويدفعُ في صدرِي حجابكَ بعدَما … أكونُ وما قبلِي لأُنسٍ ولا بعدِي

فما لِي قدْ أُبعدتُ عنكَ وطالَما … دعوتُ فلمْ تُبعدْ نداكَ علَى بُعدِي

وأصبحتُ قدْ شوركتُ فيك ولمْ نزلْ … كغُصنينِ في ساقٍ وسيفينِ في غمدِ

أللجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ مازحٌ … فكمْ مِنْ مُزاحٍ عادَ يوماً إلى الجدِّ

وليسَ دوامُ الشُّكرِ يوماً بواجدٍ … لمنْ لمْ يدمْ منهُ الوفاءُ علَى العهدِ

ولبعض أهل هذا الزمان:

بعينيكَ ما ألقَى إذا كنتَ حاضراً … وإنْ غبتَ فالدُّنيا عليَّ محابسُ

ففيمَ أرَى نفسِي لقًى بفنائكمْ … ولا مَنْ يُدانيني لديكمْ مُؤانسُ

أتحجُبُني أنْ قلتَ تحسدُ مَنْ بغَى … هوايَ ومَنْ أحفَى بهِ وأُوانسُ

أجلْ إنَّ مَنْ يبغِي هواكَ محسَّدٌ … عليكَ ومنْ يهوَى هواهُ منافسُ

إذا لمْ أُنافسْ في هواكَ ولمْ أغَرْ … عليكَ ففيمنْ ليتَ شِعرِي أُنافسُ

فلا تحتقرْ نفسِي وأنتَ حبيبُها … فكلُّ امرئٍ يصبُو إلى مَنْ يُجانسُ

وقال جرير:

قتلْنَنا بعيونٍ زانَها مرضٌ … وفي المراضِ لنا شجوٌ وتعذيبُ

حتَّى متى أنتَ مشغوفٌ بغانيةٍ … صبٌّ إليها طوالَ الدَّهرِ مكروبُ

قدْ تيَّمَ القلبَ حتَّى زادهُ خَبَلاً … مَنْ لا يكلِّمُ إلاَّ وهو محجوبُ

وأرى في هذه المقطوعة ومقطوعات قبلها ما يدلُّ على ضجر من المحجوب وقلَّة صبر منه على نازلات الخطوب ولعمري كان الضَّجر على ما لا يصلح منه الانتصار ولا ينبسط عليه الاقتدار مهجِّناً لمظهره ومزرياً بمستشعره فإنَّ من تسامح له الزَّمان وتغافلت عنه صروف الأيَّام فوقع في مرعى خصيب وظفر بما لم يأمله المحبوب ثمَّ عطفت عليه الأيَّام عطفة الحنق المغتاظ فاسترجعت ما أعطته واستردَّت ما أعارته لغير معنَّف على الحيرة والتَّخليط والتَّأسُّف على ما قدَّم من التَّفريط.

وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:

ألا مَنْ لقلبٍ قدْ دعاهُ تَجاسُرُهْ … وضاقتْ بهِ بعدَ الورودِ مصادرهْ

تغافلَ عنهُ الدَّهرُ فاغترَّ بالمُنى … فلمَّا أضاعَ الحزمَ كرَّتْ عساكرهْ

فأصبحَ كالمأسورِ طالتْ عُداتهُ … عليهِ وذلَّتْ بعدَ عزٍّ عشائرهْ

تجرَّتْ عليهِ النَّائباتُ فأصبحتْ … بكلِّ الرَّدى غيرَ الحِمامِ تُبادرهْ

وقدْ كانَ صرفُ الدَّهرِ يُقبلُ نحوهُ … إذا جالَ في بحرٍ منَ الفكرِ خاطرهْ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي في نحو ذلك:

ربَّ قومٍ قدْ غدَوْا في نعمةٍ … وعُلا عزٍّ عَلا ثمَّ بسَقْ

سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهمُ … ثمَّ أبكاهمْ دماً حينَ نطقْ

وفي مثله يقول عدي بن زيد:

قدْ أرانَا وأهلُنا بخفيرٍ … نحسبُ الدَّهرَ والسِّنينُ شُهورا

فأمِنَّا وغرَّنا ذاكَ حتَّى … راعَنا الدَّهرُ إذْ أتانا مُغيرا

إنَّ للدَّهرِ صولةً فاحْذَروها … لا تبيتنَّ قدْ أمنتَ الدُّهورا

قدْ ينامُ الفتَى صحيحاً فيردَى … ولقدْ باتَ آمناً مستُورا

ولعمري قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:

أعوامُ وصلٍ كانَ يُنسي طولَها … ذكرُ النَّوى فكأنَّها أيَّامُ

ثمَّ انبرتْ أيَّامُ هجرٍ أُردفتْ … بجوَى أسًى فكأنَّها أعوامُ

ثمَّ انقضتْ تلكَ السِّنينُ وأهلُها … وكأنَّهمْ وكأنَّها أحلامُ

وعلى أنَّه لا ينبغي للعاقل أن يفرط في الجزع من غير الأيَّام فإنَّ الدَّهر حالٌ بعد حالٍ وكما كان اتِّصال السُّرور ذريعة إلى وقوع المحذور فكذلك ربَّما كان وقوع المكروه من أقوى الأسباب لرجوع المحابِّ ولقد أحسن كل الإحسان الَّذي يقول:

قدْ ينعمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عظُمتْ … ويبتَلِي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ

وقد قيل في ذم الحاجب والمحجوب أشياء لا تصلح من محبّ إلى محبوب غير أنَّا نصل بذكر بعضها الباب لأنَّها وإن لم تكن داخلة في حقيقته فإنَّها غير خارجة من جملته.

أنشدنا أبو الضياء لنفسه:

كلُّ حجابِ المرءِ نقصٌ بهِ … وبعضهُ أقبحُ مِنْ بعضهِ

وحاجبُ المرءِ إذا اختارهُ … لنفسهِ تاهَ علَى عِرضهِ

وربَّما ذُمَّ علَى تيههِ … خليفةُ الرَّحمانِ في أرضهِ

وكمْ رأينَا حاجباً تائهاً … قدْ أُبغضَ المحجوبُ مِنْ بُغضهِ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:

لمَّا رأيتُ أميرَنا متهجِّماً … ودَّعتُ عرصةَ دارهِ بسلامِ

ورفضتُ صفحتهُ الَّتي لمْ أرضَها … وأزلتُ عنْ رتبِ الدّناةِ مقامِي

ووجدتُ آبائِي الَّذينَ تقدَّموا … سنُّوا الإباءَ علَى الملوكِ أمامِي

وقال أيضاً أحمد بن يحيى:

سأتركُ هذا البابَ ما دامَ إذنهُ … علَى ما أرَى حتَّى تلينَ قليلا

إذا لمْ نجدْ يوماً إلى الإذنِ سلَّماً … وجدْنا إلى تركِ المجيءِ سبيلا

وقال البحتري:

ولمَّا وقفْنا ببابِ الوزيرِ … وقدْ رُفعَ السِّترُ أوْ جانبهْ

ظللْنا نُرجِّمُ فيكَ الظُّنونَ … أحاجمُهُ أنتَ أمْ حاجبهْ

وقال ابن عبدوس لنفسه:

قدْ أتيناكَ وإنْ كنْ … تَ بنا غيرَ حقيقِ

وتوخَّيناكَ بالبِ … رِّ علَى بُعدِ الطَّريقِ

كلَّما جئناكَ قالوا … نائمٌ غيرُ مفيقِ

لا أَنامَ اللهُ عينَيْ … كَ وإنْ كنتَ صديقِي

ذكروا أنَّ جميلاً وكثيِّراً التقيا فقال جميل لكثيّر بأني أريد أن تصير إلى بثينة فتأخذ لي عليها موعداً، فقال له: ويحك من عند عمِّها جئت وغاشية أهلها كثير قال له جميل: إنَّ الحيلة تأتي من وراء ذلك فقال له كثيّر: فأعطني علامة تعرفها قال جميل: آخر يوم التقينا كنَّا في وادي الدَّوم فأصاب ثوبها شيء من ورق الشَّجر فغسلته فمضى كثيّر إلى عمِّها فقال له: ما الَّذي ردَّك؟ فقال: أبيات صنعتها في عزَّة أحببت أن تسمعها قال: وما هي؟ فأنشأ يقول:

أقولُ لها يا عزَّ أرسلَ صاحبِي … علَى نأْيِ دارٍ والموكَّلُ مُرسلُ

بأنْ تجعلِي بيني وبينكِ موعداً … وأنْ تأمُريني ما الَّذي فيهِ أفعلُ

أما تذكرينَ العهدَ يومَ لقيتكمْ … بأسفلِ وادِي الدَّومِ والثَّوبُ يُغسلُ

فلمَّا سمعت ذلك بثينة قالت: إخسأ قال لها عمُّها: ما الَّذي أخسأت يا بثينة؟ قالت: كلباً كان يعترينا ليلاً وقد رأيته نهاراً فانصرف كثيّر إلى جميل وعرَّفه أنَّا قد ذكرت اللَّيل فصر إليها.

وقال آخر:

إنَّ الَّتي أبصرْتها … سحَراً تكلِّمُني رسولُ

أدَّتْ إليَّ رسالةً … كادتْ لها نفسِي تسيلُ

فَلَوَ انَّ أُذنكَ بينَنَا … حتَّى تسمَّعَ ما نقولُ

لرأيتَ ما استقبحتَهُ … مِنْ فعلِنا وهوَ الجميلُ

وقال آخر:

خليليَّ عُوجا باركَ اللهُ فيكُما … وإنْ لمْ تكنْ أرضِي لأرضِكُما قصدا

وقولا لها ليسَ الضَّلالُ اختيارَنا … ولكنَّنا جُزْنا لنلقاكمُ عمْدا

وقال آخر:

ألا يا نسيمَ الرِّيحِ إنْ كنتَ هابطاً … بلادَ سُليمى فالتمسْ أنْ تكلَّما

لتَقْرَا علَى ليلى السَّلامَ وأهلِها … وكنْ بعدَها عنْ سائرِ النَّاسِ أعجَما

وقال خليفة بن روح الأسدي:

ألا يا خليلَ النَّفسِ إنْ جئتَ أرضَها … فأنتَ لمشهورٌ هناكَ رسولُ

فسلْ أُمَّ سلمٍ هلْ محا عهدَها الغِنى … ومالٌ حوتهُ بعدَنا وخليلُ

وباللهِ سلْهَا هلْ تطاولَ ليلُها … كما اللَّيلُ إذْ بانتْ عليَّ طويلُ

وإنَّ لسانِي باسمِ ليلَى وذكرِها … إذا قلتُ تشبيهاً بها لذلولُ

وقال ابن أبي أمية:

أقولُ وقدْ أجدَّ رحيلُ صحْبِي … لِخِدْنَيَّ اهدِيا هدياً جميلا

ألِمَّا قبلَ بينِكُما بسُلمى … فقولا أنتِ ضامنةٌ قتيلا

رجَا منكِ النَّوالَ فلمْ تُنيلِي … وقد أورثتهِ سقماً طويلا

فإن وصلتْكُما سُلمى فقولا … نرَى في الحقِّ أنْ نصلَ الوَصولا

وإنْ آنستُما بخلاً فلسْنا … بأوَّلِ مَنْ رجَا حرجاً بَخيلا

وقال المقدام بن ضيغم:

أخا الجنِّ بلِّغْها السَّلامَ فإنَّني … منَ الإنسِ مزورُّ الجَنانِ كتومُ

أخا الجمِّ حالُ النَّاسِ بيني وبينَها … عدوٌّ ومُستَحْياً عليَّ كريمُ

وقال يزيد بن الطثرية:

ألمَّا علَى ظلاَّمَة اليومَ فانْطِقا … بعُذرِي لديها واذْكُراني تعجُّبا

وقولا إذا عدَّتْ ذنوباً كثيرةً … عليَّ تجنَّاها امرؤٌ ما تغبَّبَا

هَبيهِ امرءاً إمَّا بريئاً ظلمتهِ … وإمَّا مُسيئاً تابَ بعدُ وأعْتَبا

وقال أيضاً:

أيا رِفقةً مِنْ أهلِ بُصرَى تحمَّلتْ … تؤمُّ الحِمى لُقِّيتِ مِنْ رفقةٍ رُشدا

إذا ما بلغتمُ سالمينَ فبلِّغوا … تحيَّةَ مَنْ قد ظنَّ أنْ لا يرَى نجدا

وقولا تركْنا الحارثيَّ مكبَّلاً … بكبلِ الهوَى مِنْ حبِّكمْ مضمراً وجْدا

وقال عمر بن أبي ربيعة:

أرسلتْ أسماءُ في معتبةٍ … عتِبَتْها وهيَ أحلى مَن عتبْ

إذْ أتى منها رسولٌ موهناً … وجدَ الحيَّ نياماً فانقلبْ

ضربَ البابَ فلمْ يشعرْ بهِ … أحدٌ يفتحُ عنهُ إذْ ضربْ

قالَ أيقاظٌ ولكنْ حاجةٌ … عرضتْ تُكتمُ منَّا فاحتجبْ

ولهذا ردَّنِي فاجتهدتْ … بيمينٍ حلفتْ عندَ الغضبْ

أُشهدُ الرَّحمانَ لا يجمعُنا … سقفُ بيتٍ رحِباً حتَّى وجبْ

قلتُ يا هندُ اعمِدِي لي نحوَها … واحلِفي باللهِ كشَّافِ الكربْ

فأتتها طبَّةٌ عالمةٌ … تخلطُ الجدَّ مراراً باللَّعبْ

ترفعُ الصَّوتَ إذا لانتْ لها … وتَراخَى عندَ سوراتِ الغضبْ

لمْ تزلْ تصرِفُها عنْ رأيِها … وتأَنَّاها برفقٍ وأدبْ

فبلغني أنَّ ابن أبي عتيق لمَّا سمع هذا الشعر قال لعمر بن أبي ربيعة النَّاس في طلب خليفة مثل قوَّادتك هذه منذ قتل عثمان بن عفان فما يقدرون عليه.

وقال أبو تمام الطائي:

أغنيتَ عنِّي غَناءَ الماءِ في الشَّرقِ … وكنتَ منشئَ وبلِ العارضِ الغدقِ

يا منَّةً لكَ لولا ما أُخفِّفُها … بهِ منَ الشُّكرِ لم تُحملْ ولمْ تطقِ

وقال أيضاً في وصفه كتاباً ورد عليه وأحسن:

فضضتُ خِتامهُ فتبلَّجتْ لِي … غرائبهُ عنِ الخبرِ الجليِّ

وكانَ أجلَّ في عيني وأبهَى … علَى كبدِي منَ الزَّهرِ النَّديِّ

وأحسنَ موقعاً منِّي وعندِي … منَ البُشرَى أتتْ بعدَ النَّعيِّ

وضُمِّن صدرهُ ما لمْ تضمَّنْ … صدورُ الغانياتِ من الحليِّ

وقال البحتري:

تناءتْ دارُ عَلوةَ بعدَ قربٍ … فهلْ ركبٌ يبلِّغها السَّلاما

وجدَّدَ طيفُها عتباً علينا … فما يعتادُنا إلاَّ لِماما

وربَّةَ ليلةٍ قدْ بتُّ أُسقَى … بكفَّيها وعينيها المُداما

قطعنا اللَّيلَ لثماً واعتناقاً … وأفنيناهُ ضمّاً والتزاما

وقال أيضاً:

هل ركْبُ مكَّةَ حاملونَ تحيَّةً … تُهدى إلينا مِنْ معنًى مغرمِ

ردَّ الجفونَ علَى كرًى متبدِّدٍ … وحنَى الضُّلوعَ علَى جوًى متضرِّمِ

إن لمْ يبلغكَ الحجيجُ فلا رمَوْا … بالجمرتينِ ولا سُقوا مِنْ زمزمِ

وقال زيادة بن زيد:

ألمَّا بليلى يا خليليَّ فانظرا … وما لمْ تُلمَّا بابَها كانَ أكثرا

وعُوجا المطايا طالَما قدْ هجرتُها … عليها وإنْ كانَ المُعرَّجُ أغبرا

متى يرَها العَجلانُ لا يثنِ طرفهُ … إلى عينهِ حتَّى يحارَ ويحسرَا

ولوْ خلِّيتْ ليلى علَى اللَّيلِ مظلماً … لجلَّتْ ظلامَ اللَّيلِ ليلى فأقمرا

ولمْ أرَ ليلى بعدَ يومِ لقيتُها … تكفُّ دموعَ العينِ أنْ تتحدَّرا

فما بدَّدَ الهجرانَ يا ليلُ بيننا … وشحطَ النَّوى إلاَّ الهوَى والتَّذكُّرا

وكمْ دونَ ليلى بلدةٌ مُسبَطِرَّةٌ … وبيدٌ مَلاها العينُ حتَّى تحيَّرا

وقال نصيب:

خليليَّ زُورا العامريّةَ فانظُرا … أيبقَى لديها الودُّ أمْ يتقضَّبُ

وقولا لها إنْ يعتزِلْكِ فلا قلًى … ولكنَّهُ عنْ رقبةٍ يتجنَّبُ

يرَى دونكمْ مَنْ يتَّقي وهوَ إلفٌ … لكمْ ولهُ مِنْ دونكمْ مُترقَّبُ

فصدَّ وما يسطيعُ صرمكِ إنَّهُ … ولو صدَّ رهنٌ في حبالكِ مُنشبُ

وقال الأحوص:

إذا ما أتَى مِنْ نحوِ أرضكِ راكبٌ … تعرَّضتُ واستخبرتُ والقلبُ موجعُ

فأبدا إذا استخبرتُ عمداً بغيرِها … ليخفَى حديثِي والمخادعُ يخدعُ

وأُخفي إذا استخبرتُ أشياءَ كارهاً … وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليها تطلَّعُ

فسرُّكِ عندِي في الفؤادِ مكتَّمٌ … تضمَّنهُ منِّي ضميرٌ وأضلعُ

إلى اللهِ أشكُو لا إلى النَّاسِ حاجتِي … ولا بدَّ مِنْ شكوَى حبيبٍ يروَّعُ

ألا فارْحَمي مَنْ قدْ ذهبتِ بعقلهِ … فأمسَى إليكمْ خاشعاً يتضرَّعُ

إذا قلتُ هذا حينَ أسلُو ذكرتُها … فظلَّتْ لها نفسِي تتوقُ وتنزعُ

إن كان أحد من المرسَلين إلى أحبابهم والسَّائلين عن أخبارهم معذوراً فصاحب هذا الشِّعر معذور لأنه قد احتاط جهد وكتم سرَّه بحسب ما يمكنه وليس هذه حالة تامة ولا في باب المراسلات حال تامة غير أنَّ كلَّ ما قلَّ من الإظهار وانكتم من الأسرار كان صاحبه أعذر ممَّن أفرط في إظهار حاله وائتمن النَّاس علَى أسراره.

وقال آخر:

أتتْنا عيونٌ مِنْ بلادكِ لم تجئْ … لنا ببيانٍ منكِ ثمَّ عيونُ

وإنَّ منَ الخلاَّنِ من تشحطُ النَّوى … بهِ وهوَ راعٍ للودادِ أمينُ

ومنهمْ كغيبِ العينِ أمَّا لقاؤهُ … فحلوٌ وأمَّا غيبهُ فخؤونُ

وقال آخر:

ألا أيُّها الرَّكبُ اليمانونَ عرِّجوا … علينا فقدْ أضحَى هوانا يمانِيا

نُسائلكمْ هلْ سالَ نعمانُ بعدَنا … وحبَّ إلينا بطنُ نُعمانَ وادِيا

عهِدنا بهِ صيداً غزيراً ومشرباً … بهِ نُقعَ القلبُ الَّذي كانَ صادِيا

وأنشدني أعرابي بالبادية:

أيا ربِّ أنتَ المستعانُ علَى نوًى … لعزَّةَ قد أزرَى بجسمِي حِذارُها

أُسائلُ عنهمْ أهلَ مكةَ كلُّهمْ … بحيثُ التقى حجَّاجُها وتِجارُها

عسَى خبرٌ منها يُصادفُ رفقةً … مخلَّفةً أوْ حيثُ تُرمَى جمارُها

ومعتمرٍ في ركبِ عزَّةَ لمْ تكنْ … لهُ حاجةٌ في الحجِّ لولا اعتمارُها

لئنْ عزفتْ يا عزَّ نفسِي عنكمُ … لبعدٍ أشدَّ الوجدِ كانَ اصطبارُها

ولبعض أهل هذا العصر:

أتذكرُ اليومَ ما لاقيتُ مِنْ كمدٍ … أمْ قدْ كفاكَ رسولِي بالَّذي ذكرا

هذا مقامُ فتًى أقصاهُ مالكهُ … فحاولَ الصَّبرَ حيناً ثمَّ ما صبرا

بينَا يُعدِّدُ أحقاداً ويضمرُها … إذْ قادهُ الشَّوقُ حتَّى جاءَ معتذرا

لمْ يجنِ ذنباً فيدرِي ما يُمحِّصهُ … ولا يرَى أجلاً للصَّفحِ مُنتظرا

واللهِ واللهِ لا تُشمتْ أعاديَهُ … فالصَّفحُ أجملُ بالمولَى إذا قدرا

وقال سهيل بن عليل:

ألا أيُّها الرَّكبُ المخبُّونَ هلْ لكمْ … بأُختِ بني نهدٍ نُهَيَّةَ مِنْ عهدِ

أألقتْ عصاها فاستقرَّ بها النَّوى … بأرضِ بني قابوس أمْ ظعنتْ بعدِي

وقال آخر:

بعثتُ رسولاً فأضحَى خليلا … علَى الرُّغمِ منِّي فصبراً جميلا

وكنتُ الخليلُ وكانَ الرَّسولُ … فأضحَى خليلاً وصرتُ الرَّسولا

كذا مَنْ يوجِّهُ في حاجةٍ … إلى مَنْ يحبُّ رسولاً نبيلا

وزعموا أن جارية أرسلت جاريتها برسالة إلى خليل كان لها فاتَّهمته بأنه خمشها فكتب معتذراً من ذلك:

زعمَ الرَّسولُ بأنَّني خمَّشتهُ … كذبَ الرَّسولُ وفالقِ الأصباحِ

إن كنتُ خمَّشتُ الرَّسولَ فعافصتْ … روحِي أناملُ قابضِ الأرواحِ

شغلي بحبِّكِ عنْ سواكِ وليسَ لي … قلبانِ مشغولٌ وآخرُ صاحِ

قلبي الَّذي لمْ يُبقِ فيهِ هواكمُ … فضلاً لتخميشٍ ولا لمزاحِ

مكايد الوشاة كلُّها تنقسم على ثلاثة أقسام فسعاية المتحابَّين إلى غيرهما وسعاية المحبّ إلى محبوبه وسعاية المحبوب إلى محبِّه فهذه عند كثير من الأدباء أضعف المكايد أثراً وليس الأمر كذلك ولا هو أيضاً بضدِّ ذلك ولكنَّه محتاج إلى نقصان أمَّا العشَّاق والمتيَّمون فلا يقبلون قول الوشاة بل لا يسمعونه لأنَّ الثِّقة منهم بأحبابهم ماحيةٌ لقول من وشى بهم وأمَّا أهل الوله المدلَّهون فيقبلون ما لا يسمعون فضلاً عمَّا يسمعون لما قدَّمنا من وصفهم وغلبة الظّنِّ على أنفسهم ونحن نذكر إن شاء الله من كلِّ ما قيل في ذلك طرفاً.

وقال بعض الظرفاء:

ولمَّا رأينا الكاشحينَ تتبَّعوا … هوانا وأبدَوْا دونَنا أعيناً خُزرا

جعلتُ وما بي مِنْ جفاءٍ ولا قِلًى … أزورُكمُ يوماً وأهجركمْ شهرا

ولوْ نظرتْ بينَ الجوانحِ والحشا … رأتْ مِنْ كتابِ الحبِّ في كبدِي سطرا

وقال الأحوص:

يا بيتَ عاتكةَ الَّذي أتعزَّلُ … حذرَ العِدى وبهِ الفؤادُ موكَّلُ

أصبحتُ أمنحُكَ الصُّدودَ وإنِّني … قسماً إليكَ معَ الصُّدودِ لأميلُ

وتجنُّبي بيتَ الحبيبِ وذِكرَهُ … أُرضي البغيضَ به حديثٌ مُعضِلُ

هلْ عيشُنا بكَ في زمانكَ راجعٌ … فلقدْ تفحَّشَ بعدكَ المتعلِّلُ

ولوَ انَّ ما عالجتُ لينَ فُؤادهِ … فقَسَا استُلينَ بهِ للانَ الجندلُ

وقال معاذ ليلى:

إذا جئتُها وسْطَ النِّساءِ منحتُها … صدوداً كأنَّ النَّفسَ ليسَ تُريدُها

ولي نظرةٌ بعدَ الصُّدودِ من الهوَى … كنظرةِ ولْهى قد أُميتَ وحيدُها

وقال بعض الأعراب:

لَعمْرُ أبي المُحصينَ أيامُ نلتقي … لِما لا نُلاقيها منَ الدَّهرِ أكثرُ

يعدُّونَ يوماً واحداً إنْ أتيتُها … وينسونَ ما كانت من الدَّهر تهجرُ

وقال آخر:

أمُرُّ مجنِّباً عنْ بيتِ ليلى … ولمْ ألمِمْ بهِ وبهِ القليلُ

أمرُّ مُجنِّباً وهوايَ فيهِ … وطرفي عنهُ مُنكسرٌ كليلُ

وقلبي فيه مُحتبسٌ فهلْ لي … إلى قلبي ومالكِهِ سبيلُ

أُؤمِّلُ أنْ أُعلَّ بشربِ ليلى … ولم أنهلْ فكيفَ ليَ العُلولُ

وقال جميل:

أتهجرُ هذا الرَّبعَ أمْ أنتَ زائرُهْ … وكيفَ يُزارُ الرَّبعُ قد بانَ عامرُهْ

رأيتكَ تأتي البيتَ تُبغضُ أهلَهُ … وقلبكَ في البيتِ الَّذي أنتَ هاجرُهْ

وقال الحسين بن مطير:

بنفسيَ منْ لا بدَّ أنِّي هاجرُهْ … ومنْ أنا في الميسورِ والعُسرِ ذاكرُهْ

ومن قد رماهُ الناسُ حتَّى اتَّقاهمُ … بِبُغضيَ إلاَّ ما تجِنُّ ضمائرُهْ

ومن ضنَّ بالتَّسليمِ يومَ فراقهِ … عليَّ ودمعُ العينِ تجري بوادرُهْ

ومن بانَ منَّا يومَ بانَ وما درى … أكُنتُ أنا الموتورَ أم أنا واترُهْ

وحالَ بنو العمَّاتِ والعمُّ دونهُ … ونذْرُ عدوٍّ لا تُغبُّ نذائرُهْ

أتجهرُ بيتاً بالحجازِ تكنَّفتْ … جوانبَهُ الأعداءُ أنتَ زائرُهْ

فإنْ آتهِ لا أنجُ إلاَّ بظنَّةٍ … وإنْ يأتهِ غيري تُصبْني جرائرُهْ

وقال آخر:

ولمْ أرَ محزونَيْنِ أجملَ لوعةً … علَى نائباتِ الدَّهرِ منِّي ومن جُمْلِ

كلانا يذودُ النَّفسَ وهيَ حزينةٌ … ويُضمرُ شوقاً كالنَّوافذِ بالنَّبْلِ

وقال أبو القمقام الأسدي:

أعفراءُ كمْ من ميتةٍ قد أذقْتني … وحُزنٍ ألجَّ العينَ بالهَملانِ

بُلينا بهجرانٍ ولم يُرَ مثلنا … من النَّاسِ إنسانيْنِ مُهتجرانِ

أشدَّ مُصافاةً وأبعدَ من قِلًى … وأعصى لِواشٍ حينَ يُكتنفانِ

وقال معاذ ليلى:

أهابُكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ … عليَّ ولكنْ ملءُ عينٍ حبيبُها

وما هجرَتْكِ النَّفسُ يا ليلُ إنَّها … قليلٌ ولا أنْ قلَّ منكِ نصيبُها

ولكنَّهمْ يا أملحَ النَّاسِ أكثروا … بقولٍ إذا ما جئتُ هذا حبيبُها

أتُضربُ ليلى إن مررتُ بذي العصَى … وما ذنبُ ليلى إن طوى الأرضَ ذيبُها

وقال عروة بن حزام:

تكنَّفني الواشونَ من كلِّ جانبٍ … ولوْ كانَ واشٍ واحدٌ لَكفاني

إذا ما جلسنا مجلساً نستلذُّهْ … تواشَوا بنا حتَّى أملَّ مكاني

ألا لعنَ اللهُ الوُشاةَ وقولهُمْ … فُلانةُ أضحتْ خُلَّةً لفلانِ

ألا ليتَ كلَّ اثنينِ بينهُما هوًى … منَ النَّاس والأنعامِ يلتقيانِ

أناسيةٌ عفراءُ وصليَ بعدَ ما … جرى الدَّمعُ من عينيَّ بالهَملانِ

إذا رامَ قلبي هجرها حالَ دونها … شفيعانِ من قلبي لها جَدِلانِ

إذا قلتُ لا قالا بلى ثمَّ أصبحا … جميعاً علَى الرَّأيِ الَّذي يرَيانِ

وقال البحتري:

خليليَّ لا أسماءَ إلاَّ ادِّكارُها … ولا دارَ من وهْبينَ إلاَّ طُلولُها

تمادى بها الهجرُ المُبرِّحُ والنَّوى … بمسمعها قال الوشاةِ وقيلُها

وقد كثرَتْ منَّا المُعاصاةُ للصِّبى … ولوْ أنَّها قلَّتْ لضرَّ قليلُها

هلِ الوجدُ إلاَّ عبرةٌ أسترِدُّها … أوِ الحبُّ إلاَّ عثرةٌ أستقيلُها

وقال آخر:

خليليَّ إنِّي اليومَ شاكٍ إليكُما … وهل تنفعُ الشَّكوى إلى منْ يزيدُها

تفرُّقُ أُلاَّفٍ وجولانُ عَبرةٍ … أظلُّ بأطرافِ البنانِ أذودُها

ولا يلبثُ الواشونَ أنْ يصدعوا العصا … إذا لم يكنْ صلْباً علَى البرْيِ عودُها

وقال أبو علي البصير:

لقدْ قرعَ الواشي بأهوَنِ سعْيِهِ … صفاةً قديماً أخطأتْها القوارِعُ

فأقلقني في ضعْفهِ وهوَ ساكنٌ … وشرَّدَ عنْ عيني الكرى وهوَ هاجعُ

وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي ليزيد الغواني العجلي:

سرتْ عرْضَ ذي قارٍ إلينا وبطْنِهِ … أحاديثُ للواشي بهنَّ دبيبُ

أحاديثُ سدَّاها شبيبٌ ونارَها … وإن كانَ لم يسمعْ بهنَّ شبيبُ

وقد يكذبُ الواشي فيُسمعُ قولهُ … ويصْدقُ بعضُ القولِ وهوَ كذوبُ

وقال آخر:

فإنْ تكُ ليلى قدْ جفتْني وطاوعَتْ … علَى صرمِ حبلي من وشى وتكذَّبا

لقدْ باعدتْ نفساً عليها شفيقةً … وقلباً عصى فيها الحبيبَ المُقرَّبا

فلستُ وإنْ ليلى تولَّتْ بودِّها … وأصبحَ باقي الوصلِ منها تقضَّبا

بمُثْنٍ سوى عُرفٍ عليها ومُشمتٍ … وُشاةً بها كانوا شهوداً وعيَّبا

ولكنَّني لا بدَّ أنِّيَ قائلٌ … وذو اللُّبِّ قوَّالٌ إذا ما تعتَّبا

فلا مرحباً بالشَّامتينَ بهجرِنا … ولا زمنٍ أمسى بنا قدْ تقلَّبا

وقال معاذ ليلى:

فلوْ كانَ واشٍ باليمامةِ دارهُ … وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا

وماذا لهمْ لا أكثرَ اللهُ خيرهُمْ … منَ الحظِّ في تصريمِ ليلى حِباليا

وقال بعض الأعراب:

أما والرَّاقصاتِ بذاتِ عِرْقٍ … ومنْ صلَّى بنُعمانِ الأراكِ

لقدْ أضمرتُ حبَّكِ في فؤادي … وما أضمرتُ حُبّاً من سواكِ

أطعْتِ الآمريكِ بصرمِ حبْلي … مُريهِمْ في أحبَّتهمْ بذاكِ

فإنْ همْ طاوعوكِ فطاوعيهِمْ … وإن عاصوْكِ فاعصَيْ منْ عصاكِ

وقال ابن الدمينة:

ديارُ الَّتي هاجرتُ عصراً ولِلهوى … بقلبي إليها قائدٌ ومُهيبُ

لِتسلمَ من قولِ الوُشاةِ وإنَّني … لهُمْ حينَ يغتابونَها لَذنوبُ

أُمَيْمُ بقلبي من هواكِ زُمانةٌ … وأنتِ لها لوْ تبذلينَ طبيبُ

أُميمُ لقدْ غيَّبْتني وأرَيْتني … بدائعَ أخلاقٍ لهنَّ ضروبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

لئنْ رقدَ الواشي سروراً بما رأَى … وهانَ عليهِ أنْ يقرَّ وأنصبا

لقدْ أسهرَ العينينِ منِّي صبابةً … وغادرَ قلبي مُستهاماً معذَّبا

عدمتُ الهوَى إنْ كنتُ عاشرتُ وافياً … سواكَ وقد طوَّفتُ شرقاً ومغربا

فإنْ لمْ تدعْ ما لا أُحبُّ تظرُّفاً … ولا راعياً عهدِي فدعهُ تَحوَّبا

وأنشدني أحمد بن يحيى:

هجرتُ فلمَّا أنْ هجرتُكَ أصبحتْ … بنا شمَّتاً تلكَ العيونُ الكواشحُ

فلا يفرحِ الواشونَ بالهجرِ ربَّما … أطالَ المحبُّ الهجرَ والجيبُ ناصحُ

وتغدو النَّوى بينَ المحبّينِ والهوَى … معَ القلبِ مطويٌّ عليهِ الجوانحُ

وأنشدتني منيرة العصبية:

ما كانَ ذاكَ الهجرُ منِّي عنْ قِلًى … لا والَّذي رفعَ السَّما وبناها

إنِّي لَيَثنيني الحياءُ وأنثنِي … وأصدُّ بعضَ مودَّتِي اسْتبقاها

وإذا المناضلُ لم يكنْ متثبِّتاً … يبقَى مواقعَ نبلهِ أفناها

وقال آخر:

وتحسبُ ليلى أنَّني إنْ هجرتُها … حذارَ الأعادِي أنَّما بي هونُها

ولكنَّ ليلى لا تفي بأمانةٍ … فتحسبُ ليلى أنَّني سأَخونُها

وبي مِنْ هواها الدَّهرَ ما لوْ أبثُّهُ … جماعةَ أعدائِي بكتْ لِي عيونُها

وقال رجل من أزد:

فويحَكُما يا واشييْ أمِّ معمَّرٍ … لمنْ وإلى مَنْ جئتُما تشيانِ

لعلَّكما إنْ تُخبراني قليتُها … وأطعمتُها عندِي لها بهوانِ

بنفسيَ مَنْ لوْ أستطيعُ أتيتُهُ … سريعاً ومَنْ لو يستطيعُ أتانِي

ومَنْ لو أراهُ عاتباً لفديتُهُ … ومَنْ لو رآنِي عاتباً لفدانِي

وقال الأقرع بن معاذ القشيري:

ألا أيُّها الواشي بليلَى ألا ترَى … إلى مَنْ تَشِي بي أوْ بمنْ جئتَ واشِيا

لعمرُ الَّذي لمْ يرضَ حتَّى أُطيعهُ … بليلَى إذنْ لا يصبحُ الدَّهرَ راضِيا

إذا نحنُ رُمنا هجرَها ضمَّ حبَّها … ضميرُ الحشا ضمَّ الجناحِ الخَوافيا

وقال آخر:

كأنَّ عائبكمْ يُبدي محاسنكمْ … يأتِي ليُنقصكمْ عندِي فيُغريني

ما فوقَ حبِّيكِ حبٌّ لستُ أعلمهُ … فما يضرُّكِ ألاَّ تستَزِيدي

وقال البحتري:

يملأُ الواشِي جَنانِي ذُعراً … ويُعنِّيني الحديثُ المختلقْ

حبُّها أوْ فرَقٌ من هجرِها … وصريحُ الحبِّ ذُلٌّ أوْ فرَقْ

وقال حباب بن ملك العبشمي:

الحمدُ للهِ ما زالَ الوُشاةُ بِنا … من غيرِ مقْليةٍ حتَّى هجرْناها

الحمدُ للهِ قد كنَّا ولو نزلتْ … منَّا بأبعدَ من هذا لَزُرناها

وقال قيس بن ذريح:

تكنَّفني الوشاةُ فأزعجوني … فيا للنَّاسِ للواشي المُطاعِ

فأصبحتُ الغَداةَ ألومُ نفسي … علَى أمرٍ وليسَ بمُستطاعِ

كمغبونٍ يعضُّ علَى يديهِ … تبيَّنَ غَبنهُ بعدَ البِياعِ

وقد عشنا نلذُّ الدَّهر حيناً … لوَ انَّ الدَّهر للإنسانِ راعِ

ولكنَّ الجميعَ إلى زوالٍ … وأسبابُ الفِراقِ لها دواعي

المعاتبة على الذُّنوب من المحبِّ والمحبوب قد تجري على ضروب فمنها معاتبة استتابٍ تقع على الارتياب ليزول الشَّكّ بما يجري فيها من الجواب ومعاتبة تقع بعد اليقين يقصد بها العاتب إلى أن يعلم هل من ذلك الذَّنب عذر أم هو داخل في باب الغدر ومنها معاتبة توقيف تجري على جهة التَّعنيف وهذه حال لا تكاد تجري بين المتحابَّين إلاَّ عند انقطاع الحال بينهما أوْ عند ضجرة شديدة تلحقهما أوْ تلحق أحدهما وأحمد أحوال العتاب صيانة الحال عن أن يجري فيها شيء من الاختلال بقيا على المذنب لا بقيا على المؤنِّب وترك جميع المعاتبة يدخل في باب الإهمال والموقِّف على كلِّ ذنب يوجب قطع المواصلة واتّصال العتب.

قال الحسن بن هانئ:

مُنقطعٌ عنكَ كانَ متَّصلاً … أوْ نازلٌ بالفِناءِ فارتحلا

قد كانَ في الحقِّ أن يقالَ لهُ … ماذا دعاهُ إلى الَّذي فعلا

ما عدلَ النَّاسُ عنكَ لي أملاً … إلاَّ ثناهُ الرَّجاءُ فاعتدلا

وقال آخر:

حيِّ طيفاً من الأحبَّةِ زارا … بعدَ ما صرَّعَ الكرى السُّمَّارا

قالَ إنَّا كما عهدْتَ ولكنْ … شغلَ الحيُّ أهلهُ أن يُعارا

ولبعض أهل هذا العصر:

يا أخي كمْ يكونُ هذا الجفاءُ … كمْ تشفَّى بهجركَ الأعداءُ

صارَ ذا الهجرُ لي غذاءً ولكنْ … رُبَّما أتلفَ السَّقيمَ الغِذاءُ

سيِّدي أنتَ أينَ ذاكَ الصَّفاءُ … أينَ ذاكَ الهوَى وذاكَ الوفاءُ

أنتَ ذاكَ الأخُ القديمُ ولكنْ … ليسَ هذا الإخاءَ ذاكَ الإخاءُ

لي ذنوبٌ ولستُ أُنكرُ فاغفرْ … فالتَّجنِّي علَى المقرِّ اعتداءُ

لي حقوقٌ أيضاً عليكَ ولكنْ … ذكرُ مثلي لمثلِ هذا جفاءُ

وقال البحتري:

وكنتُ إذا استبْطأتُ وُدَّكَ زرتهُ … بتفويفِ شعرٍ كالرِّداءِ المُحبَّرِ

عتابٌ بأطرافِ القوافي كأنَّهُ … طِعانٌ بأطرافِ القنا المُتكسِّرِ

وقال آخر:

فلا عيشٌ كوصلٍ بعدَ هجرٍ … ولا شيءٌ ألذُّ منَ العِتابِ

تواقفَ عاشقانِ علَى ارتقابٍ … أرادا الوصلِ منْ بعدِ اجتنابِ

فلا هذا يملُّ عتابَ هذا … ولا هذا يملُّ منَ الجوابِ

وقال آخر:

ألهْفَ أبي لمَّا أدمْتُ لكَ الهوَى … وأصفيتُ حبِّي فيكَ والوجدُ ظاهرُ

وجاهرْتُ فيكَ النَّاسَ حتَّى أضرَّ بي … مُجاهرتي يا ويلَ فيمنْ أُجاهرُ

وكنتَ كفيْءِ الغصنِ بينا يظلُّني … ويعجبُني إذْ زعزعتْهُ الأعاصرُ

فصار لغيري واستدارتْ ظلالهُ … سوايَ وخلاَّني ولفحَ الهواجرِ

ولبعض أهل هذا العصر:

إذا اشتدَّ ما ألقاهُ هوَّنَ علَّتي … رضايَ بأنْ تحيى سليماً وأسقَما

فيا منْ يزيلُ الخوفَ عنِّي وفاؤُهُ … بعهدي ومنْ لولاهُ لم أُمسِ مُغرَما

أكانَ جميلاً أن ترانيَ مُهملاً … وتسكُتَ عن أمري ونهْيي تبرُّما

سأرعاكَ إنْ أكرمْتَني أوْ أهنْتَني … وحسبُكَ نُبلاً أن تُهينَ وتُكرِما

وإنِّي لأستحْيي من الله أن أرى … ظَلوماً لإلفي أوْ أرى مُتظلِّما

سآخذُ من نفسي لنفسكَ حقَّها … وأصفحُ إن لم ترعَ عهدي تكرُّما

وما بيَ نفسي وحدها غيرَ أنَّني … أصونُ خليلي أن يجورَ ويظلِما

ولو قيلَ لي اخترْ نيلَهُ أوْ صلاحهُ … لآثرْتُ أن يُعصى هوايَ ويسلما

وقد كنتَ أولى بي من الشَّوقِ والهو … ى وقد كنتَ أمضى في الضَّميرِ مُتمِّما

فما ليَ قد أُبعدْتُ حتَّى كأنَّني … عدوٌّ وقد كنتُ الحبيبَ المُقدَّما

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه:

يا سعدُ لم أذخرْ عليكَ مودَّةً … أنتَ المُقرُّ بها وأنتَ الجاحدُ

أشْكيتَني فشكوْتُ لا مُتشاكياً … وزعمْتَ أنِّي إذْ شكوتُكَ حاسدُ

ولئنْ حُسدْتُ عليكَ إنَّكَ لَلَّذي … حُسدتْ عليهِ أقاربٌ وأباعدُ

وزعمْتَ أنِّي لائمٌ لكَ عاتبٌ … وقصائدي بالذَّمِّ فيكَ شواهدُ

لؤُمَتْ إذنْ منِّي الخلائقُ واعتدى … بالحمدِ من هوَ قائمٌ بيَ قاعدُ

أنِّي أذمُّكَ يا سعيدُ وإنَّما بالمجدِ … منكَ إذا فخُرْتُ أُماجدُ

إن كان قلبكَ فيَّ مُشتركَ الهوَى … فالقلبُ منِّي فيكَ قلبٌ واحدُ

كنْ كيفَ شئتَ فإنَّني بكَ واثقٌ … ولئنْ ذممْتُكَ إنَّني لكَ حامدُ

وقال العرجي:

أقولُ لها والعينُ قد جادَ غربُها … وقد كانَ فيها دمعُها قد تردَّدا

أريْتُكِ إذْ أعرضْتِ عنِّي كأنَّما … تُلاقينَ من حيَّاتِ بيتان أسودا

أأسلاكِ عنِّي النَّأيُ أمْ عاقكِ العِدى … وما افترقوا أمْ جئتِ صرمي تعمُّدا

ألمْ أكُ أعصي فيكِ أهلَ قرابتي … وأُرغمُ فيكِ الكاشحَ المُتهدِّدا

فقالتْ ضننْتُ الوصلَ منكَ ولَلَّذي … جشمْتَ إلينا كان أدنى وأزهدا

لأشياءَ قد لاقيتُها فيكَ لم يكنْ … ليُحصيَها من منَّ وصلاً وعدَّدا

وإعراضُنا عنكُمْ فغيري بهِ بدا … فلمَّا أرادتْ عنكَ نفسي تجلُّدا

رجعْتُ إلى نفسي فعادتْ بحلْمها … عليكَ فلمْ تُرضي بصرمكَ حُسَّدا

إذا أمَّلوا وشكَ اهتجارٍ فأخفقوا … بهِ اليومَ فينا أمَّلوا هجرنا غدا

فكُنْ لِلَّذي تهوى وأغلظْ علَى الَّذي … قلاكَ وعوِّدْهُ الَّذي قد تعوَّدا

ولا تحسبنْ صرمَ الصَّديقِ مروءةً … ولا مُدركاً بالصَّرمِ ما عشتَ سُؤددا

وكتب بعض أهل هذا العصر إلى أخ له يستأذنه في شكره:

أتأذنُ لي يا مُتُّ قبلكَ في الشُّكرِ … فأشكرَ أم تنهى فأُغضي علَى صُغْرِ

وإنِّي لمُحتاجٌ إنَ انتَ أذنتَ لي … إلى العذرِ أيضاً من مجاوزتي قدري

فما حقُّ مثلي أن يُرى لكَ شاكراً … ولا مثلُ ما أُوليتُ يُشكرُ بالشِّعرِ

فرأيَكَ فيمنْ لا يرى نفسهُ إذا … عتبتَ عليها أهلَ شُكر ولا عُذرِ

فلم يأذن له في ذلك وكتب يعاتبه:

أفي العدلِ أن تنهى أخاكَ عنِ الشُّكرِ … وينأى فلا يُنهى عنِ النَّأيِ والهجرِ

أجلْ أنَّ ذا عدلٌ علَى الصَّبِّ في الهوَى … إذا كانَ لا يُنجيهِ منهُ سوى العُذرِ

أيجملُ في حقِّ الجوارِ دعِ الهوَى … أنَ ابقى علَى ظهرِ العشاءِ إلى الفجرِ

أُراعي نجوماً لم أُوكَّلْ برعْيِها … وأُذكي هوًى في القلبِ أذكى منَ الجمرِ

وأنتَ أخٌ لي قادرٌ أنْ تزيلَ ما … أُقاسيهِ لا تدري بما بيَ أوْ تدري

تبيتُ خليَّ القلبِ ممَّا أجِنُّهُ … كما أنا خِلوٌ في هواكَ منَ الصَّبرِ

وإنِّيَ أدري أنَّ في الصَّبرِ راحةً … ولكنَّ إنفاقي علَى الصَّبرِ من عُمري

أراني إذا واصلتُ ساءتْكَ عِشرتي … وإنْ غبتُ لم أخطرْ ببالٍ ولا فكرِ

أحينَ تناهى الودُّ واتَّصلَ الهوَى … وصرتَ شريكي في السَّريرةِ والجهرِ

مللتَ إخائي واطَّرحتَ مودَّتي … وأقصيتني حتَّى تحيَّرتُ في أمري

وله أيضاً:

جُعلتُ فِداكَ قد طالَ انعطافي … إليكَ وأنتَ قاسي القلبِ جافي

وليسَ أخاكَ من يرعاكَ كُرهاً … ولا البادي بوصْلكَ كالمُكافي

فإنْ ترعَ الأمانةَ لا أُضِعْها … وإنْ لا ترعَ يوحِشكَ انصرافي

يطولُ عليكَ أن تلقى خليلاً … تطولُ عليهِ أيَّامُ التَّصافي

مخافةَ أنْ يملَّكَ باجتماعٍ … فيرضى من نوالكَ بالكفافِ

فإنْ يكُ ذا الصُّدودُ صدودَ عتْبٍ … وأنتَ علَى المودَّةِ والتَّوافي

إذنْ فتلافني من قبلِ يأسٍ … يولِّدُ ما يجلُّ عنِ التَّلافي

وإلاَّ فاطَّرحْ وُدِّي وأجملْ … بتعريضٍ من التَّصريحِ كافي

متى يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ … إذا كانَ الضَّنى درْكَ المُعافي

وقال بعض الأعراب:

وأُنبئتُ ليلى أرسلتْ بشفاعةٍ … إليَّ فهلاَّ نفسُ ليلى شفيعُها

أأكرمُ من ليلى عليَّ فتبتغي … بهِ الجاهَ أمْ كنتُ امرءاً لا أطيعُها

وقال الحسين بن الضحاك:

أما ناجاكَ بالنَّظرِ الصَّحيحِ … وأنَّ إليكَ من قلبٍ قريحِ

فليتكَ حينَ تهجرُهُ ضِراراً … تمنُّ عليه بالقتلِ المُريحِ

بحُسنكَ كانَ أوَّلُ حُسنِ ظنِّي … وما ينهاكَ حُسنكَ عن قبيحِ

وما تنفكُّ مُتَّهماً لنُصحي … بنفسيَ نفسُ مُتَّهمِ النَّصيحِ

وقال آخر:

إلى كمْ يكونُ الصَّدُّ في كلِّ ساعةٍ … وكمْ لا تملِّينَ القطيعةَ والهجرا

رُوَيدكِ إنَّ الدَّهر فيهِ بلاغةٌ … لتفريقِ ذاتِ البينِ فانتظري الدَّهرا

وقال يزيد بن الطثرية:

علَى حينِ صارمتُ الأخلاَّءَ كلَّهُمْ … إليكِ وأصفيتُ الهوَى لكِ أجمعا

وزدْتُكِ أضعافاً وغادرتُ في الحشا … عظامَ البلايا بادياتٍ ورُجَّعا

جزيتُكِ فرضَ الودِّ ثمَّتَ خِلْتُني … كذي الشَّكِّ أدنى شكَّهُ فتطوَّعا

فلمَّا تنازعنا سقاطَ حديثِها … غشاشاً فلانَ الطَّرفُ منها فأطمعا

علَى إثر هجرانٍ وساعةِ خلوةٍ … من الناسِ نخشى غُيَّباً أنْ تطلَّعا

أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:

إذا أنتَ لم تستقبلِ الأمرَ لم تجدْ … بكفَّيكَ في إدبارهِ مُتعلَّقا

إذا أنتَ لم تترُكْ أخاكَ وزلَّةً … إذا زلَّها أوشكتُما أن تفرَّقا

وقال العرجي:

إذا أنتَ لم تغفرْ ذنوباً كثيرةً … تريبُكَ لم يسلمْ لكَ الدَّهرَ صاحبُ

ومنْ لا يُغمِّضْ عينهُ عن صديقهِ … وعن بعضِ ما فيهِ يمُتْ وهو عاتبُ

وقال آخر:

أردْتُ لكيْ ما لا ترى ليَ زلَّةً … ومن ذا الَّذي يُعطى الكمالَ فيكمُلُ

ومنْ يسألِ الأيَّامَ نأيَ صديقهِ … وصرفَ اللَّيالي يُعطِ ما كانَ يسألُ

هؤلاءِ الذين ذكرنا أشعارهم يخبرون عن أنفسهم أنهم إنَّما يتركون معاتبة أحبابهم إشفاقاً من تغيُّرهم لهم وانحرافهم عنهم فإن كان ما تركوا المعاتبة عليه فعساه يرجع على أصحابهم فقد أساؤوا إذْ لم ينبِّهوهم على موضعه وآثروا منفعة أنفسهم على مصالح أحبَّتهم وإن لم يكن ذنباً ألا يتركوه فقد كان الأجمل بإخوانهم ألا يذكروه بل كان من حقِّ أحبابهم عليهم ألا يتوهَّموه فضلاً عن أن ينطقوا به لأوليائهم أوْ يجرونه على خواطر أعدائهم وسبيل مثل هذا أن يعترف به المحبوب مبتدئاً بذكره ومتنصِّلاً من فعله فلا يصغي المحبّ ليفهمه ولا يوهم صاحبه أنَّه خطر على وهمه.

ولقد أحسن غاية الإحسان الَّذي يقول:

ومُعتذرٍ فرطُ إشفاقهِ … أضاقَ عليهِ الَّذي تمَّما

ولم يدرِ أنَّ سبيلَ الإخاءِ … أعظمُ من كلِّ ما عظَّما

وبلغني أن الوضاح الكوفي كتب إلى علي بن محمد العلوي:

خُطَّةٌ في الذُّنوبِ والاعتذارِ … ليسَ يُعنى بها سوى الأحرارِ

ضقتُ ذرعاً بها وقد كنتُ أشفيْ … تُ علَى الهُلكِ من شفيرٍ هارِ

فتجالَلْتَ عن جزاءٍ بسوءٍ … وترافعتَ عن طلابٍ بِثارِ

ثمَّ لم ترضَ لي بذلك حتَّى … صُنتني عن مذلَّةِ الاعتذارِ

ثمَّ أوْجبتَ لي علَى غيرِ عقدٍ … حُرمةَ المُستجيرِ بالمُستجارِ

لم نرَ العفوَ منكَ يقدحُ في عِرْ … ضكَ لمَّا عفوتَ بعدَ اقتدارِ

فأجابه علي بن محمد:

ليسَ جودُ الرَّبيعِ راشفَ وجهَ الأ … رضِ عن مبسمٍ منَ الأنوارِ

لا ولا العاشقانِ ضمَّهُما الشَّوْ … قُ علَى غايةِ الضَّنى في إزارِ

فهما مُلصقانِ كالسَّاعد البَيْ … ضاء عضَّضتها بضيقِ السِّوارِ

كأخٍ عهدهُ وعهديَ في الوُ … دِّ كعهدِ الأنواءِ والأمطارِ

رقَّ معناهُما فلمْ يلبسا الأيَّ … امَ إلاَّ علَى اقترابِ المزارِ

لجَّ في الاعتذارِ من شفقِ الوجْ … دِ وأجلَلْتهُ عنِ الاعتذارِ

فأهل الصَّفاءِ هكذا يجب أن تجري أحوالهُم في تركه ما كان من حقوق أنفسهم والابتداء ببسط العذر لأحبَّتهم.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

إذا شئتَ أن تُدعى كريماً مُكرَّماً … حليماً ظريفاً ضاحكاً فطناً حُرَّا

إذا ما بدتْ من صاحبٍ لكَ زلَّةٌ … فكنْ أنتَ مُحتالاً لِزلَّتهِ عُذرا

هذا فيما كان من الجنايات لا يعيد علَى المحبوب في نفسه ضرراً ولا يبيِّن على غير المحبّ أثراً وأمَّا ما كان معيداً على المحبوب عاراً فلا بدَّ من تنبُّهه عليه اضطراراً وفي هذا المعنى لمخيس بن أرطاة التميمي:

عرضتُ نصيحةً منِّي ليَحيى … فردَّ نصيحتي والنُّصحُ مرُّ

وما بيَ أن أكونَ أعيبُ يحيى … ويحيى طاهرُ الأخلاقِ برُّ

ولكن قد أتاني أنَّ يحيى … يقالُ عليهِ في نفعاءَ شرُّ

فقلتُ له تجنَّبْ كلَّ شيءٍ … يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ

ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو:

نصحْتُ لكمْ حذاراً أنْ تُعابوا … فعادَ عليَّ نُصحكمُ وبالا

فإنْ تكُ قد مللتَ فلا تخُنِّي … وقلْ لي أنْ أُجنِّبكَ الوِصالا

فمنْ يطلبْ لصاحبهِ اختلالاً … لينقُضَ عهدهُ يُدركْ مقالا

ويمنعُني الوفاءُ لكمْ بعهدي … وحسنُ الظَّنِّ أنْ أجدَ اختلالا

فتزدادونَ عندي كلَّ وقتٍ … وأنقصُ عندكمْ حالاً فحالا

سأصبرُ إن أطقتُ الصَّبرَ حتَّى … تملَّ الهجرَ أوْ تهوى الوِصالا

وقال بشار بن برد:

إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتباً … صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبُهْ

فعِشْ واحداً أو صلْ صديقكَ إنَّهُ … مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبُهْ

إذا أنتَ لمْ تشربْ مِراراً علَى القذى … ظمئتَ وأيُّ النَّاس تصفو مشاربُهْ

وقال العرجي:

ذهبَ النَّهارُ وما يبوحُ بما بهِ … صبٌّ فقلْ إذاً العتابُ عتابُهُ

الله يعلمُ ما تركتُ عتابَهُ … ألاَّ يكونَ معي لِذاكَ جوابهُ

لكنْ مخافةَ أنْ أُصاحبَ صاحباً … والصَّرمُ تنمي بالمِرا أسبابهُ

وقال آخر:

ولا خيرَ فيمنْ لا يوطِّنُ نفسهُ … علَى نائباتِ الدَّهرِ حينَ تنوبُ

وفي الشَّكِّ تفريطٌ وفي الحزمِ قوَّةٌ … ويُخطئُ في الحدْسِ الفتَى ويُصيبُ

ولستَ بمُستبقٍ صديقاً ولا أخاً … إذا لمْ تعدَّ الشَّيءَ وهو قريبُ

وقال الحسن بن هب:

دعوتكَ في الجُلَّى وقد ضاقَ مصدري … عليَّ وروَّاني من السمِّ موردي

فأصمَمْتَ عنِّي منكَ أُذناً سميعةً … وقد قصدَتْ لي النَّائباتُ بمرصَدِ

فما ضاقَ عنكَ العُذرُ عندي ولا نبا … بعهدكَ نابٍ من مغيبٍ ومشهدِ

وقِلتُ زماناً قد نهى النَّاس كلَّهُمْ … عن البِرِّ نهيَ الموعدِ المُتهدِّدِ

وأمَّلتُ أياماً تنوبُ ورجعةً … من الدَّهر يأتينا بها الله في غَدِ

وقال عمر بن نجا:

منعْتَ عطاءنا ولويْتَ ديْني … وأعددْتَ الخُصومةَ للخَصيمِ

فما لكَ إن لويتَ الدَّيْنَ عنِّي … مُعاقبةٌ فيا لكَ من غريمِ

وقال مسلم بن الوليد:

إذا التقينا منعنا النَّومَ أعيُننا … ولا نُلائمُ نوماً حينَ نفترِقُ

أُقرُّ بالذَّنبِ منِّي لستُ أعرفهُ … كيْما أقولَ كما قالتْ فنتَّفقُ

وقال آخر:

أإنْ سُمتني ذلاًّ فعفْتُ احتمالَهُ … غضبْتَ ومنْ يأتِ المذلَّةَ يُعذرِ

فها أنا مُسترْضيكَ لا من جنايةٍ … عليكَ ولكن من تجنِّيك فاعذُرِ

ولبعض أهل هذا العصر:

زعمْتَ بنفسي أنتَ أنَّك مُغرمٌ … بِذكري وأنِّي عن وصالكَ مُضربُ

أعدْ نظراً فيما ادَّعيتَ ولا تحِدْ … لتعلمَ من منَّا الشَّقيُّ المُعذَّبُ

أمَنْ يتجنَّى ثمَّ يُنكرُ ما جنى … علَى إلفهِ أمْ من يُقرُّ ويُعتبُ

ولو كنتَ تُجزى بالذي تستحقُّهُ … غضبْتَ ولكنِّي منَ الهجرِ أهربُ

فأغضي علَى جمرِ الغضا خشيةَ القِلى … ولولا الهوَى ما ضاقَ عنِّي مَهربُ

فحتَّامَ لا أنفكُّ شوقاً إلى الرِّضا … أُصدِّقُ من صدقي لديهِ مُكذَّبُ

وما ليَ من ذنبٍ إليكَ تعدُّهُ … عليَّ سوى أن ليسَ لي عنكَ مذهبُ

وما غرَضي في أنْ أُثبِّتَ حُجَّةً … عليكَ وما لي غيرُ عفوكَ مطلبُ

إليكَ مفرِّي منكَ لا عن وسيلةٍ … إليكَ سوى أنِّي بحُبِّكَ مُتعبُ

فإنْ تأتِ ما أهوى فعبدٌ نعَشْتهُ … وإنْ تكنِ الأخرى فعبدُكَ مُذنبُ

فرأيكَ فيمنْ أنتَ مالكُ رقِّهِ … فقدْ حلَّتِ البلوى وطابَ التَّجنُّبُ

وقال المؤمل:

شفَّ المُؤمِّلَ يومَ الحيرةِ النَّظرُ … ليتَ المؤمِّلَ لم يُخلقْ لهُ بصرُ

حسبُ المُحبِّينَ في الدُّنيا عذابهمُ … والله لا عذَّبتهُمْ بعدها سقَرُ

صفِ الأحبَّةَ ما لاقيتَ من سهرٍ … إنَّ الأحبَّةَ لا يدرون ما السَّهرُ

لمَّا رمتْ مقتلي قالتْ لجارتِها … إنِّي قتلتُ قتيلاً ما لهُ خطرُ

قتلتُ شاعرَ هذا الحيِّ من مُضرٍ … الله يعلمُ ما ترضى بذا مُضرُ

وإنَّما أقصدَتْ قلبي بمُقلتها … ما كانَ قوسٌ ولا سهمٌ ولا وترُ

أحببْتُ من حبِّها قوماً ذوي إحَنٍ … بيني وبينهمُ النِّيرانُ تستعرُ

إنِّي لأصفحُ عنها حينَ تظلِمُني … وكيفَ من نفسهِ الإنسانُ ينتصرُ

وقال آخر:

مسَّني من صدودِ إلفيَ ضُرُّ … فبنات الفؤادِ ما تستقرُّ

مسَّني ضرُّهُ فأوجعَ قلبي … غيرَ أنِّي بذاكَ منهُ أُسرُّ

وقال آخر:

أيا سُلمى دفعْتُ إليكِ نفسي … برئْتُ إليكِ من نفسي بريتُ

وقالوا عذَّبتْكَ فقلتُ كلاَّ … رضيتُ بمنْ يعذِّبُني رضيتُ

وقال أبو تمام حبيب:

أسرفْتَ في منعي وعادتُكَ الَّتي … ملكَتْ عِنانكَ أنْ تجودَ فتُسرفا

لمْ آلُ فيكَ تلطُّفاً وتعسُّفاً … وتألُّفاً وتحيُّفاً وتعطُّفا

وأراك تدفعُ حُرمتي فأظنُّني … ثقَّلتُ غيرَ مُؤنِّبٍ فأخفِّقا

وقال أيضاً:

وجدْتُ صريحَ الحزمِ والرَّأيِ لامرئٍ … إذا ملكتْهُ الشَّمسُ أنْ يتحوَّلا

فثقَّلْتُ بالتَّخفيفِ عنكَ وبعضهُمْ … يُخفِّفُ في الحاجاتِ حتَّى يُثقِّلا

وقال عمر بن أبي ربيعة:

بالله قولي لهُ في غيرِ مَعتبةٍ … ماذا أردتَ بطولِ المكْثِ باليمَنِ

إنْ كنتَ حاولتَ دُنيا أو قنعْتَ بها … فما أصبْتَ بتركِ الحجِّ من ثمنِ

وقال الراعي:

وكمْ جشمنا إليكمْ سيرَ موديةٍ … كأنَّ أعلامها في أُفقها القُزَعُ

حمَّاءُ غبراءُ يخشى المدَّلونَ بها … ريعَ الهداةِ بأرضٍ أهلها شِيَعُ

فإنْ تجودوا فقدْ حاولْتُ جودكُمُ … وإنْ تضِنُّوا فلا لومٌ ولا فزعُ

وهذه أحوال كلُّها لطيفة ومطالبات جميلة وأشنع منها لفظاً وأنقص من هذا معنًى.

قول البحتري:

لا تهْتَبلْ إغْضاءتي إذْ كنتُ قدْ … أغضيْتُ مُشتملاً علَى جمرِ الغضا

أغببْتُ سَيْبكَ كيْ يجُمَّ وإنَّما … غُمدَ الحسامُ المشرفيُّ ليُنتضى

وسكَتُّ إلاَّ أنْ أُعرضَ قائلاً … قولاً وصرَّحَ جهدهُ من عرَّضا

وفي هذا النحو لبعض أهل هذا الزَّمان:

يا عالماً بالذي ألقى منَ الكُربِ … إرْفق بعينكَ لا تُعطبْ فِداكَ أبي

لا تغتنمْ صفحَ مطويٍّ علَى كبدٍ … حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُلتهبِ

لو كنتَ مثليَ لم تصبرْ علَى كمَدي … أو كنتُ مثلكَ لم أفعلْ كفعلكَ بي

إن كانَ ذا الهجرُ تأديباً فحسبُكَ ما … قدَّمتَ منهُ فقد بالغتَ في أدبي

وقد قال المتلمِّس ما يخرج قبحاً وجفاء عن هذا الباب ولا يصلح أن يجري في المخاطبة بين الأحباب وذلك قوله:

وما كنتَ إلاَّ مثلَ قاطعِ كفِّهِ … بكفٍّ لهُ أخرى فأصبحَ أجذَما

يداهُ أصابتْ هذه حتْفَ هذه … فلمْ تجدِ الأخرى عليها مُقدَّما

فأطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يرى … مساغاً لنابيْهِ الشُّجاعُ لصمَّما

وذلك أنَّه يخبر أنَّ الجناية قد أثَّرت في قلبه وولَّدت حقداً في نفسه وأنَّ الَّذي يمنعه من أن ينتقم خوفه من تزايد الألم وأنَّه على أن يعاقب إذا أمنَ العواقب والمعاتبة بل المعاقبة أحسن من الإغضاء على مثل هذه الحال.

وفي نحو هذا المعنى يقول الوليد بن عبيد الطائي:

وإذا رجوْتُ ثنتْ رجايَ شكيَّةٌ … من عاتبٍ في الحبِّ غيرِ مُعاتَبِ

لو كانَ ذنبي غيرَ حبِّكِ أنَّهُ … ذنبي إليكِ لكنت أوَّلَ تائبِ

أفلا ترى أنَّه يخبر أنَّ الإغضاء على المعاتبة على الذَّنب مع مقام الضَّمير على العتب يقطع الرَّجاء ويؤيس من الوفاء.

الهجر على أربعة أضرب هجر ملالٍ وهجر دلالٍ وهجر مكافاةٍ على الذُّنوب وهجرٌ يوجبه البغض المتمكِّن في القلوب فأمَّا هجر الدَّلال فهو ألذُّ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيطلبه من الأيَّام واللَّيالي إما بنأي الدَّار وإمَّا بطول الاهتجار.

وفي مثل ذلك يقول الشاعر:

لا تجزعَنْ من هجرِ ذي ملَّةٍ … أظهرَ بعدَ الوصلِ هِجرانا

يملُّ هذا مثلَ ما ملَّ ذا … فيرجعُ الوصلُ كما كانا

وأما الهجر الَّذي يتولَّد عن الذَّنب فالتَّوبة تخرجه عن القلب وأما الهجر الَّذي يوجبه البغض الطَّبيعي فهو الَّذي لا دواء له وقد قال الجاحظ لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الموت الهجر وليس الأمر كما قال بل لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الهجر الموت.

ألم تسمع قول ذي الرمة:

سألتُ ذوي الأهواءِ والنَّاس كلَّهُمْ … وكُلَّ فتًى دانٍ وآخرَ ينزِحُ

أتُقرحُ أكبادُ المحبِّينَ كالذي … أرى كبدي من حبِّ ميَّةَ تُقرحُ

لئنْ كانتِ الدُّنيا عليَّ كما أرى … تباريحَ من ميٍّ فلَلْموتُ أرْوحُ

وفي مثله يقول بعض أهل هذا العصر:

ما لي أُلفِّتُ وجهاً غيرَ مُلْتفتٍ … نحوي وأعطفُ قلباً غيرَ مُنعطِفِ

يُغرى بهجري كما أُغرى بأُلْفتهِ … هذا لَعمري ودادٌ جدُّ مُختلفُ

حجبتُ عيني عنِ الدُّنيا ونضرتِها … شوقاً وأبرزتُها للحُزنِ والأسفِ

إلاَّ تكنْ تلفَتْ نفسي عليكَ فقدْ … أصبحْتُ والله مشتاقاً إلى التَّلفِ

وفي نحو ذلك يقول قيس بن الملوح:

فوالله ثمَّ الله إنِّي لَدائبٌ … أُفكِّرُ ما ذنبي إليها فأعجَبُ

ووالله ما أدري علامَ صرَمْتني … وأيَّ أُموري فيكِ يا ليلُ أركبُ

أأقْطعُ حبلَ الوصلِ فالموتُ دونهُ … أمَ اشربُ كأساً منكمُ ليس تُشربُ

أمَ اهْربُ حتَّى لا أرى لي مُجاوراً … أمَ افْعلُ ماذا أمْ أبوحُ فأغلبُ

وإنَّهما يا ليلُ إنْ تفعلي بنا … فآخرُ مهجورٌ وأوَّلُ مُعتبُ

وما قيل في هذا المعنى من الأشعار القديمة والمحدثة أكثر من أنْ يحيط به كتاب فضلاً عن أن يتضمَّنه بابٌ.

وقال خالد الكاتب:

أراني ذليلَ النَّفسِ مُذْ أنتَ عاتبٌ … وأيَّةَ نفسٍ لا تذِلُّ علَى الهجرِ

يعاتبُ بعْضي فيكَ بعضاً وكلُّهُ … إليكَ وحبُّ العفوِ يسمحُ بالعُذرِ

وقال بعض الأعراب:

خليليَّ هلْ يُستخْبَرُ الأثْلُ والغضا … وميثُ الرُّبى من بطنِ نُعمانَ والسِّدْرُ

وهلْ يتقالى بعدَ ما كانَ صافياً … خليلانِ بانا ليسَ بينهما وِترُ

نأتْ بهما دارُ النَّوى وتراقبا … علَى الضِّغْنِ حتَّى لجَّ بينهما هجرُ

إذا رُمتَ إلاَّ ما عدا الدهرُ بيننا … وبينكَ لم نُلْزمْكَ ما صنعَ الدَّهرُ

وقال ذو الرمة:

ألا لا أرى مثلي يحنُّ من الهوَى … ولا مثلَ هذا الشَّوقِ لا يتصرَّمُ

ولا مثلَ ما ألقى إذا الحيُّ فارقوا … علَى أثرِ الأظعانِ يلقاهُ مُسلمُ

كفَى حسرةً في النَّفسِ يا ميُّ أنَّني … وإيَّاكِ في الأحياءِ لا نتكلَّمُ

أدورُ حواليكِ البيوتَ كأنَّني … إذا جئتُ عنْ إتيانِ بيتكِ مُحرمُ

وقال أيضاً:

هوًى لكَ لا ينفكُّ يدعُو كما دعَا … حَماماً بأجزاعِ العقيقِ حمامُ

إذا هملتْ عينِي لهُ قالَ صاحبِي … بمثلكَ هذا فتنةٌ وغرامُ

علامَ وقدْ فارقتَ ميّاً وفارقتْ … فمَيُّ علَى طولِ البكاءِ تُلامُ

أطاعتْ بكَ الواشينَ حتَّى كأنَّما … كلامكَ إيَّاها عليكَ حرامُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر قال: أنشدني أبو سعيد المخزومي:

ثِقي بجميلِ الصَّبرِ منِّي علَى الدَّهرِ … ولا تثقِي بالصَّبرِ منِّي علَى الهجرِ

فإنِّي لصبَّارٌ علَى ما ينوبُني … وحسبكِ أنَّ اللهَ أثنَى علَى الصَّبرِ

ولستُ بنظَّارٍ إلى جانبِ الغنَى … إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

عذيرِي منَ الأيَّامِ رنَّقنَ مشرَبي … ولقَّيننِي نَحساً منَ الطَّيرِ أشأما

وألبسنَنِي سخطَ امرئٍ بتُّ موهناً … أرَى سخطهُ ليلاً معَ اللَّيلِ مُظلِما

تبلَّجَ عن بعضِ الرِّضا وانطوَى علَى … بقيَّةِ عتبٍ شارفتْ أنْ تصرَّما

إذا قلتُ يوماً قدْ تجاوزَ حدَّها … تلبَّثَ في أعقابِها وتلوَّما

وأصْيدُ إنْ نازعتهُ الطَّرفَ ردَّهُ … كليلاً وإنْ راجعتهُ القولَ أحجما

ثناهُ العدَى عنِّي فأصبحَ مُعرضاً … ووهَّمهُ الواشونَ حتَّى توهَّما

ولوْ أنَّني وقَّرتُ شَيبي وقارهُ … وأجللتُ شِعري فيكَ أنْ يُتهضَّما

لأكبرتُ أنْ أُومي إليكَ بإصبعٍ … تضرَّعُ أوْ أُدنِي لمعذرةٍ فمَا

وكانَ الَّذي يأتي بهِ الدَّهرُ هيِّناً … عليَّ ولوْ كانَ الحِمامُ المقدَّما

ولكنَّني أُعلي محلَّكَ أنْ أرَى … مُدلاًّ وأستحييكَ أنْ أتعظَّما

ولمْ أدرِ ما الذَّنبُ الَّذي سُؤتَني بهِ … فأقتلُ نفسِي حسرةً وتندُّما

وأنشدني أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله بن الأعرابي:

ألا أبلغْ أخا قيسٍ رسولاً … بأنِّي لمْ أخنكَ فلا تخنِّي

ولكنِّي طويتُ الكشحَ لمَّا … رأيتكَ قدْ طويتَ الكشحَ عنِّي

فلستَ بمُدركٍ ما فاتَ منِّي … بلهفَ ولا بليتَ ولا لَوَانِّي

ولستُ بآمنٍ أبداً خليلاً … علَى شيءٍ إذا لمْ يأتَمنِّي

وصلتُكَ ثمَّ عادَ الوصلُ أنِّي … قرعتُ ندامةً مِنْ ذاكَ سِنِّي

فإنْ أعطفْ عليكَ بفضلِ حلمٍ … فما قلبي إليكَ بمطمئنِّ

وقال العباس بن الأحنف:

لو كنتِ عاتبةً لسكَّنَ عبرَتِي … أملِي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ

لكنْ مللتِ فلمْ تكنْ لي حيلةٌ … صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ

وقال آخر:

ومُستوحشٍ لمْ يمشِ في أرضِ غُربةٍ … ولكنَّهُ ممَّنْ يودُّ غريبْ

إذا رامَ كتمانَ الهوَى نمَّ دمعهُ … فآهٍ لمحزونٍ جفاهُ طبيبُ

ألا أيُّها البيتُ الَّذي لا أزورهُ … وهجرانُهُ منِّي إليكَ ذُنوبُ

هجرتكَ مشتاقاً وزرتكَ خائفاً … ومنِّي علَيَّ الدَّهرَ فيكَ رقيبُ

سلامٌ علَى الدَّارِ الَّتي لا أزورُها … وإنْ حلَّها شخصٌ إليَّ حبيبُ

وقال أبو نواس:

غصصتُ منكِ بما لا يدفعُ الماءُ … وصحَّ هجركِ حتَّى ما بهِ داءُ

قدْ كانَ يُقنعكمْ إذْ كانَ رأيكمُ … أن تهجُروني منَ التَّصريحِ إيماءُ

وما جهلتُ مكانَ الآمريكِ بذا … منَ الوُشاةِ ولكنْ في فَمي ماءُ

ما زلتُ أسمعُ حتَّى صرتُ ذاكَ بمنْ … قامتْ قيامتهُ والنَّاسُ أحياءُ

وقال أيضاً:

صليتُ مِنْ حبِّها نارَينِ واحدةً … جوفَ الفؤادِ وأُخرى بينَ أحشائِي

وقدْ منعتُ لسانِي أن يبوحَ بهِ … فما يعبِّرُ عنِّي غيرُ إيمائِي

يا ويحَ أهلِي أبلَى بينَ أعيُنهمْ … علَى الفراشِ ولا يدرُونَ ما دائِي

لوْ كانَ زهدكِ في الدُّنيا كزهدكِ في … وصلِي مشيتِ بلا شكٍّ علَى الماءِ

وبلغني عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: بينا أنا بالكعبة إذ رأيتُ أبا السَّائب المخزومي متعلِّقاً بأستار الكعبة وهو يقول:

يا هجرُ كُفَّ عنِ الهوَى ودعِ الهوَى … للعاشقينَ يطيبُ يا هجرُ

ماذا تريدُ منَ الَّذينَ جُفونُهمْ … قرحَى وحشوُ صدورهمْ جمرُ

وسوابقُ العَبراتِ بينَ خدودهمْ … دررٌ تفيضُ كأنَّها القطرُ

متحيِّرينَ منَ الهوَى ألوانهمْ … ممَّا تكِنُّ صدورهمْ صفرُ

قال: فقلتُ يا أبا السَّائب في مثل هذا الموضع تُنشد مثل هذا؟ فقال: إليك عنِّي يا أبا محمد فوالله للدُّعاءُ لهم في مثل هذا الموضع أفضل من حجةٍ وعمرةٍ.

ولقد أحسن الفرزدق حيث يقول:

عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ … وأنكرتَ مِنْ حدراءَ ما كنتَ تعرفُ

ولجَّ بكَ الهجرانُ حتَّى كأنَّما … ترَى الموتَ في البيتِ الَّذي كنتَ تألفُ

وقال:

لئنْ كانَ في الهجرانِ أجرٌ لقدْ مضَى … ليَ الأجرُ في الهجرانِ مذْ سنتانِ

فواللهِ ما أدرِي أكلُّ ذوِي هوًى … علَى ما بِنا أمْ نحنُ مُبتليانِ

وقال الحارث بن خالد المخزومي:

إنْ يمسِ حبلكِ بعدَ طولِ تواصلٍ … خلِقاً وأصبحَ بيتكمْ مهجُورا

فلقدْ أرانِي والجديدُ إلى بلًى … زمناً بوصلكِ راضياً مسرُورا

كنتِ الهوَى وأعزُّ مِنْ وطئِ الحصَى … عندِي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا

وقال آخر:

وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ … ليعلمْنَ ما أُخفِي ويعلمْنَ ما أُبدي

أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ … لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ

علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها … وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي

ألا إنَّ قربَ الدَّارِ ليسَ بنافعٍ … وقلبُ الَّذي تهواهُ منكَ علَى البعدِ

ولبعض أهل هذا العصر:

لعمركَ ما قربُ الدِّيارِ بنافعٍ … إذا لمْ يصلْ حبلَ الحبيبِ حبيبُ

وليسَ غريباً مَنْ تناءتْ ديارهُ … ولكنَّ مَنْ يُجفى فذاكَ غريبُ

ومَنْ يغتربْ والإلفُ راعٍ لعهدهِ … وإنْ جاوزَ السَّدَّينِ فهوَ قريبُ

وقال آخر:

لو كنتَ في بلدٍ ونحنُ بغيرهِ … ما كانَ عندكَ في الجفاءِ مَزيدُ

قربُ المزارِ وأنتَ ناءٌ لا يُرى … وإذا القريبُ جفاكَ فهوَ بعيدُ

وقال أبو تمام:

ونأى الهجرُ بالَّذي لا أُسمِّي … فأنا منهُ في القريبِ البعيدِ

ففراقٌ أصابَني مِنْ فراقٍ … وفِراقٌ أصابني مِنْ صدودِ

ليسَ مَنْ كانَ غائباً فقدَتْهُ ال … عينُ غيباً كالشَّاهدِ المفقودِ

وقال البحتري:

يسوؤكَ ألاَّ عطفَ عند انعطافهِ … ويشجيكَ ألاَّ عدلَ عندَ اعتدالهِ

فما حيلةُ المشتاقِ فيمنْ يشوقُهُ … إذا حالَ هذا الهجرُ دونَ احتيالهِ

ولقد أحسن علي بن محمد العلوي في قوله:

هواكَ هوَ الدُّنيا ونيلكَ ملكُها … وهجركَ مقرونٌ بكلِّ هوانِ

كذبتكَ ما قلتُ الَّذي أنتَ أهلهُ … بلَى لمْ يجدْ ما فوقَ ذاكَ لسانِي

المعتذر لا ينفكُّ من إحدى حالين إمَّا أن يكون صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً فعذره مقبول وإن كان كاذباً فإنه لم يتجشَّم مضاضة الكذب في نفسه إلاَّ لنفاسة صاحبه في صدره ومن كان بهذه الحال قُبل عذره بل وجب شكره.

وقد قال البحتري:

إقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيكَ معتذراً … إنْ برَّ عندكَ فيما قالَ أو فجَرَا

فقدْ أطاعكَ مَنْ يُرضيكَ ظاهرهُ … وقدْ أجلَّكَ مَنْ يعصيكَ مُستترا

ولبعض أهل هذا العصر:

أنتَ ابتدأتَ بميعادِي فأوفِ بهِ … ولا تربَّصْ بهِ صرفَ المقاديرِ

ولا تكِلْني إلى عذرٍ تُزخرفهُ … فالذَّنبُ أحسنُ مِنْ بعضِ المعاذيرِ

وله أيضاً:

إلى اللهِ أشكُو مَنْ بدانِي بوصلهِ … فلمَّا حوَى قلبِي براهُ ببخلهِ

سآجرُ نفسِي عنْ تقاضيهِ راضياً … إلى أنْ أراهُ ساخطاً بعدَ فعلهِ

وآخذُ منهُ العفوَ ما دامَ باخلاً … وأنَّهَى لسانِي أنْ يعودَ لعذلهِ

فربَّ اعتذارٍ قدْ تمنَّيتُ أنَّني … خرستُ وأنِّي لمْ أُخاطبْ بمثلهِ

وقال آخر:

مْ أجنِ ذنباً فإنْ زعمتَ بأنْ … أتيتُ ذنباً فغيرُ مُعتمدِ

قدْ تطرفُ الكفُّ عينَ صاحبِها … فلا يرَى قطعَها منَ الرَّشَدِ

وقال آخر:

ما أحسنَ العفوَ منَ القادرِ … لا سيَّما عنْ غيرِ ذي ناصرِ

إنْ كانَ لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي … فما لهُ غيركَ مِنْ غافرِ

أعوذُ بالودِّ الَّذي بينَنا … أنْ تُفسدَ الأوَّلَ بالآخرِ

وقال آخر:

هبْنِي أسأتُ وقدْ أتيْ … تُ بمثلِ ذنبِ أبي لهبْ

فأنا أتوبُ ومَا أسأ … تُ وكمْ أسأتَ فلمْ تتبْ

وقال آخر:

هَبينِي يا معذِّبتِي أسأتُ … وبالهجرانِ قبلكمُ بدأتُ

فأينَ الفضلُ منكِ فدتكِ نفسي … عليَّ إذا أسأتِ كمَا أسأتُ

ولبعض أهل هذا العصر:

لجُرمِي عقابٌ والتَّجاوزُ ممكنٌ … وأولاهُما إسعافُ مَنْ صحَّ صدقهُ

فإنْ لمْ تجاوزْ حسبَ ما تستحقُّهُ … فلا تتجاوزْ حسبَ ما أستحقُّهُ

وله أيضاً:

العذرُ يلحقهُ التَّحريفُ والكذبُ … وليسَ في غيرِ ما يُرضيكَ لي أربُ

وقدْ أسأتُ فبالنُّعمى الَّتي سلفتْ … لما مننتَ بعفوٍ ما لهُ سببُ

وقال آخر:

لا والَّذي إنْ كذبتُ اليومَ عذَّبني … وإنْ صدقتكمُ فاللهُ نجَّانِي

ما قرَّتِ العينُ بالأبدالِ بعدكمُ … ولا مجدتُ لذيذَ العيشِ يغشانِي

إنِّي وجدتُ بكمْ ما لمْ يجدْ أحدٌ … جنٌّ بجنٍّ ولا إنسٌ بإنسانِ

وقال البحتري:

أأنسَى مَنْ يُذكِّرُ فيهِ ألاَّ … شبيهَ لهُ يعدُّ ولا ضريبُ

وقدْ أكدَى الصَّوابُ عليَّ حتَّى … وددتُ بأنَّ شانيَّ المُصيبُ

فإنْ لا تحسبِ الحسناتِ منها … لصاحبها فلا تُحصَى الذُّنوبُ

أتوبُ منَ الإساءةِ إنْ ألمَّتْ … وأعرفُ مَنْ يُسيءُ ولا يتوبُ

وقال أيضاً:

اللهُ يعلمُ والدُّنيا مُنغَّصةٌ … والعيشُ مُنتقلٌ والدُّهر ذُو دولِ

لأنتَ عندِي وإنْ ساءتْ ظنونكَ بِي … أحظَى منَ الأمنِ عندَ الخائفِ الوجلِ

ولعبيد بن طاهر:

إغتفرْ زلَّتي لتُحرزَ فضلَ الشُّك … رِ منِّي ولا يفوتكَ أجرِي

لا تكِلْني إلى التَّوسُّلِ بالعذْ … رِ لعلِّي ألاَّ أقومَ بعذرِي

وقال آخر:

فإنْ لا أكنْ للفضلِ أهلاً فإنَّكمْ … بفضلكمُ للعفوِ عنْ مذنبٍ أهلُ

ففضلكَ أرجُو لا البراءةَ إنَّه … أبى اللهُ إلاَّ أن يكونَ لكَ الفضلُ

وقال محمد بن عبد الملك الزيات:

رفعَ اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّه … رِ وحاشاكَ أن تكونَ عليلا

أُشهدُ اللهَ ما علمتُ وما ذا … كَ من العذرِ جائزاً مقبُولا

فاجعلَنْ لي إلى التَّوسُّلِ بالعذْ … رِ سبيلاً إذْ لم أجدْ لِي سبيلا

فقديماً ما جادَ ذو الفضلِ بالصَّفحِ … وما سامحَ الخليلُ الخليلا

وقال الحسين الخليع:

بنفسِي حبيبٌ لا يملُّ التَّعتُّبا … إذا زدتهُ في العذرِ زادَ تعصُّبا

يُطيلُ ضِرارِي بامتحانِ صبابتِي … وقدْ علمَ المكنونَ منها المغيَّبا

فلستُ أُناجِي غيرهُ مذْ عرفتهُ … فأنظُرَ إلاَّ خائفاً مُترقِّبا

أيا مَنْ تجنَّى الذَّنبَ أعلمُ أنَّه … علَى ثقةٍ أنْ لستُ بالغيبِ مُذنبا

أمَا لخضُوعِي مِنْ ضميركَ شافعٌ … منَ السُّقمِ قدْ يشفي المُلحَّ المعذَّبا

أمَّا اعتذاره بأنَّه لا يُناجي غير صاحبه إلاَّ خائفاً مترقِّباً فقبيحٌ جدّاً ولعمري إنَّ الإصرار على الغدر أصلح من التَّنصُّل بهذا العذر إذ من لم يكن عليه رقيب من نفسه يصونها عن مكاره إلفه فلا درك في مودَّته.

وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:

كأنَّ رقيباً منكَ يرعَى خواطرِي … وآخرَ يرعَى ناظرِي ولسانِي

فما عاينتْ عينايَ بعدكَ منظراً … يسوؤكَ إلاَّ قلتُ قدْ رمَقانِي

ولا بدرتْ في فِيَّ بعدكَ مزحةٌ … لغيركَ إلاَّ قلتُ قدْ سمِعانِي

ولا خطرتْ مِنْ ذكرِ غيركَ خطرةٌ … علَى القلبِ إلاَّ عرَّجا بعنانِ

إذا ما تسلَّى الغايرونَ عنِ الهوَى … بشربِ مدامٍ أوْ سماعِ قيامِ

وجدتُ الَّذي يُسلِي سوايَ يشوقُني … إلى قربكمْ حتَّى أملَّ مكانِي

وفتيانِ صدقٍ قدْ سئمتُ لقاءهمْ … وعفَّفتُ طرفِي عنهمُ ولسانِي

وما الزُّهدُ أسلَى عنهمُ غيرَ أنَّني … أراكَ علَى كلِّ الجهاتِ تراني

وأتم من هذا قول مسلم بن الوليد:

رحلتُ مُذْ يومِ نادَوا بالرَّحيلِ علَى … آثارهمْ ثمَّ لمْ أنظرْ إلى أحدِ

أغضتْ عنِ الخلقِ عيني ما ترَى حسَناً … في النَّاسِ حتَّى تراهمْ آخرَ الأبدِ

وقال آخر:

لأيُّ شيءٍ صددتَ عنِّي … يا بائناً بالعَزَاءِ منِّي

أكانَ منِّي فعالُ سوءٍ … يحسنُ في مثلهِ التَّجنِّي

إنَّ شفيعِي إليكَ منِّي … دموعُ عَيني وحسنُ ظنِّي

فبالَّذي ساقَني ذليلاً … إليكَ ألا عفوتَ عنِّي

وقال آخر:

كلُّ يومٍ يقولُ لي لكَ ذنبٌ … يتجنَّى ولا يرَى ذاكَ منِّي

فأنا الدَّهرَ في اعتذارٍ إليهِ … فإذا ما رضِي فليسَ يُهنِّي

ربَّما جئتهُ أُسلِّفهُ العذ … رَ لبعضِ الذُّنوبِ خوفَ التَّجنِّي

وقال علي بن الجهم:

عفا اللهُ عنكَ ما حرمةٌ … أعوذُ بعفوكَ أنْ أُبعدا

ألمْ ترَ عبداً عدَا طورهُ … ومولًى عفا ورشيداً هدَى

ومفسدَ أمرٍ تلافيتَهُ … فعادَ فأصلحَ ما أفسدَا

أقِلْني أقالكَ مَنْ لمْ يزلْ … يَقيكَ ويصرفُ عنكَ الرَّدى

لئنْ جلَّ ذنبٌ ولمْ أعتمدْهُ … لأنتَ أجلُّ وأعلَى يدَا

وقال البحتري:

يُخوِّفني مِنْ سوءِ رأيكَ معشرٌ … ولا خوفَ إلاَّ أنْ تجورَ وتظلما

أُعيذكَ أنْ أخشاكَ مِنْ غيرِ حادثٍ … أتيتُ ولا جرمٌ إليكَ تقدَّما

أُقرُّ بما لمْ أجنِهِ متنصِّلاً … إليكَ علَى أنِّي إخالُكَ ألوَما

وقال أيضاً:

وعتابِ خلٍّ قدْ سمعتُ فلم أكنْ … جلدَ الضَّميرِ علَى استماعِ مُمِضِّهِ

طافَ الوشاةُ بهِ فأحدثَ ظلمةً … في جوِّهِ ووعورةً في أرضهِ

غضبانُ حمِّلَ إحْنَةً لوْ حُمِّلتْ … ثبَجَ الصَّباحِ لثُقِّلتْ مِنْ نهضهِ

مهلاً فداكَ أخوكَ قدْ ألهيتهُ … عنْ لهوهِ وشغلتهُ عن غُمضهِ

خزْيانُ أكبرَ أنْ تظنَّ جنايةً … في بسطهِ لصديقهِ أوْ قبضهِ

ماذا توهَّمُ أن يقولَ وقولهُ … في نفسهِ ولسانهُ في عِرضهِ

أنَبوتُ عنكَ بزعمهمْ ومتى نَبَا … في حالةٍ بعضُ امرئٍ عن بعضهِ

وقال بعض أهل هذا العصر:

أخوكَ الَّذي أمسَى بذكركَ مُغرما … يتوبُ إليكَ اليومَ ممَّا تقدَّما

فإنْ لم تصلهُ رغبةً في وصالهِ … ولمْ تكُ مشتاقاً فصِلْهُ تكرُّما

فقدْ والَّذي عافاكَ ممَّا ابتلَى بهِ … تندَّمَ لوْ أرضاكَ أنْ يتندَّما

وباللهِ ما كانَ الصُّدودُ الَّذي مضَى … ملالاً ولا كانَ الجفاءُ تبرُّما

فلا تحرِبَنْ بالغدرِ مَنْ صدَّ مُكرهاً … وأظهرَ إعراضاً وأبدَى تجهُّما

فلمْ يُلههِ عنكَ السُّلوُّ وإنَّما … تأخَّرَ لمَّا لم يجدْ مُتقدَّما

وقال آخر:

كُحلتْ مقلَتِي بشوكِ القَتادِ … لم أذُقْ مذْ حُممتَ طعمَ الرُّقادِ

يا أخِي الباذلُ المودَّةَ والنَّا … زلُ مِنْ مقلتِي مكانَ السَّوادِ

مَنَعَتْني عليكَ رقَّةُ قلبِي … مِنْ دُخولي عليكَ في العوَّادِ

لو بأُذني سمعتُ منكَ أنيناً … لتَفَقَّا معَ الأنينِ فؤادِي

وقال علي بن الجهم:

إنَّ دونَ السُّؤالِ والاعتذارِ … خطَّةٌ صعبةً علَى الأحرارِ

ليسَ جهلاً بها تورَّدها الح … رُّ ولكنْ سوابقُ الأقدارِ

إرضَ للسَّائلِ الخضوعِ وللقا … رفِ ذنباً مضاضةَ الاعتذارِ

وقال آخر:

هاجرتْنِي ثمَّ لا كلَّمتْني أبداً … إنْ كنتُ خنتكِ في حالٍ منَ الحالِ

أوِ انتجيتُ نجِيّاً في خيانتكمْ … وخفتُ خطرَتَها منِّي علَى بالِ

فسوِّغيني المُنى كيما أعيشَ بها … ثمَّ اطلقِي البخلَ ما أطلقتِ آمالي

ولبعض أهل هذا العصر:

أتوبُ إليكَ مِنْ نقضِ العهودِ … لتؤمنَ مقلَتِي منَ السُّهودِ

أسأتُ فلا تُعنَّى بالدَّعاوى … فها أنذا أُقرُّ بلا شهودِ

وقدْ كانَ الجحودُ عليَّ سهلاً … ولكنِّي أنِفتُ منَ الجحودِ

فقلْ لِي لا عدمتكَ مِنْ مسيءٍ … بما استحللتَ نقضَ عُرى العهودِ

ألا يا نفسُ قد أخطأتِ فيما … أتيتِ فإنْ نجوتِ فلا تعُودِي

فكمْ جانٍ تجافَى غيرَ جهلٍ … فعادَ فلمْ يذقْ طعمَ الهجودِ

وقال منصور النمري:

لعلَّ لهُ عذراً وأنتَ تلومُ … وكمْ لائمٍ قد لامَ وهو مُليمُ

أخٌ لكَ مشتاقٌ تذكَّرَ خلَّةً … لها عندهُ ودٌّ فباتَ يهيمُ

سلامٌ علَى أمِّ الوليدِ وذكرِها … وعهدٍ لها لمْ يُنسَ وهوَ قديمُ

العلة في سهولة الهجر عند ظهور الغدر ضربٌ من المكروه وكلُّ مكروهٍ فبعد النَّفس عنه خيرٌ لها من القرب منه وعلى أنَّ نفس المحبِّ إذا استيقنت بالغدر لم ترضَ بمقاومة الهجر لأنَّ في الهجر ضربٌ من التَّأديب وضربٌ من الانتقام والنَّفس المرَّة لا تعبأ بمن غدر بها ولا تستصلحه بمعاتبةٍ ولا ترصده بمعاقبةٍ بل تخلِّي فكرها عن ذكره وتصون خواطرها عن الخوض في أمره.

وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:

يا قلبُ قدْ خانَ مَنْ كلفتَ بهِ … فخلِّ عنكَ البكاءَ في أثرهْ

شغلكَ بالفكرِ في تغيُّرهِ … أعظمُ ممَّا لقيتَ مِنْ غِيَرهْ

فارحلْ فمن لا يحلُّ موردهُ … يُفضِ بهِ صفوهُ إلى كدرهْ

وارجعْ إلى اللهِ في الأُمورِ فلنْ … تقدرَ أن تستجيرَ مِنْ قدرهْ

ومن النَّاس مَن تضعف قواه عن هذه الحال فلا يسأل عمَّا يصير إليهِ من النَّكال وكلُّ ذلك على حسب التَّوفيق والخذلان نسأل الله خير عواقب الأمور ونستكفيه كلَّ مهمٍّ ومحذور.

وقال امرؤ القيس بن حجر:

إذا قلتُ هذا صاحبٌ قد رضيتهُ … وقرَّتْ بهِ العينانِ بدَّلتُ أخرا

وذلك أنِّي لمْ أثقْ بمصاحبٍ … منَ النَّاسِ إلاَّ خانَني وتغيَّرا

وقال الأحوص:

أقولُ لمَّا التقينا وهيَ صادفةٌ … عنِّي ليُهنكِ مَنْ تُدنينهُ دُونِي

إنِّي سأمنحكِ الهجرانَ مُعتزماً … مِنْ غيرِ بغضٍ لعلَّ الهجرَ يُسلينِي

ومُثنياً رجعَ أيَّامٍ لنا سلفتْ … سقياً ورعياً لذاكَ الدِّينِ مِنْ دينِ

وبلغني أن نصيباً أتى إلى صاحبته فدفع الباب ليدخل إليها فرأى عندها فتًى تحدِّثه فقالت له: ادخل يا أبا محجنٍ فأنشأ يقول:

أراكِ طَموحَ العينِ مذَّاقةَ الهوَى … لكلِّ خليلٍ منكِ وصلٌ مُطرَّفُ

متى تجمَعِي رِدفينِ لا أكُ منهما … فهُبِّي بفردٍ لستُ ممَّنْ يُردَّفُ

ثمَّ ترك الباب ولن يسدَّه وانصرف.

وقال أبو نواس:

ومُظهرةٍ لخلقِ اللهِ عشقاً … وتُلقَى بالمحبَّةِ والسَّلامِ

أتيتُ فؤادَها أشكُو إليهِ … فلم أخلصْ إليهِ منَ الزِّحامِ

فيا مَنْ ليسَ يُقنعهُ خليلٌ … ولا ألفا خليلٍ كلَّ عامِ

أراكِ بقيَّةً مِنْ قومِ موسى … فهمْ لا يصبرونَ علَى طعامِ

وقال العباس بن الأحنف:

كتبتْ نلومُ وتستريبُ زيارَتِي … وتقولُ لستَ لنا كعهدِ العاهدِ

فأجبتُها ومدامعِي منهلَّةٌ … تجرِي علَى الخدَّينِ غيرَ جوامدِ

يا عتبُ لمْ أهجركمُ لملالةٍ … حدثتْ ولا لمقالِ واشٍ حاسدِ

لكنَّني جرَّبتكمُ فوجدتكمُ … لا تصبرونَ علَى طعامٍ واحدِ

وقال القعقاع الأسدي:

أصارمةٌ أمْ لا حِبَالكَ زينبُ … وما بينَ صرمِ الحبلِ والوصلِ مذهبُ

بلَى إنَّ أرْماقاً ضعافاً هي الَّتي … يُغرُّ بها النِّكسُ الدَّنيءُ ويُكذبُ

وما أنا بالنِّكسِ الدَّنيءِ ولا أُرى … إذا رامَ صرمِي ذو المودَّةِ أغضبُ

ولكنَّهُ ما دامَ دمتُ وإنْ يكنْ … لهُ مذهبٌ عنِّي يكنْ لِي مذهبُ

سواهُ وخيرُ الودِّ ودٌّ تطوَّعتْ … بهِ النَّفسُ لا ودٌّ أتَى وهوَ متعبُ

وقال بعض الأعراب:

أبِينِي أفي يُمنى يديكِ جعلتِنِي … فأفرحُ أمْ صيَّرتِني في شمالكِ

فإنْ كنتُ في اليُمنى فيا ليتَ عيشَتي … وإنْ كنتُ في اليسرى فضلَّ ضلالكِ

إذا لمْ تنالينَا وربِّ محمَّدٍ … ولمْ ترفَعِي رأساً بنا لمْ نُبالكِ

وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

أنا لا أبدَا بغدرٍ أبداً … فإذا ما غدرتْ لمْ أتَّركْ

أتَراني أقعدُ اللَّيلَ لها … ساهراً أطلبُ وصلاً قد هلكْ

وهيَ فيما تشتَهي لاهيةٌ … متُّ إنْ دارَ بهذينِ الفلكْ

وقال آخر:

ومِنْ شيَمي أنِّي إذا المرءُ ملَّني … وأظهرَ إعراضاً ومالَ إلى الهجرِ

أطلتُ لهُ فيما يحبُّ عنانهُ … وتاركتهُ في حسنِ يسرٍ وفي سترِ

فإنْ عادَ في وصلِي رجعتُ لوصلهِ … وإن لم يردْ أهملتُ ذاكَ إلى الحشرِ

وقال بعض أهل هذا العصر:

تخيَّرْ منَ الإخوانِ مَنْ شئتَ واتَّخذْ … خليلاً فإني ما أُريدُ خليلا

أتوبُ إليكَ اليومَ مِنْ كلِّ توبةٍ … فقدْ هُنتَ في عَيني وكنتَ جليلا

إذا لمْ يجدْ إلفي عنِ الغدرِ مذهباً … وجدتُ إلى حسنِ العزاءِ سبيلا

فواللهِ لا أرضيتُ داعيةَ الهوَى … إليكَ ولا أغضبتُ فيكَ عذولا

وقال محمد بن عبد الملك الزيات:

رأيتكَ سمحَ البيعِ سهلاً وإنَّما … يُغالي إذا ما ضنَّ بالشَّيءِ بائعهْ

فأمَّا الَّذي هانتْ بضائعُ بيعهِ … فيوشكُ أنْ تُبقي عليهِ بضائعهْ

هو الماءُ إنْ أجمعتَ طابَ ورودهُ … ويفسدُ منهُ ما تُباحُ شرائعهْ

وقال آخر:

أمِيطِي الهوَى عمَّن قلاكِ وعرِّضي … لغيري بهِ واسترزِقِي اللهَ في سترِ

فلوْ كنتِ لِي كفّاً إذنْ لقطعتُها … ولو كنتِ لي أُذناً رميتكِ بالوقرِ

ولو كنتِ لي عيناً إذاً لفقأْتُها … ولو كنتِ لي قلباً نزعتُكِ مِنْ صدرِي

وإنِّي وإنْ حنَّتْ إليكِ ضمائرِي … فما قدرُ حبِّي إنْ أُذلَّ لهُ قدرِي

وقال عبد قيس بن خفاف البرجمي:

دارَ الهوَى ولمنْ رآها دارهُ … أفَراحلٌ عنها كمنْ لم يرحلِ

فصِلِ المواصلَ ما صفا لكَ ودُّهُ … واصرمْ حبالَ الخائنِ المتبدِّلِ

واحذرْ محلَّ السُّوءِ لا تحلُلْ بهِ … وإذا نبَا بكَ منزلٌ فتحوَّلِ

وقال بعض الأعراب:

وإنِّي لأستحيي منَ اللهِ أنْ أُرَى … رديفاً لوصلٍ أوْ عليَّ رديفُ

وأن أردَ الماءَ الموَطَّأَ طينهُ … وأتبعَ ودّاً منكِ وهو ضعيفُ

وقال البحتري لنفسه:

تركتكَ للقومِ الَّذينَ تركْتَني … لهم وسَلا الإلفُ المشوقُ عنِ الإلفِ

وقالَ ليَ الأعداءُ ما أنتَ صانعٌ … وليسَ يرانِي اللهُ أنحتُ مِنْ جرفِ

ولمَّا رأيتُ القربَ يدوِي اتِّصالهُ … بعدتُ لعلَّ البعدَ مِنْ ظالمي يشفِي

وإنِّي لأستبقي ودادكَ للَّتي … تلمُّ وأرضَى منكَ دونَ الَّذي يكفي

وأسألكَ النَّصفَ احتجازاً وربَّما … أبيتُ فلم أسمحْ لغيركَ بالنَّصفِ

وإنِّي لمحسودٌ عليكَ مُنافسٌ … وإنْ كنتُ أستبطِي كثيراً وأستجفِي

وأنشدني بعض أهل الأدب:

أنقذَني سوءُ ما صنعتَ منَ الرِّ … قِّ فيا بردَها علَى كبدِي

فصرتُ عبداً للسُّوءِ فيكَ وما … أحسنَ سوءٌ قبلِي إلى أحدِ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

ألم ترَ أنَّ المرءَ تذوِي يمينهُ … فيقطعَها عمداً ليسلمَ سائرهْ

فكيفَ تراهُ بعدَ يُمناهُ صانعاً … بمنْ ليسَ منهُ حينَ تبدُو سرائرهْ

وقال أبو القمقام الأسدي:

ولمَّا بدا لِي منكِ ميلٌ معَ العدَى … عليَّ ولمْ يحدثْ سواكِ بديلُ

صددتُ كما صدَّ الرَّمِيُّ تطاولتْ … بهِ مدَّةُ الآجالِ فهوَ قتيلُ

وقال آخر:

وعزَّيتُ نفساً عن هواكِ كريمةً … علَى ما بها مِنْ لوعةٍ وغليلِ

بكتْ ما بكتْ مِنْ شجوِها ثمَّ أعقبتْ … بعرفانِ هجرٍ من نُوار طويلِ

فأصبحتُ مِنْ ميعادِها مثلَ قابضٍ … علَى الماءِ لم يرجعْ يداً بقليلِ

وقال بعض الأعراب:

فإنْ تشبَعِي منَّا وتروَى ملالةً … فنحنُ وبيتِ اللهِ أروَى وأشبعُ

وإنْ تجدِي ما خلفَ ظهركِ واسعاً … فما خلفَنا مِنْ سائرِ الأرضِ أوسعُ

وإنْ تنقضِي العهدَ الَّذي كانَ بينَنا … فنحنُ لمَا ضيَّعتِ أنسَى وأضيعُ

وقال المتلمس:

قليتُكِ فاقْلِيني فلا وصلَ بينَنا … كذلكَ مَنْ يستغنِ يستغنِ صاحبهْ

خليلٌ بدَا لي النُّصحُ منهُ فلم أكنْ … لأصرِمَهُ ما سوَّغَ الماءَ شاربهْ

عصَانِي فما لاقَى الرَّشادَ وإنَّما … تبيَّنُ عنْ أمرِ الغويِّ عواقبهْ

وقال الحسين بن الضحاك:

ألا في سبيلِ اللهِ ودٌّ بذلتهُ … لمنْ خانَني ودِّي ولمْ يرعَ لي عهدَا

أباحَ حمَى الميثاقِ واللهُ بينَنا … فلمْ يُبقِ للميثاقِ قبلاً ولا بعدا

فليتكَ لا تُجزَى بما أنتَ أهلهُ … وإن كنتَ قدْ أشرَقْتني بدمي حِقدا

عدمتكَ مِنْ قلبٌ أقامَ لغادرٍ … علَى العهدِ حتَّى كادَ يقتلُني وجْدا

وقال أيضاً:

تعزَّوْا بيأسٍ عنْ هوايَ فإنَّني … إذا انصرفتْ نفسِي فهيهاتَ مِنْ ردِّي

أبَى القلبُ إلاَّ نبوةً عن جميعكمْ … كنبوتكمْ عنِّي ففي السُّحقِ والبُعدِ

إذا خنتُكمْ بالغيبِ عهدِي فما لكمْ … تدلُّونَ إدلالَ المقيمِ علَى العهدِ

فكمْ مِنْ قتيلٍ كانَ لي قبلُ فيكمْ … فها أنذا فيكمْ نذيرٌ لمنْ بعدِي

فوا أسفاً مِنْ صبوةٍ ضاعَ شكرُها … مضتْ سلفاً في غير أجرٍ ولا حمدِ

ولبعض أهل هذا العصر:

قصرتُ عليكَ النَّفسَ حتَّى توهَّمتْ … بلِ استيقنتْ أنْ ليسَ غيركَ مطلبا

فرامتْ بديلاً منكَ لمَّا جفوتَها … فحارتْ كأنْ لم يخلقِ اللهُ منجِبا

فإنْ تتفكَّرْ في انصِرافي خائباً … وغدركَ تعلمْ أيُّنا عادَ أخيِبا

كسبتَ ملاماً واكتسبتُ بصيرةً … بأمركَ فانظرْ أيُّنا عادَ مُكسبا

سأشكرُ ذنبَ الدَّهرِ فيكَ ولم أكنْ … علَى غِيَرِ الأيَّامِ أشكرُ مُذنبا

وله أيضاً:

ما زلتُ أكذبُ فيكَ إرجافَ العدَى … والغدرُ في عطفيكَ ليسَ بخافِ

حتَّى حسرتَ لناظرِي عنْ سوءةٍ … أغنتْ أعاديكمْ عنِ الإرجافِ

فظللتُ حين خبرتُكمْ مُتعرِّضاً … عنكمْ بأوسطِ سورةِ الأعرافِ

فامضوا عليكمْ لعنةُ اللهِ ارتَعوا … في صحبةِ الأوغادِ والأجلافِ

أمَّا سلوُّ المحبّ عمَّن غدر به فغير معيب عليه إذ ليس ذلك مفوَّضاً إليه وإنَّما يوجبه نفور النَّفس عمَّن خالف شكلها كما توجب المحبَّة سكون النَّفس إلى شيء شاكل طبيعتها وأمَّا تشنيعه بالغدر على محبوبه فإنَّ ذلك لعمري قبيحٌ وما على من سلا عن إلفه أن يضمر ذلك في نفسه ولا يقصُّ على غيره ما ظهر له من سوء فعله فإن ظهر منه على ترك المواصلة عارض في ذلك بضربٍ من المجاملة.

كما فعل الَّذي يقول:

وقائلٍ كيفَ تهاجرْتُما … فقلتُ قولاً فيهِ إنصافُ

لمْ يكُ مِنْ شكلِي فناكرتُهُ … والنَّاسُ أشكالٌ وأُلاّفُ

وكما قال الآخر:

أرى عرَضَ الدُّنيا وكلُّ مصيبةٍ … تهونُ إذا عنكِ الحوادثُ زلَّتِ

فإنْ سألَ الواشونَ كيفَ هجرْتَها … فقلْ نفسُ حرٍّ سُلِّيتْ فتسلَّتِ

التَّرويع بالفراق هو السَّهم الَّذي لا يعدل عن مقاتل العشَّاق من رمى به من المحبوبين أصاب ومن دُعي به من المحبِّين أجاب وربَّما ولعت نفوس العشَّاق محاذرة وقوع الفراق عن غير سبب يوجبه إظهار الإشفاق وتلك حالٌ لا يتهيَّأ معها وصالٌ.

وفي نحو ذلك يقول الحسين بن الضحاك:

أباحَنِي قربهُ ووسَّدنِي … يُمنى يديهِ وباتَ مُلتَزِمِي

فقلتُ لمَّا استخفَّنِي فرَحي … أشوبُ عينَ اليقينِ بالتُّهمِ

أصبحَ مُستثبتاً نظرِي … إخالُني نائماً ولمْ أنمِ

وللبحتري في مثله:

حبيبٌ سرَى في خيفةٍ وعلَى ذُعرِ … يجوبُ الدُّجى حتَّى التقينا علَى قدرِ

وشككتُ فيهِ مِنْ سرورٍ خلتُهُ … خيالاً أتى في النَّومِ مِنْ طيفهِ يسرِي

وعلى أنَّ من العشَّاق من يتحاقر روعات الفراق وذلك إمَّا لما ناله من مضاضة هجرٍ أو مواقعة غررٍ وإمَّا لطغيان النَّفس ونشاطها وانبساطها في محابِّها واستظهارها بغرَّة الجهل على أحبابها ولمن كان بهذه الخلل باب مفردٌ ووصفٌ مجرَّدٌ.

وقال جميل بن معمر:

كفَى حزَناً للمرءِ ما عاشَ أنَّه … ببينِ حبيبٍ لا يزالُ يروَّعُ

فوا حزَنا لو ينفعُ الحُزنُ أهلهُ … ووا جزعَا لو كانَ للنَّفسِ مجزعُ

فأيُّ فؤادٍ لا يذوبُ بما أرَى … وأيُّ عيونٍ لا تجودُ فتدمعُ

وأنشد لأحمد بن أبي طاهر:

أذاهبةٌ نفسِي شعاعاً فميِّتٌ … ومنصدعٌ قبلَ انصداعِ النَّوى قلبِي

مخافةَ بينٍ لا تلاقيَ بعدهُ … وشحطِ النَّوى بعدَ الزِّيارةِ والقربِ

وقال آخر:

ظللتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذْ جرَى … أخُو جنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها

إذا العينُ أفنتْ عبرةً مِنْ سجامِها … بكتْها بأُخرى تستهلُّ دموعُها

وقال آخر:

خليليَّ مِنْ عُليَا هوازنَ لم أجدْ … لنفسيَ مِنْ شحطِ النَّوى مَنْ يجيرُها

غداً تمطرُ العينانِ مِنْ لوعةِ الهوَى … ويبدُو منَ النَّفسِ الكتومِ ضميرُها

أيصبرُ عندَ البينِ قلبكَ أمْ لهُ … غداً طيرةٌ لا يدَّ أنْ سيَطيرُها

وقال الطائي:

يا بُعدَ غايةِ دمعِ العينِ إنْ بعُدوا … هي الصَّبابةُ طولَ الدَّهرِ والسَّهدُ

قالُوا الرَّحيلُ غداً لا شكَّ قلتُ لهمْ … اليومَ أيقنتُ أنَّ اسمَ الحِمامِ غدُ

وقال أبو نواس:

طرحتم منَ التَّرحالِ أمراً فغمَّنا … فلو قدْ فعلتمْ صبَّحَ الموتُ بعضَنا

زعمتم بأنَّ النَّأيَ يحزنُكمْ نعمْ … سيحزنُكمْ عِلمي ولا مثلَ حُزننا

تعالُوا نُقارعكمْ ليثبتَ عندنا … مَنَ اشجَى قلوباً أوْ مَنَ اسخنَ أعيُنا

أطالَ قصيرُ اللَّيلِ يا رحمُ عندكمْ … فإنَّ قصيرَ اللَّيلِ قد طالَ عندَنا

ولا يعرفُ اللَّيلَ الطَّويلَ وكربهُ … منَ النَّاسِ إلاَّ مَنْ ينجِّمُ أوْ أنا

وقال العرجي:

ما زلتُ من روعةِ البَينِ الَّذي ذكروا … أُذري الدُّموعَ ومنِّي يُحفزُ النَّفسُ

كأنَّني حازمٌ باللَّيلِ مُرتهنٌ … ساهي الفؤادِ وعليهِ الأمرُ مُلتبسُ

وله أيضاً:

غداً فاعلمي أنِّي أشدُّ صبابةً … وأحسنُ عندَ البينِ من غيرنا عهدا

نُقطِّعُ إلاَّ بالكتابِ عتابَنا … سوى ذكرةٍ لا أستطيعُ لها ردَّا

فقالتْ وأذرتْ دمعَها لا بعدْتمُ … يعزُّ علينا أن نرى لكمُ فقدا

غداً يكثرُ الباكونَ منَّا ومنكمُ … وتزدادُ داري من دياركمُ بُعدا

وله أيضاً:

بلِّغْ قريبةَ أنَّ البينَ قدْ أفِدا … وأنَّنا إن سلِمنا رائحونَ غدا

كمْ بالحجازِ وإن كنَّا نُكاثرهُمْ … منَ الدُّموعِ ودَدْنا لا نرى أبدا

وماتَ وجداً علينا ما يبوحُ بهِ … يُحصي اللَّيالي إذا غِبنا لنا عددا

يا ليلةَ السَّبتِ قد زوَّدْتني سقماً … حتَّى المماتِ وحزناً صدَّعَ الكبدا

وقال غيره:

فراقُكَ في غدٍ وغداً قريبُ … فوا كبدا من البينِ القريبِ

فيا صدرَ النَّهارِ إليكَ عنِّي … ويا شمسَ الأصائلِ لا تغيبي

وقال آخر:

خليلي غداً لا شكَّ فيهِ مودِّعٌ … فوالله ما أدري بهِ كيفَ أصنعُ

فإنْ لم أشيِّعْهُ تقطَّعتُ حسرةً … ووا كبدا إن كنتُ فيمنْ أُشيِّعُ

فيا يومُ لا أدْبرتَ هلْ لكَ محبسٌ … ويا غدُ لا أقبلتَ هلْ لكَ مدفعُ

وقال آخر:

يا صاحبيَّ منَ الملامِ دعاني … إنَّ البليَّة فوقَ ما تصفانِ

زعمَتْ بُثينةُ أنَّ رِحلتها غدا … لا مرحباً بغدٍ فقدْ أبكاني

وقال أشجع السلمي:

غداً يتفرَّقُ أهلُ الهوَى … ويكثرُ باكٍ ومُسترجعُ

وتختلفُ الدَّارُ بالظَّاعنينَ … فنوناً تشتُّ فلا تُجمعُ

وتبقى الطُّلولُ ويفنى الهوَى … ويصنعُ ذو الشَّوقِ ما يصنعُ

فأنتَ تُبكِّي وهُمْ جيرةٌ … فكيفَ تكونُ إذا ودَّعوا

وقال ذو الرمة:

وقد كنتُ أبكي والنَّوى مُطمئنَّةٌ … مُحاذرة من علمِ ما البينُ صانعُ

وأُشفقُ من هجرانكُمْ وتشفُّني … مخافةُ وشكِ البينِ والشَّملُ جامعُ

وأهجركُمْ هجرَ البغيضِ وحبُّكمْ … علَى كبدي منه شؤونٌ صوادعُ

وقال آخر:

أخافُ الفِراقَ فأشتاقكُمْ … كأنَّا افترقنا ولم نفترقْ

فلا نبرحُ الدَّهرَ أوْ نشتفي … وهلْ يشتفي أبداً من عشِقْ

وقال العرجي:

فما أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ موقفاً … لنا ولها بالسَّفحِ دونَ ثبيرِ

ولا قولها وهْناً وقد بلَّ جيبَها … سوابقُ دمعٍ ما يجفُّ غزيرِ

أأنتَ الَّذي خُيِّرتَ أنَّكَ باكرٌ … غداةَ غدٍ أوْ رائحٌ فمهجِّر

فقلتُ يسيرٌ بعضُ شهرٍ أغيبُهُ … وما بعضُ يومٍ غيبهُ بيسيرِ

أحينَ عصيتُ العاذلينَ إليكمُ … ونازعتُ حبلي في هواكَ أميري

وباعدني فيكِ الأقاربُ كلُّهمْ … وباح بما يُخفي اللِّسانُ ضميري

فقلتُ لها قولَ امرئٍ شفَّهُ الهوَى … إليها ولو طالَ الزَّمان فقيرِ

فما أنا إن شطَّتْ بيَ الدَّارُ أوْ دنتْ … بيَ الدَّارُ عنكمْ فاعلمي بصبورِ

وقال آخر:

إذا ريعَ قلبي بالفراقِ تحدَّرتْ … دموعيَ من وجدٍ عليكِ دخيلِ

لَعمري لَموتٌ يعتريني فُجاءةً … أحبُّ إليَّ من فراقِ خليلِ

وقال أيضاً:

أيا كبدي حُمَّ الفراقُ ولم أجدْ … لنفسيَ ممَّا حاذرتْ من يُجيرُها

كأنَّ فؤادي عظْمُ ساقٍ مهيضةٍ … عنيفٌ مُداويها بطيءٌ جُبورها

فإنْ عصبوها بالجُبارِ توجَّعتْ … وإن تركوها زادَ صدعاً نفورُها

غداً تصبحُ الخوْدُ المليحةُ غُربةً … تُزارُ وتُغشي لستُ ممنْ يزورُها

وقال توبة بن الحمير:

كأنَّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغدى … بليلى العامريَّةِ أوْ يُراحُ

قطاةٌ غرَّها شركٌ فباتتْ … تُجاذبهُ وقدْ علقَ الجناحُ

فلا في اللَّيلِ نامتْ فاطمأنَّتْ … ولا في الصُّبحِ كانَ لها براحُ

وقال آخر:

أبيتُ والهمُّ تغشاني طوارقهُ … من خوفِ روعةَ بين الظَّاعنينَ غدا

قدْ صدَّعَ القلبَ حزنٌ لا ارتجاعَ لهُ … إذْ الانصداع النية العمدا

وقال آخر:

قالوا يسيرونَ لا ساروا بلى وقفوا … ولا استقلَّتْ بهمْ للبينِ أكوارُ

إذا تحمَّلَ من هامَ الفؤادُ بهِ … فلا أبالي أقامَ الحيُّ أمْ ساروا

وقال آخر:

ما زلتُ من حذرِ التفرُّقِ مُشفقاً … لو كانَ أغنى ذلك الإشفاقُ

وترى المحبَّ قريرَ عينٍ بالهوى … حتَّى يُنغِّصهُ عليهِ فراقُ

وقال آخر:

روِّعتُ بالبينِ حتَّى ما أُراعَ بهِ … وبالتَّفرُّقِ في أهلي وجيراني

لم يتركِ الدَّهرُ لي خِدناً أُسرُّ بهِ … إلاَّ اصطفاهُ ببينٍ أوْ بهجرانِ

وقال آخر:

يحنُّ إذا خافَ الفراقَ منَ اجْلها … حنينَ المُرجِّي وُجهةً لا يُريدها

وكائنْ ترى من صاحبٍ حيلَ دونهُ … ومُتْبعِ إلفٍ نظرةً لا يُعيدها

ولبعض أهل هذا العصر:

علَى كبدي من خيفةِ البينِ لوعةٌ … يكادُ لها قلبي أسًى يتصدَّعُ

يخافُ وقوعَ البينِ والشَّملُ جامعٌ … فيبكي بعينٍ دمعُها متسرِّعُ

فلوْ كانَ مسروراً بما هو واقعٌ … كما هو مسرورٌ بما يتوقَّعُ

لكان سواءً بُرْؤهُ وسقامهُ … ولكنَّ وشكَ البينِ أدْهى وأوجعُ

وأكثر استظهار خوف الفراق إنَّما هو على المتيَّمين والعشَّاق الذين استغرقهم الضَّعف بأحبابهم وجرت خلائق أحبَّتهم على نهاية محلِّهم فآمالهم مقصورة إلى الحذر من زوالهم فأمَّا من قد خرج عن حدود العشَّاق والمتيَّمين إلى مرتبة المولَّهين فإنَّ حذاره من الخيانة والغدر يشغله عن محاذرة الفراق والهجر.

وقال توبة بن الحمير:

قالتْ مخافةَ بيننا وبكتْ لهُ … والبينُ مبعوثٌ علَى المتخوِّفِ

لو ماتَ شيءٌ من مخافةِ فُرقةٍ … لأماتني للبينِ طولُ تخوُّفي

ملأَ الهوَى قلبي فضقْتُ بحملهِ … حتَّى نطقْتُ بهِ بغيرِ تكلُّفِ

فليلى الأخيليَّة عفا الله عنا وعنها إن كان ما حكاه لنا توبة عنها في البيت الثاني حقّاً فإنَّها كانت جاهلةً بأحوال العشَّاق غافلةً عمَّا تولده روعات الفراق ولَعمري إن من مراثيها في توبة بعد وفاته لدالَّةً على أنَّها لم تتعلَّق من الهوَى إلاَّ بأطرافه إذْ لو كان الهوَى قد بلغ بها أقصى الحال كانت حياتها بعد وفاة توبة ضرباً من المحال وما أحصي ما اتَّصل بي من أخبار من تخوَّف بمفارقة حبيبه فتلف من ساعته ولقد اتَّصل بي خبر لم أسمع بأعجب منه وإنَّ صاحبته وليلَى الأخيليَّة لفي الطَّرفين هذه عندها أنَّه لا يموت أحد من مخافة فرقةٍ وتلك تلفت من جريان خاطرٍ بالفراق على قلبها من غير أن يؤدي ذلك إليه ناظرها ولا سمعها ذكر أبو مالك الرَّاوية أنَّه سمع الفرزدق يقول أبقَ غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر قال فخرجت في طلبهما وأنا على ناقةٍ لي عنساء أريد اليمامة فلما صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألتهم القِرى فأجابوا فدخلت الدَّار وأنخت النَّاقة وجلست تحت ظلالهم من جريد النَّخل وفي الدَّار جويريةٌ سوداء إذْ دخلت الدَّار جاريةٌ كأنَّها فلقة قمر وكأنَّ عينيها كوكبان درِّيَّان فسألت السوداء لمن هذه العنساء فقالت لضيفكم هذا فعدلت إليَّ فقالت السَّلام عليك فقلت وعليكِ السَّلام فقالت لي من الرِّجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيِّ بني حنظلة قلت من بني نهشلٍ قالت فأنت الَّذي يقول فيك الفرزدق:

إنَّ الَّذي سمكَ السَّماءَ بنى لنا … بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ

بيتاً زُرارةُ مُحتبٍ بفنائهِ … ومُجاشعٌ وأبو الفوارسِ نهشلُ

قال قلت نعم فتبسَّمت وقالت فإنَّ ابن الخطفى جريرٌ هدم عليه بيته هو الَّذي يقول:

أخزى الَّذي رفعَ السَّماءَ مُجاشعاً … وبنى بناءَكَ بالحضيضِ الأسفلِ

بيتاً يُحمَّمُ قينكُمْ بفنائهِ … دنِسٌ مقاعدهُ خبيثُ المدخلِ

قال فأعجبتني فلمَّا رأت ذلك في وجهي قالت إلى أين تؤمُّ قلت اليمامة قال فتنفَّست الصُّعداء ثمَّ قالت ها هي تلك أمامك ثمَّ أنشأت تقول:

تُذكِّرني بلاداً خيرُ أهلي … بها أهلُ المروءةِ والكرامةْ

ألا فسقى المليكُ أجشَّ صوبٍ … يدرُّ بسحِّهِ تلكَ اليمامةْ

وحيَّى بالسَّلامِ أبا نُجيدٍ … فأهلٌ للتَّحيَّةِ والسَّلامةْ

قال فأنست بها فقلت أذات خدنٍ أم ذات بعلٍ فأنشأت تقول:

إذا رقدَ الخليُّ فإنَّ عمراً … تُؤرِّقهُ الهمومُ إلى الصَّباحِ

تُقطِّعُ قلبهُ الذِّكْرى وقلبي … فلا هو بالخليِّ ولا بصاحِ

سقى اللهُ اليمامةَ دارَ قومٍ … بها عمرٌو يحنُّ إلى الرَّواحِ

قال فقلت لها من عمرٌو فأنشأت تقول:

فإنْ تكُ ذا قُبولٍ إنَّ عمراً … هوَ القمرُ المضيءُ لمُستنيرِ

وما لي بالتَّبعُّلِ مُستراحٌ … ولو ردَّ التَّبعُّلُ لي أسيري

قال ثمَّ سكتت سكتةً كأنَّها تستمع إلى كلامي ثمَّ تهافتت وأنشأت تقول:

يُخيَّلُ لي أبا عمرو بنَ كعبٍ … كأنَّكَ قد حُملتَ على سريرِ

فإنْ يكُ هكذا يا عمرو إنِّي … مُبكِّرةٌ عليكَ إلى القبورِ

قال ثمَّ شهقت فماتت فقلت لهم من هذه قالوا هذه عقيلة بنت الضَّحَّاك بن النُّعمان بن المنذر بن ماء السَّماء قلت ومن عمرٍو هذا قالوا ابن عمِّها قال فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة فسألت عن عمرٍو فإذا به قد دفن في ذلك الوقت من ذلك اليوم.

من كان سلوُّه تابعاً لظفَره بما من أجله كان ابتداء محبَّته فإنَّ الهجر والفراق لا يعيدان له هوًى ولا يتبعان على ضميره أسًى ومن كانت طبيعته بمشاكلة طبيعته فسلا لضجرة لحقته من مخالفة محبوبه أو من تعذُّر بعض مطلوبه أو لتأذٍّ بحاجبٍ أو رقيب أو لملالٍ من سعاية واشٍ أو عذول فإن أدنى عارض يطيف به من فراق أو هجر أو من مخافة خيانة أو غدر يعيد عليه قلق الإشفاق ويردُّه بعد السُّلوِّ إلى مواقف العشاق وربما ألمَّ بمن هذه صفته في المنام طائفٌ من خيال فردَّه إلى أتمِّ ما كان عليه من الحال.

وقال البحتري:

لي خليلٌ قد لجَّ في الصَّرمِ جِدَّا … وأعادَ الصُّدودَ منهُ وأبدى

ذو فنونٍ يُريكَ في كلِّ يومٍ … خُلقاً منْ جفائهِ مُستجدَّا

يتأبَّى منعاً ويُنعِمُ إسْعا … فاً ويدنو وصلاً ويُبعدُ صدَّا

أغْتدي راضياً وقد بتُّ غضبا … نَ وأُمسي مولًى وأُصبحُ عبدا

أتراني مُستبدلاً بكَ ما عشْ … تُ بديلاً أوْ واجداً منكَ نِدَّا

حاشَ لله أنتَ أفتنُ ألحا … ظاً وأحلى شكلاً وأملحُ قدَّا

أما هذا الشعر فمن أضعف شيءٍ أعرف وذلك أنَّ صاحبه إنَّما استحسن صورةً وقدّاً فمتى تغيَّر حسنها أوْ رأى ما هو أحسن في عينه منها اتَّبعه وتركها على أنَّه مع افتقاره إلى خليله وعدمه لشكله ونظيره منتقلاً في هواه فمرَّةً يتسخَّط ومرَّةً يترضَّاه حتَّى يمسيَ مولًى ويصبح عبداً وهذه حالٌ خسيسة فإن كان لا بدَّ للمحبِّ من التَّباعد عن المحبوب فليكن ذلك ظاهراً في الأفعال غير معتقدٍ في القلوب.

كما قال عبد الله بن أبي الشيص:

إنْ لم أُرى بفناءِ بيتكِ واقفاً … فالقلبُ مُحتبسٌ عليهِ وواقفُ

هذي الجفونُ فضمِّنيهنَّ الهوَى … وثقي بهنَّ فإنَّهنَّ عفائفُ

لا يكتحلْنَ منَ الخدودِ بزهرةٍ … حتَّى تعطَّفَ بي إليكِ عواطفُ

أنتِ الَّتي غمرَ الضَّمائرَ حُبُّها … فلها التَّليدُ من الهوَى والطَّارفُ

وكأنَّ ليَ قلبينِ عندكِ واحدٌ … دانٍ وآخرُ عنْ دياركِ عازفُ

وكما قال البحتري:

الدَّارُ تعلمُ أنَّ دمعي لم يغِضْ … فأروحَ حاملَ منَّةٍ منْ مُسعدِ

ما كان لي جلَدٌ فيودي إنَّما … أودى غَداةَ الظَّاعنينَ تجلُّدي

وكما قال بعض أهل هذا العصر:

لقد باعدْتَ عنكَ أخاً شقيقاً … عليكَ فلا يغرُّكَ حسنُ صبري

فلوْ جُمعَ الأنامُ لكنتَ فرْداً … أحبَّهمُ إليَّ بكلِّ سعْرِ

فلا تحسبْ رعاكَ الله أنِّي … غدرْتُ ولا هممْتُ لكمْ بغدرِ

فوالله العظيمِ لوَ انَّ قلبي … أحبَّ سواكَ لم أُسكنْهُ صدري

وأعظمُ ما أُلاقي منكَ أنِّي … أدومُ علَى الوفاءِ ولستَ تدري

وهذا أتم من قول بشار:

أهِمُّ بأنْ أقولَ وددْتُ أنِّي … سلوتُ فما يُطاوعني لِساني

لأنَّ بشاراً خبَّر أنَّه قد همَّ ثمَّ امتنع ومن لم يرد أن يقدر أتمُّ ممن أراد ذلك فلم يقدر وأنقص من بشار في هذه الحال.

أبو المنيع الحضرمي حيث يقول:

ألمْ ترني أزمعْتُ صرماً وهجرةً … لِليلى فلمْ أسطعْ صدوداً ولا هجرا

وما مرَّ يومٌ دونها إنْ هجرتُها … ولا ساعةٌ إلاَّ أجدَّ لها ذكرا

فيا عجبا من وصليَ الحبلَ كيْ يُرى … جديداً وقدْ أمستْ علائقهُ بُترا

فإنْ تُصبحي بعدَ التَّجاوزِ والهوَى … صددْتِ فقدْ غادرتِ في كبدي عقرا

والأحوص بن محمد حيث يقول:

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعُني … حتَّى لقدْ قلتُ هذا صادقٌ نزَعا

قدْ زادهُ كلَفاً بالحبِّ أنْ مُنعتْ … أحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنعا

وكمْ دنيٍّ لها قدْ صرْتُ أتبعهُ … ولو صحا القلبُ عنها كانَ لي تبعا

ومحمد بن بشير حيث يقول:

ولقدْ أردتُ الصَّبرَ عنكِ فعاقني … علقٌ بقلبي منْ هواكِ قديمُ

يبقى علَى حدثِ الزَّمانِ وريْبِهِ … وعلَى جفائكِ إنَّهُ لَكريمُ

وذو الرمة حيث يقول:

إذا قلتُ أسلو عنكِ ما ميُّ لم يزلْ … محلٌّ لِداري من دياركِ ناكسُ

فكيف بميٍّ لا توآتيكَ دارُها … ولا أنتَ طاوي الكشحِ عنها فيائسُ

وللبحتري:

وإذا هممْتُ بوصلٍ غيركِ ردَّني … ولهٌ عليكِ وشافعٌ لكِ أوَّلُ

وأعِزُّ ثمَّ أزِلُّ ذلَّةَ عاشقٍ … والحبُّ فيهِ تعزُّزٌ وتذلُّلُ

ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو وإن لم يكن على ذلك التمام في باب النقصان:

أيا حالفاً أنِّي علَى العهدِ ناكثٌ … تأكَّدْ رعاكَ اللهُ أنَّكَ حانثُ

تجنَّيتَ مُذْ عامينِ ذنباً لَمَ اجنهِ … عليكَ وهذا العامَ قدْ تمَّ ثالثُ

إذا عرضَتْ نفسي فقمْتُ بسلوةٍ … أما ذاكَ إشفاقٌ قديمٌ وحادثُ

تسحب علَى صرفِ اللَّيالي ولا تُرعْ … فجُرمكَ منْسيٌّ وحبُّكَ لابثُ

وكلُّ أذًى تأتيهِ كيْما تُملَّني … فذاكَ علَى ألاَّ أملَّكَ باعثُ

وقال الحسين بن الضحاك:

كأنِّي إذا فارقْتُ شخصَكِ ساعةً … لفقدكِ بينَ العالمينَ غريبُ

وقد رمتُ أسبابَ السُّلوِّ فخانَني … ضميرٌ عليهِ من هواكِ رقيبُ

فما لي إلى ما تشتهينَ مُسارعٌ … وفعلُكِ ممَّا لا أحبُّ قريبُ

أغرَّكِ صفحي عنْ ذنوبٍ كثيرةٍ … وغضِّي علَى أشياءَ منكِ تُريبُ

كأنْ لم يكنْ في النَّاسِ قبلي مُتيَّمٌ … ولم يكُ في الدُّنيا سواكِ حبيبُ

إلى الله أشكو إذْ ذُكرتِ فلمْ يكنْ … بشكوايَ من عطفِ الحبيبِ نصيبُ

وقال محرز العكلي:

يظلُّ فؤادي شاخصاً من مكانهِ … وراء الغواني مُستهاماً مُتيَّما

إذا قلتُ ماتَ الشَّوقُ منهُ تنسَّمَتْ … لهُ أرْيحيَّاتُ الصِّبى فتنسَّما

وقال آخر:

لعمرُكَ ما يدري غُنيُّ بنُ مالكٍ … لَعلَّ الهوَى بعدَ التَّجلُّدِ قاتلُهْ

وما تُحدِثُ الأيَّامُ والدَّهرُ لمْ تزلْ … لِلَيلى كثيراتُ الهوَى وقلائلُهْ

وقال قيس بن ذريح:

وإنِّي وإنْ أزمعْتُ عنها تجلُّداً … علَى العهدِ فيما بيننا لَمقيمُ

إلى الله أشكو فقدَ لُبنى كما شكا … إلى اللهِ فقدَ الوالديْنِ يتيمُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أبى لي الوفاءُ دوامَ الجفا … وحلَّ الحنينُ عديمَ العزا

قعدْتُ إلى الوصلِ مُستعطفاً … وقدْ كنتُ قبلُ شديدَ الإبا

وإنِّي لَفي طولِ كتْمِ الهوَى … وستْريهِ عنكَ بفرطِ الجفا

كمنْ ينفخُ البوقَ مُستخفياً … ويضربُ بالطَّبل تحتَ الكِسا

فيا قلبُ ويحكَ كُنْ حازماً … إذا تاهَ رامَ سبيلَ النَّجا

ولا تكُ ذا عزمةٍ جاهلاً … إذا ما اعتدى لجَّ في الاعتدا

فسلِّ الحُقودَ برعْيِ العُهودِ … وداوِ الجفاءَ برعْيِ الوفا

فأوجعُ منْ حملِ عتبِ الصَّفا … زوالُ الصَّفاءِ وقطعُ الإخا

فسامحْ هواكَ وكنْ مُدنفاً … أحبَّ الدَّواء لحبِّ الشِّفا

وأنشدني أحمد بن يحيى لمجنون بني عامر:

وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخيْفِ منْ مِنًى … فهيَّجَ أطرابَ الفؤادِ وما يدري

دعا باسمِ ليلَى غيرِها فكأنَّما … أطارَ بليلى طائراً كانَ في صدري

وزادني غيره:

عرضْتُ علَى قلبي العزاءَ فقال لي … منَ الآنِ فاجزعْ لا أغرُّكَ بالصَّبرِ

فهذا على كلِّ حال أقرب إلى درجة الكمال لأنه إنَّما يخبر أنَّ اشتياقه ظهر بعد أن كان كامناً وأنَّه عرض على قلبه العزاء فأبى عليه إلاَّ الوفاء وظهور الشَّوق بعد كمونه أحسن من رجوع العشق بعد سكونه وفي هذا المعنى الَّذي اخترناه.

يقول امرؤ القيس:

سمَا لكَ شوقٌ بعدَ ما كانَ أقصرَا … وحلَّتْ سُليمى بطنَ خبتٍ فعرْعرَا

كنانيَّةٌ باتتْ وفي الصَّدرِ ودُّها … مجاورةَ النُّعمانِ والحيَّ يَعمرا

وفي ضده هذا المعنى الَّذي ذممناه بقول الملتمس:

صبَا مِنْ بعدِ سلوتهِ فؤادِي … وأسمحَ للقرينةِ بالقيادِ

كأنِّي شاربٌ يومَ استقلُّوا … وحثَّ بهم إلى الموماةِ حادِي

عُقاراً عتِّقتْ في الدَّنِّ حتَّى … كأنَّ حُبابها حدقُ الجرادِ

وقال البحتري:

عنانِي مِنْ صدودكِ ما عنانِي … وعاودَني هواكِ كما بدانِي

وذكَّرني التَّباعدُ ظلَّ عيشٍ … لهوْنا فيهِ أيَّامَ التَّداني

أُلامُ علَى هوَى الحسناءَ ظلماً … وقلبي في يدِ الحسناءِ عانِي

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لزياد بن منقذ:

لا حبَّذا أنتِ يا صنعاءُ مِنْ بلدٍ … ولا شعوبُ هوًى منَّا ولا نقمُ

وحبَّذا حيثُ تُمسي الرِّيحُ باردةً … وادِي أُشيَّ وفتيانٌ بهِ هُضمُ

ألموسعونَ إذا ما جرَّ غيرهمُ … علَى العشيرةِ والكافُونَ ما جرَموا

لمْ ألقَ بعدهمُ قوماً فأخبرهمْ … إلاَّ يزيدهمُ حبّاً إليَّ همُ

مُخدَّمونَ ثقالٌ في مجالسهمْ … وفي الرِّجالِ إذا صاحبتهمْ خدمُ

وقال امرؤ القيس:

تأوَّبني دائِي القديمُ فغلَّسَا … أُحاذرُ أنْ يزدادَني فأُنكَّسا

ولمْ يرمِ الدَّارَ الكئيبُ فشعشعاً … كأنِّي أُنادِي أوْ أُكلِّمُ أخرسا

فلوْ أنَّ الدَّارَ فيها كعهدهمْ … وجدتُ مَقيلاً فيهمِ ومعرَّسا

فلا تُنكريني إنَّني أنا جاركمْ … لياليَ حلَّ الحيُّ غوْلا فألعَسا

وقال آخر:

وقد كنتُ قبلَ اليومِ أحسبُ أنَّني … ذلولٌ لأيَّامِ الفراقِ أريبُ

فأشرفتُ يوماً للوداعِ فشاقَنِي … وذو الشَّوقِ في أعلَى اليفاعِ طروبُ

فما برحتْ نفسي تساقطُ أنفساً … وتجمدُ روحي مرَّةً وتذوبُ

وقال بشار:

إرجعْ إلى سكنٍ تُعزُّ بهِ … أفِدَ الزَّمانُ وأنتَ منفردُ

نرجو غداً وغدٌ كحاملةٍ … في الحيِّ لا يدرونَ ما تلدُ

وقال أبو تمام:

ألبينُ جرَّعني نقيعَ الحنظلِ … والبينُ أثكلني وإنْ لم أُثكلِ

ما حسرَتي أنْ كدتُ أتلفُ إنَّما … حسراتُ نفسِي أنَّني لم أفعلِ

كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتَى … وحنينهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ

نقِّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ منَ الهوَى … ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ

وقال زرعة الجعدي:

إذا ما التَقَيْنا بعدَ شحطٍ منَ النَّوى … تعرَّضَ بخلٌ بينَنا مُتتابعُ

أهابُ وأستحيي فلستُ بقائلٍ … صِليني ولا معروفُها ليَ نافعُ

رمتْ عينَ مَنْ تهوَى بعينِ خليَّةٍ … وأُخرى إلينا بالمودَّةِ طائعُ

إذا الموتُ نسَّى حبَّ ليلَى فإنَّه … إذا راجعتْ نفسي الحياةُ لراجعُ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

أحببْ إليَّ بطيفِ سُعدى الآتِي … وطروقهِ في أعجبِ الأوقاتِ

أنَّى اهتديتَ لمُحْرمينَ تصوَّبوا … لسفوحِ مكَّةَ مِنْ رُبى عرفاتِ

ذكَّرتنا عهدَ الشَّآمِ وعيشَنا … بينَ القنانِ السُّودِ فالهضباتِ

إذْ أنتَ شكلُ موافقٍ ومخالفٍ … والدَّهرُ فيكَ ممانعٌ ومؤاتِ

أبني عبيدٍ شدَّ ما احترقتْ لكمْ … كبدِي وفاضتْ فيكمُ عبَراتِي

ألقَى مكارمكمْ شجًى لي بعدكمْ … وأرَى سوابقَ دمعكمْ حسَراتِي

لمْ تحدثِ الأيَّامُ لي بدلاً بكمْ … أيْهاتِ مِنْ بدلٍ بكمْ أيْهاتِ

وقال آخر:

إذا قيلَ أنَّ النَّأيَ يُسليكَ ذكرَها … ألمَّ خيالٌ مِنْ أُميمةَ يُسعفُ

فمنْ لامَني في أنْ أهيمَ بذكرِها … تكلَّفَ مِنْ وجدٍ بها ما أُكلَّفُ

فإذا كان طيف الخيال يردُّ الهوَى على من قد سلاه ويذكر عهد الصبا من قد تناساه فما ظنُّك بحضور الفراق والهجران ومقاساة الاستبدال بالإخوان هذه أحوالٌ لا يقاومها الجفاء ولا يعارضها العزاء غير أنَّ من كان سلوُّه سلوُّ استغناءٍ لم يكترث لورود شيءٍ من هذه الأشياء.

مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر صبرَ لمنْ يهواهُ علَى الغدرِ

هذه الحال ليست جارية على الترتيب فيقع لصاحبها عذر أو تأنيب لأنها حال قد تجاوزت حدَّ العشق برضى المحب بكل فعل المحبوب وهو صاح عنها فأوقع له اختياره الرضى بها والمحبة معها ثمَّ تبعتها أشياء من غير جنسها إلاَّ أنَّها ليست هتكاً لحجاب المودة فاجتمعت معها وهذه حال وقعت بالمحبوب بعد أن وقع الرضى من محبة بخلافها ثمَّ وقع السخط منه بحدوثها والتباعد من صاحبها ثمَّ عرضت الحيرة الَّتي لا تمييز معها فردَّته بالصُّغر إلى ما لا يرضاه وصيَّرته على ما كان قبل وقوعه يخشاه وبين الرضى الاختياري وبين الرضى الاضطراري بَوْنٌ بعيد.

قال ذو الرمة:

أجِدَّكَ قد ودَّعتَ ميَّةَ إذْ نأتْ … فولَّى بقايا الحبِّ إلاَّ أمينُها

وإنِّي لطاوٍ سرَّها موضعَ الحشا … كُمونَ الثَّرى في عهدةٍ يستبينُها

لئنْ زُوِّجتْ ميٌّ خُنيساً لطالَ ما … بغَى منذرٍ ميّاً خليلاً يهينُها

تزينُكَ إنْ جرَّدتها من ثيابِها … وأنتَ إذا جرِّدتَ يوماً تشينُها

ولمَّا أتاني أنَّ ميّاً تزوَّجتْ … خُنيساً بكى سهلُ المِعَى وحزونُها

فيا نفسُ ذلِّي بعدَ ميٍّ وسامحِي … فقدْ سامحتْ ميٌّ وذلَّ قرينُها

وقال عمر بن نجا:

أتَى البخلُ دونَ الجودِ مِنْ أُمِّ واصلٍ … وضنَّ علينا بالعطاءِ ضنينُها

فللهِ درِّي يومَ مالتْ مودَّتي … إليها ولم ترجعْ إليَّ يمينُها

وما خُنتها إنَّ الخيانةَ كاسمِها … ولا نصحتْ نفسي لنفسٍ تخونُها

مددتِ حبالاً منكِ حتَّى تقطَّعتْ … إليَّ وما خانَ الحبالَ متينُها

فكيفَ أشعتِ السِّرَّ أُمَّ واصلٍ … وما أخلصَ الأسرارَ إلاَّ أمينُها

وقال آخر:

أكرُّ إلى ليلَى وأحسبُ أنَّني … كريمٌ علَى ليلَى وغيري كريمُها

فأصبحتُ قد أجمعتُ هجراً لبيتِها … وفي العينِ مِنْ ليلَى قذًى ما يريمُها

لئنْ آثرتْ بالودِّ أهلَ بلادِها … علَى نازحٍ مِنْ أرضِها لا يريمُها

وما يستوِي مَنْ لا يرَى غيرَ لمَّةٍ … ومَنْ هوَ عندَها لا يريمُها

وقال بعض الأعراب:

شكوتُ إلى رفيقيَّ الَّذي بي … فجاءانِي وقد جمعَا دواءَ

وجاءا بالطَّبيبِ ليكوِياني … وما أبغِي عدِمتُهُما اكتواءَ

فلو ذهبا إلى ليلَى فشاءتْ … لأهدتْ لِي منَ السَّقمِ الشِّفاءَ

تقولُ نعمْ سأقضِي ثمَّ تلوِي … ولا تنوِي وإنْ قدرتْ قضاءَ

أصارمةٌ حبالَ الوصلِ ليلَى … لأخضعَ يدَّعي دونِي ولاءَ

ومؤثرةُ الرِّجالِ عليَّ ليلَى … ولم أُؤثرْ علَى ليلَى النِّساءَ

ولو كانتْ تسوسُ البحرَ ليلَى … صدرْنا عن شرائعهِ ظماءَ

فمرَّا صاحبيَّ بدارِ ليلَى … جُعلتُ لها وإنْ بخلتْ فداءَ

أريتُكَ إنْ منعتَ كلامَ ليلَى … أتمنعُني علَى ليلَى البكاءَ

ولبعض أهل هذا العصر:

وتزعم للواشين أني فاسدٌ … عليك وأني لستُ مما عهدتني

وما فسدت لي يشهدُ اللهُ نيةٌ … ولكنما استفسدتني فأتهمتني

غدرتَ بعهدي عامداً وأخفتني … فخفت ولو آمنتني لأتمنتني

إلى الله أشكو لا إليك فطالما … شكوت الذي ألقى إليك فزدتني

وله أيضاً:

أُفوِّضُ أسبابي إلى اللهِ كلَّها … وأقنعُ بالمقدورِ فيها وأرتَضي

واسمحُ بالتَّفويضِ حتَّى إذا انتهَى … ضميري إلى ما بينَنا لم أُفوِّضِ

وباللهِ لو خيِّرتُ بينكَ غادراً … وبينَ كِلا المُلكينِ تخييرَ مُقتضِ

رضيتُكَ حظّاً منهما غيرَ أنَّني … بهذا الَّذي ترضاهُ لي غيرُ مرتضِ

وله أيضاً:

أبتْ غلَباتُ الشَّوقِ إلاَّ تقرُّبا … إليكَ ونأيُ العذلِ إلاَّ تجنُّبا

عليَّ رقيبٌ منكَ خالٍ بمهجَتي … إذا أنا سهَّلتُ اطِّراحكَ صعَّبا

فها أنذا وقفٌ عليكَ مجرَّبٌ … إذا ما نبَا بي مركبٌ رمتُ مركبَا

وما كانَ صدِّي عنكَ صدَّ ملالةٍ … ولا كانَ إقبالي عليكَ تطرُّبا

ولا كانَ ذاكَ العذلُ إلاَّ نصيحةً … ولا ذلكَ الإغضاءُ إلاَّ تهيُّبا

ولا الهجرُ إلاَّ فرطُ منٍّ ولا الرِّضى … بلا سببٍ إلاَّ اشتياقاً معذَّبا

ومَنْ يُمنعِ العذب الزُّلال ويمتنعْ … منَ الشُّربِ مِنْ سؤرِ الكلابِ تغضُّبا

خليقٌ إذا لمْ يستطعْ شربَ غيرهِ … وخافَ المنايا أنْ يذلَّ فيشربا

إذا المرءُ لمْ يُقدرْ لهُ ما يريدُهُ … أرادَ الَّذي يُقضى لهُ شاءَ أمْ أبى

وأنشد أعرابي ببلاد نجد:

فيا عجبَا مِنْ صونيَ الودَّ في الحشا … لمنْ هوَ فيما قد بدَا لي واترُ

ومِنْ طلبِي بالودِّ ثأري ولم يكنْ … ليُدركَ تبلاً بالمودَّةِ ثائرُ

فيا عجبَا منِّي ومنها تُضيعُني … وأحفظُها هذا اختلافُ السَّرائرِ

ويا عجبَا كيفَ اتَّفقنا فناصحٌ … مصرٌّ ومطويٌّ علَى الغشِّ غادرُ

وقال البحتري:

مغتربُ الدَّارِ إنْ أرضهُ أجدْ … مسافةَ النَّجم دونَ مُغتربهْ

راجعتهُ القولَ في ملاطفةٍ … أهربُ مِنْ صدقهِ إلى كذبهْ

وقال آخر:

سأعرضُ بالشَّكِ دونَ اليقينِ … حتَّى أُحسِّنَ غيرَ الحسنْ

وأقنعُ إذْ خُنتني مُعلناً … بقولكَ في السِّرِّ لي لم أخنْ

وقال مسلم بن الوليد:

سلوتُ وإنْ قالَ العواذلُ لا يسلو … وأقسمتُ لا يرقَى إلى سمعيَ العذلُ

أجارتنا ما في فراقكِ راحةٌ … ولكنْ جرَى قولٌ فأنتِ بهِ بَسلُ

أمَا واغتيالِ الدَّهرِ خلَّةَ بينَنا … لقد غالَ إلفاً ساكناً بهمُ الشَّملُ

فما بِي إلى مستطرفِ العيشِ وحشةٌ … وإنْ كنتُ لا مالٌ لديَّ ولا أهلُ

تتالَى بكِ الأمرُ الَّذي تكرهينهُ … إلى الحلمِ بالعُتبَى وقد سبقَ الجهلُ

عليكِ سلامٌ مِنْ أخٍ كانَ صاحباً … بهِ تنزلُ الشَّكوى ويحتملَ الثِّقلُ

إذا تمَّ حالٌ وهو غايةُ مَنْ بكى … حلا بعدكِ العيشُ الَّذي قلتُ لا يحلُو

وهذا كلام يستغني قارئه بقراءته عن التَّنبيه على تناقضه واستحالته ولا عذر في ذلك إلاَّ غلبة الحيرة على قائله وفي دون هذه الحال ما يذهل العقول ويطيش الألباب وليس العجب ممَّن أخطأ في هذا وإنَّما العجب ممَّن أصاب.

وقال علي بن محمد العلوي:

لياليَ يألفُكَ الغانياتُ … وكنَّ وكنتَ صغيراً صغارا

وقد كنتَ تملكُ ألحاظهنَّ … فصرنَ يُعرنكَ لحظاً مُعارا

فأصبحنَ أعقبنَ بعدَ الودادِ … بعاداً وبعدَ السُّكونِ النَّفارا

لا غرَّني غررُ الحادثاتِ … وقد كنتُ أوسِعُهنَّ اغترارا

وقال البحتري:

أَخفي هوًى في الضُّلوعِ وأُظهرُ … وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ

وأراكِ خنتِ على النَّوى مَنْ لم يخنْ … عهدَ الهوَى وهجرتِ مَنْ لا يهجرُ

وطلبتُ منكِ مودَّةً لم أُعطَها … إنَّ المعنَّى طالبٌ لا يظفرُ

هل دَينُ عَلوةَ يُستطاعُ فيُقتضى … أوْ ظلمُ عَلوةَ يستفيقُ فيُقصِرُ

وقال أيضاً:

تمادَى بها وجدِي وملِّكَ وصلَها … خليُّ الحشا في وصلِها جدُّ زاهدِ

وما النَّاسُ إلاَّ واجدٌ غيرُ مالكٍ … لِما يبتغِي أوْ مالكٌ غيرُ واجدِ

سقَى الغيثَ أكتافَ الحِمى مِنْ محلَّةٍ … إلى الحِقفِ مِنْ رملِ اللِّوى المُتقاوِدِ

وقال آخر:

طلبتُ أخاً محضاً صحيحاً مسلَّماً … نقيّاً منَ الآفاتِ في كلِّ موسمِ

لأمنحَهُ ودِّي فلم أُدركِ الَّذي … طلبتُ ومَنْ لي بالصَّحيحِ لمسلمِ

وقال الأحوص:

قد ودَّعتْكَ وداعَ الصَّارمِ القالي … نعمْ وداعُ بناءٍ غيرَ إذلالِ

وعادَ ما ودَّعتني مِنْ مودَّتها … بعدَ المواثيقِ كالجاري منَ الآلِ

فقلتُ لمَّا أتاني أنَّها ختَرَتْ … وطاوعتْ قولَ أعدائِي وعذَّالي

إنْ تصرمِ الحبلَ أوْ تُرضِ الوشاةَ بنا … أوْ تُمسِ قد رضيَتْ منَّا بأبدالِ

فقد أراها وما تبغِي بنا بدَلاً … ولا تطيعُ بنا في سالفِ الحالِ

أبقَى لها الدَّهرُ مِنْ ودِّي الَّذي عهدتْ … أمرَينِ لم يبرَحا منِّي علَى بالِ

شوقاً إليها إذا بتَّتْ مناسبَها … يوماً وأبصرتُ منها رسمَ أطلالِ

وحفظَ ما استودعتْ عندِي وقد زعمتْ … أنْ ليسَ يحسنُ حفظَ السِّرِّ أمثالِي

إنْ كانَ يُسلِي فؤادِي ما أتيتِ بهِ … فلا رجعتُ إلى أهلي ولا مالي

جُهداً لأُعلمَها الودَّ الَّذي عهدتْ … عندِي وأكَّدتُ أقوالاً بأقوالِ

وقال أيضاً:

متى ما تُحلِّي مِنْ ذُرى الأرضِ تلعةً … أزركِ ويكثرْ حيثُ كنتِ تردُّدي

وإنْ كدتُ شوقاً موهناً وذكرتُها … لأرجعُ بالرَّوحاءِ عَودِي علَى بَدِي

وقلتُ لعينِي قد شقيتُ بذكرِها … فجودِي بماءِ المقلتينِ أوِ اجمُدي

أجدَّكَ تنسَى أُمَّ عمرٍو وذكرُها … شعاركَ دونَ الثَّوبِ في كلِّ مرقدِ

فإنْ تتَّبعها تُغضِ عيناً علَى القذَى … وإنْ تجتنبْها بعدَ ما نلتَ تكمدِ

أمَّا من دعته الضرورة إلى الصبر على من غدر به فلا مدخل لنا في أمره وأما من يتمنَّى لإلفه أن يميل إلى حبِّ غيره ليكون ذلك عاطفاً له عليه وداعياً له إلى وصله فهو من الحمق في محلٍّ قلَّ ما يتهيَّأ مثله وما أحسب من هذه صفته يكون إلاَّ داخلاً في جملة من وقعت لهم المحابُّ لتنفيذ ضرب من الشَّهوات.

وقال بعض المحدثين:

ولمَّا بدا لي أنَّها ما تحبُّني … وأنَّ فؤادِي ليسَ عنها بمُنسلِي

تمنَّيتُ أنْ تهوَى سوايَ لعلَّها … تذوقُ حراراتِ الهوَى فترقُّ لي

وأحس من هذا ومن كل ما تقدمه قول الآخر:

واللهِ لا نظرتْ عيني إليكَ ولا … سالتْ مساربُها شوقاً إليكَ دمَا

إلاَّ رياءً لدفعِ القولِ عنكَ ولا … نازعتُكَ الدَّهر إلاَّ مكرهاً كلمَا

إنْ كنتَ خنتَ فلمْ أُضمرْ خيانتكمْ … واللهُ يأخذُ ممَّن خانَ أوْ ظلمَا

سماحةً لمحبٍّ خانَ صاحبهُ … ما خانَ قطُّ محبٌّ يعرفُ الكرمَا

هذا البائس قد ألزم نفسه قطيعة من غدر به وصبَّرها على المكروه كله إلاَّ أنَّه مع ذلك غير مضيع لما في ذمَّته من رعاية صاحبه بنفي الظُّنون عنه وهذا أكثر ما يمكن من الرعاية أو أتمُّ ما يتهيَّأ من الصِّيانة لمن بادر بالخيانة ولمن ضيَّع حقوق الأمانة ومن منع نفسه من طاعة الاشتياق وهو بعد مقيم تحت راية الإشفاق فقد قدر على أمر عظيم وظفر بحظ جسيم.

وقال جميل:

أتَوْني فقالُوا يا جميلُ تبدَّلتْ … بُثينةُ أبدالاً فقلتُ لعلَّها

وعلَّ حبالاً كنتُ أحكمتُ عقدَها … أُتيحَ لها واشٍ رفيقٌ فحلَّها

وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: حدثنا عبد الملك بن شبيب قال: حدثنا مشيختنا قال: بينما الحكم بن عمر الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير بخراسان في بعض البلاد وهو واليها إذ سمع في بعض غياطلها رجلاً يغنِّي بهذين البيتين:

تعزَّ بصبرٍ لا وجدِّكَ لا تُرى … بِوادِي الحصى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ

كأنَّ فؤادِي مِنْ تذكُّرهِ الحمى … وأهلَ الحمى يهفو بهِ ريشُ طائرِ

فوقف وقال عليَّ بالرجل فأُتي به فقال ويحك ما أنت؟ قال رجل من أهل نجد من بني عامر كنت في الدَّهر من بني عامر فقال: هل لك في الحمى؟ فقال ما لي إلى ذلك سبيل ولي بالبلاد أهل وولد قال فإني أحمل معك أهلك وولدك قال فكيف بالمعاش لا حاجة لي في هذا قال ما من ذلك بدّ وأمر به أن يُحمل قال فاضطرب في أيديهم حتَّى مات وهذا من أعجب ما سمعت في معناه ولا أعرف لهذا الرجل عذراً في الفرار من الموضع الَّذي يهواه إلاَّ أن يكون قد اتَّصل به عن محبوبه من الغدر ما لا تنبسط على مثله يد الصَّبر فكان المقام على الفراق والتَّجلُّد على دواعي الاشتياق أهون عليه من مشاهدة ما لا طاقة له به عند التَّلاق.

اجتراء العشَّاق على المبادرة إلى الفراق يكون إما لنفي أقوال الوشاة عنهم وعن أنفسهم وإما لضجرة تلحقهم من مكروه يقع بهم وإما لنشاط في النَّفس وزهد ليحقها لقوَّة الظَّفر بما قد حصل لها فترى نفسها أجلَّ من محبوبها لأنَّها مالكة ولا شيء في العالم يعدله وهو وإن كان مالكاً لها فإنَّها لا ترى نفسها في حدِّ ما يُفتخر بملكه فهي لهذه العلَّة تتكبَّر عليه.

ولبعض أهل هذا العصر:

أصولُ بهِ تيهاً عليهِ فمنْ رأَى … منَ النَّاسِ قبلي عاشقاً يتصلَّفُ

إذا خفتُ منهُ الغدرَ أبَى توافياً … يزولُ بهِ خوفي ويبقَى التَّخوُّفُ

وربَّما أعرض العاشق عن المعشوق إما من جهة الامتحان للصبر وإما لتجديد حاله عند محبوبه وكثيراً ما يجري الأمر في ذلك على ضدِّ تقديره.

وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:

ألا يا قومِي للهوَى المُتزايدِ … وطولِ اشتياقِ الرَّاحلِ المُتباعدِ

رحلتُ لكيْ أحظَى إذا أُبتُ قادماً … فأوردَنِي التّرحالُ سوءَ المواردِ

كأنِّي لديغٌ حارَ عنْ كنهِ دائهِ … طبيبِ فداواهُ بسمِّ الأساودِ

فمالَ معَ الدَّاءِ القديمِ دواؤهُ … فيا لكَ مِنْ داءٍ طريفٍ وتالدِ

وقال أبو تمام:

هيَ البدرُ يُغنيها تودُّدُ وجهها … إلى كلِّ مَنْ لاقتْ وإنْ لم تودَّدِ

علَى أنَّني لمْ أحوِ وفراً مجمَّعاً … ففزتُ بهِ إلاَّ بشملٍ مبدَّدِ

ولمْ تعطِني الأيَّامُ نوماً مسكِّناً … ألذُّ بهِ إلاَّ بنومٍ مشرَّدِ

وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ … لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ

فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زيدتْ محبَّةً … إلى النَّاسِ أنْ ليستْ عليهمْ بسرمدِ

وله أيضاً:

أقلْبي قد أضاقَ بُكاكَ ذرعِي … وما ضاقتْ بنازلةٍ ذِراعِي

أآلفةَ النَّحيبِ كمِ افتراقٍ … ألمَّ فكانَ داعيةَ اجتماعِ

وليستْ فرحةُ الأوباتِ إلاَّ … لموقوفٍ علَى ترحِ الوداعِ

وقال زهير بن أبي سلمى:

لعمركَ والخطوبُ معبِّراتٌ … وفي طولِ المعاشرةِ التَّقالي

لقدْ باليتُ مظعنَ أُمِّ أوفَى … ولكنْ أُمُّ أوفَى لا تُبالي

وقال آخر:

وأُعرضُ حتَّى يحسبَ النَّاسُ إنَّما … بيَ الهجرُ لا واللهِ ما بي لكِ الهجرُ

ولكنْ أرُوضُ النَّفسَ أنظرُ هلْ لها … إذا فارقتْ يوماً أحبَّتها صبرُ

وقال آخر:

سأرفضُ ما يخافُ عليَّ منهُ … وأتركُ ما هويتُ لِما خشيتُ

لسانُ المرءِ يُنبي عنْ نجاهُ … وعيُّ المرءِ يسترهُ السُّكوتُ

وقال آخر:

وكنتُ كذِي داءٍ وأنتَ دواؤهُ … فهبْني لدائِي إذْ منعتَ شفائيَا

شفائيَ أنْ تختصَّني بكراهةٍ … وتدرأَ عنِّي الكاشحينَ الأعاديَا

فإلاَّ تنلْني مِنْ يديكَ كرامةٌ … أُولِّ وأُصبحُ مِنْ قرى الشَّآمِ خاليَا

وأرضَى بأُخرى قد تبدَّلتُ إنَّني … إذا ساءني وادٍ تبدَّلتُ واديَا

وإلفٍ صبرتُ النَّفسَ عنهُ وقدْ أرَى … غداةَ فراقِ الحيِّ ألاَّ تلاقيَا

وقدْ قادَني الجيرانُ حبّاً وقدتهمْ … وفارقتُ حتَّى ما تحنُّ جِماليَا

وقال آخر:

وفارقتُ حتَّى ما أُبالي منَ النَّوى … وإنْ بانَ جيرانٌ عليَّ كرامُ

فقدْ جعلتْ نفسِي علَى النَّأيِ تنطوِي … وعَيني علَى فقدِ الحبيبِ تنامُ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

وكم مِن خلَّةٍ أعرضتُ عنها … لغيرِ قلًى وكنتُ بها ضنينا

أردتُ فراقَها فصددتُ عنها … ولو جُنَّ الفؤادُ بها جنونا

وقال عمر بن نجا:

تقطَّعَ منها الودُّ إلاَّ بقيَّةً … وحالَ الهوَى عمَّا تريدُ فأبعدَا

فأصبحَ هذا النَّأيُ شيئاً كرهتهُ … عسَى أنْ ترَى ما تكرهُ النَّفسُ أرشدَا

ولم أرَ منها غيرَ مقعدِ ساعةٍ … بهِ اختبلتْ عقلِي فيا لكَ مقعدا

وقال أبو تمام:

تصدَّتْ وحبلُ البينِ مستحصدٌ شزرُ … وقد سهَّلَ التَّوديعُ ما وعَّر الهجْرُ

بكتهُ بما أبكتهُ أيَّامَ صدرُها … خليٌّ وما يخلو لهُ مِنْ هوًى صدْرُ

وقالتْ أتنسى البدرَ قلتُ تجلُّداً … إذا الشَّمسُ لن تغربْ فلا طلعَ البدْرُ

فأبدتْ حناناً مِنْ دموعٍ نظامُها … علَى الخدِّ إلاَّ أنَّ صائغَها الشَّفْرُ

وما الدَّمعُ ثانٍ عزمتي ولَوَ انَّها … سقى خدَّها مِنْ كلِّ عينٍ لها شفْرُ

وقال آخر:

إذا ما أرادَ الغزوَ لمْ يثنِ همَّهُ … حصانٌ عليها نظمُ درٍّ يزينُها

نهتهُ فلم ترَ النَّهيَ عاقهُ … بكتْ فبكَى ممَّا عناها قطينُها

وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي:

لمْ أنسَ يومَ الرَّحيلِ عبرَتَها … وطرفُها في دموعِها غرقُ

وقولَها والرِّكابُ واقفةٌ … تترُكُني هكذا وتنطلقُ

وقلَّ من اجترأ هذا الضَّرب من الاجتراء وحمل نفسه على هذه الفظاظة والجفاء إلاَّ كان سريع النَّدم على صنيعه شديد الأسف على تصنيعه فكان كالذي يقول معنِّفاً لنفسه وموبِّخاً لها عند ما نزل به:

بكيتَ دماً حتَّى القيامةِ والحشرِ … ولا زلتَ مغلوبَ العزيمةِ والصَّبرِ

أتظعنُ طوعَ النَّفسِ عمَّن تحبُّهُ … وتبكِي كما يبكِي المُفارقُ عن صغرِ

أقمْ لا تسِرْ والهمُّ عنكَ بمعزلٍ … ودمعكَ باقٍ في جفونكَ لا يجرِي

وكالذي يقول:

أتظعنُ عنْ حبيبكَ ثمَّ تبكِي … عليهِ فمنْ دعاكَ إلى الفراقِ

كأنَّكَ لمْ تذقْ للبينِ طعماً … فتعلمَ أنَّه مرُّ المذاقِ

أقمْ وانعمْ بطولِ القربِ منهُ … ولا تظعنْ وتكتبْ باشتياقِ

فما اعتاضَ المفارقُ مِنْ حبيبٍ … ولو يُعطَى الشَّآمَ معَ العراقِ

وقال يزيد بن الطثرية:

أتبكي علَى ليلَى ونفسكَ باعدتْ … مزاركَ مِنْ ليلَى وشعباكُما معَا

وما حسناً أنْ تأتيَ الصَّرمَ طائعاً … وتجزعَ أنْ داعي الصَّبابةِ أسمعَا

قِفا ودِّعا نجداً ومَنْ حلَّ بالحمى … وقلَّ لنجدٍ عندنا أنْ يودَّعا

وأذكرُ أيَّامَ الحمى ثمَّ ألتوِي … علَى كبدِي مِنْ خشيةٍ أنْ تصدَّعا

وليستْ عشيَّاتِ الحمى برواجعٍ … عليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تدمعَا

وقال أبو تمام:

أصغَى إلى البينِ مغترّاً فلا جرَما … إنَّ النَّوى أسأرتْ في عقلهِ لمَمَا

أصمَّني سرُّهم أيَّامَ فرقتهمْ … هل كنتَ تعرفُ شيئاً يورِثُ الصَّمما

نأَى فظلَّتْ لوشكِ البينِ مقلتهُ … تُبدي نجيعاً ويُبدي جسمهُ سقَما

أظلَّهُ البينُ حتَّى أنَّه رجلٌ … لو ماتَ مِنْ شغلهِ بالبينِ ما علِما

وقال علي بن الجهم:

يا رحمَتا للغريبِ في البلدِ النَّا … زحِ ماذا بنفسهِ صنَعا

فارقَ أحبابهُ فنا انتفعُوا … بالعيشِ مِنْ بعدهِ ولا انتفعَا

وقال المجنون:

فإن ترجعِ الأيَّامُ بيني وبينَها … بذي الأثلِ صيفاً مثلَ صيفِي ومربَعي

أشدُّ بأعناقِ النَّوى بعدَ هذهِ … مرائرَ إنْ جاذَبتها لمْ تقطَّعِ

وقال زياد بن أبي زياد:

أطعتُ بها قولَ الوشاةِ فلا أرَى ال … وشاةَ انتهَوْا عنَّا ولا الدَّهرَ اعْتَبا

فلا تكُ كالنَّاسِي الخليلِ إذا دنتْ … بهِ الدَّارُ والباكِي إذا ما تغيَّبا

وقال هدبة بن خشرم:

ألا يا لقومِي للنَّوائبِ والدَّهرِ … وللمرءِ يُردِي نفسهُ وهوَ لا يدرِي

ألا ليتَ شِعري هل إلى أُمِّ معمرٍ … علَى ما لَقينا مِنْ ثناءٍ ومِنْ هجرِ

تباريحُ يلقاها الفؤادُ صبابةً … إليها وذِكراها علَى حينِ لا ذكرِ

فيا قلبُ لمْ يألفْ كإلفكَ آلفٌ … ويا حبَّها لم يغرِ شيءٌ كما تُغري

وما عندَها للمستهامِ فؤادهُ … بها إنْ ألمَّتْ مِنْ جزاءٍ ومِنْ شكرِ

وقال آخر:

بكرتْ عليكَ فهيَّجتْ وجدا … بِسُرى الرِّياحِ وأذكرتْ نجدا

أتحنُّ مِنْ شوقٍ إذا ذكرتْ … نجدٌ وأنتَ تركتَها عمدا

وقال آخر:

ألا هل إلى ليلَى قُبيلَ منيَّتي … سبيلٌ وهلْ للنَّاجعينَ رجوعُ

إلى اللهِ أشكُو نيَّةً شقَّتِ العصا … هيَ اليومَ شتَّى وهي أمسِ جميعُ

لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءِ مالكٍ … لعاصٍ لأمرِ العاذلين مُضيعُ

مضَى زمنٌ والنَّاسُ يستشفعونَ بي … فهلْ لي إلى ليلَى الغداةَ شفيعُ

ندمتُ علَى ما كانَ منِّي ندامةً … كما ندمَ المغبونُ حينَ يبيعُ

فقدتُك مِنْ قلبٍ شجاعٍ فإنَّني … نهيتكَ عن هذا وأنتَ جميعُ

وقرَّبتَ لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ … هناكَ ثنايا ما لهنَّ طلوعُ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

قلْ للرِّياحِ إذا جريتِ فبلِّغي … كبدِي نسيماً مِنْ جنابِ نسيمِ

أُخدعتُ عنكَ وأنتَ بدرٌ خادعٌ … للَّيلِ عن ظلمٍ بهِ وغيومِ

وظلمتُ نفسِي جاهداً في ظلمِها … فاسمعْ مقالةَ ظالمٍ مظلومِ

كرُمَ الزَّمانُ ولمتُ فيكَ ولا أرَى … عجباً سوَى كرمِ الزَّمانِ ولوْمي

لا كانَ حبِّي أينَ كانَ وأنتَ لي … ملكٌ وعهدي منكَ غيرُ ذميمِ

الآنَ أطمعُ في الوصالِ ودونَنا … عينُ الرَّقيبِ وبابُ إبراهيمِ

وقال الأحوص:

فوا ندَمِي إذْ لم أعجْ إذْ تقولُ لي … تقدَّمْ فشيِّعنا إلى ضحوةِ الغدِ

فأصبحتُ ممَّا كانَ بيني وبينها … سوَى ذكرِها كالقابضِ الماء باليدِ

وقال الحسين بن مطير الأسدي:

لقد كنتُ جلداً قبلَ أن توقدَ النَّوى … علَى كبدِي ناراً بطيئاً خمودُها

وقد كنتُ أرجو أنْ تموتَ صبابتي … إذا قدمتْ أيَّامُها وعهودُها

فقدْ جعلتْ في حبَّةِ القلبِ والحشا … عهودَ الهوَى تُولَى بشوقٍ يعيدُها

وقال آخر:

هممتَ بفرقةٍ والموتُ فيها … كأنَّكَ حتفَ نفسكَ تستثيرُ

فلا تجسرْ علَى أمرٍ قويٍّ … عليكَ فربَّما هلكَ الجسورُ

وقال قيس بن ذريح:

وخبَّرتَني يا قلبُ أنَّكَ صابرٌ … علَى الهجرِ مِنْ لُبنى فسوفَ تذوقُ

فمتْ كمداً أوْ عشْ سقيماً فإنَّما … تُكلِّفُني ما لا أراكَ تطيقُ

وقال عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:

فيا مَنْ لنفسٍ لا تموتُ فينقضِي … عناها ولا تحيَى حياةً لها طعمُ

فذُقْ هجرَها قد كنتَ تزعمُ أنَّه … رشادٌ ألا يا ربَّما كذبَ الزَّعمُ

وقال ابن الدمينة:

وقد زعمُوا أنَّ المحبَّ إذا دنا … يملُّ وأنَّ النَّأيَ يشفِي منَ الوجدِ

بكلٍّ تداوَينا فلم يُشفَ ما بنا … علَى ذاكَ قربُ الدَّارِ خيرٌ منَ البعدِ

وقال آخر:

وأكثرُ ما في النَّفسِ أنِّي صرمتُها … ولم يتحوَّلْ حبُّها عنْ فؤادِيا

طلبنا دواءَ الحبِّ عصراً فلمْ نجدْ … منَ الحبِّ إلاَّ مَنْ يحبُّ مُداويا

فعل الوداع وتركه نقص كله ممن قدر أن يرد الفراق عن نفسه وذلك إن الحزم لأهل الهوى ألاَّ يبسطوا على أرواحهم يد النوى فإن عذاب الهوى مع حضور المحبوب ينغِّص العيش ويبرِّح القلوب فكيف إذا تحكَّم فيه سلطان الفراق وأمدَّت صاحبه الفكر بخواطر الإشفاق والتهبت في الضَّمير لوعات الاشتياق حينئذ تُسكب العبرات وتتمكَّن الحسرات.

وقال حبيب بن أوس الطائي:

أمَّا الهوَى فهوَ العذابُ فإن جرتْ … فيهِ النَّوى فأَليمُ كلِّ أليمِ

فإن كان لا بدَّ من فراق فلا يكن إلاَّ بعد تشييع ووداع بلغني عن محمد بن سيرين أنَّه قال إن كان لا بدَّ من قيد فليكن مجليّاً.

وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:

تمتَّعْ من حبيبكَ بالوداعِ … فما بعدَ الفراقِ منِ اجتماعِ

فكم جرِّعنَ منْ هجرٍ وغدرٍ … ومنْ حالِ ارتفاعٍ واتِّضاعِ

وكم كاسٍ أمرَّ منَ المنايا … شربتُ فلم يضقْ عنها ذِراعي

فلمْ أرَ في الَّذي قاسيتُ شيئاً … أشدَّ منَ الفراقِ بلا وداعِ

تعالَى اللهُ كلُّ مواصلاتٍ … وإنْ طالتْ تؤولُ إلى انقطاعِ

واختيارات العشَّاق تفاوتُ في أمر الوداع تفاوتاً شديداً فبعضهم مسارع إلى الفراق تغنُّماً للوداع فمنهم الَّذي يقول:

منْ يكنْ يكرهُ الفراقَ فإنِّي … أشتهيهِ لموضعِ التَّسليمِ

إنَّ فيهِ عناقة لوداعٍ … وانتظارِي عناقةً لقدومِ

ومنهم الَّذي يقول:

لستُ ممَّن يذمُّ يومَ الفراقِ … ولهُ منَّةٌ علَى العشَّاقِ

إنَّ فيهِ اعتناقةً لوداعِ … وانتظارَ اعتناقِ يومِ التَّلاقِ

وقال البحتري في هذا المعنى وله في ضده وما منهما إلاَّ مختار في بابه:

فأحسنْ بنا والدَّمعُ بالدَّمعِ واشجٌ … يمازجهُ والخدُّ بالخدِّ مُلصقُ

وقد ضمَّنا وشكُ التَّلاقي ولفَّنا … عناقٌ علَى أعناقِنا ثمَّ ضيِّقُ

فلمْ ترَ إلاَّ مخبراً عن صبابةٍ … بشكوَى وإلاَّ عبرةً تترقرقُ

ومِنْ قُبَلٍ قبلَ التَّشاكي وبعدهُ … نكادُ بها من شدَّةِ اللَّثمِ نشرقُ

فلو فهمَ النَّاسُ التَّلاقي وحسنهُ … لحُبِّبَ من أجلِ التَّلاقي التَّفرُّقُ

ومنهم من يصبر على الفراق ويتعمَّد التَّخلُّف عن الوداع إشفاقاً من مضاضة وعجزاً عن معاتبة ساعته.

فمنهم البحتري حيث يقول:

اللهُ جاركَ في انطلاقكْ … تلقاءَ شآمكَ أوْ عراقكْ

لا تعذُلنِّي في خروجِي … يومَ سرتَ ولمْ أُلاقكْ

إنِّي عرفتُ مواقفاً … للبينِ تسفحُ غربَ ماقِكْ

وعرفتُ ما يلقَى المودِّ … عُ عندَ ضمِّكَ واعتناقكْ

وعلمتُ أنَّ لقاءَنا … سببُ اشتياقِي واشتياقكْ

وتركتُ ذاكَ تعمُّداً … وخرجتُ أهربُ مِنْ فراقكْ

وحكى أبو سليمان عن ابن الأعرابي أنَّه قال قلت لعمار بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:

لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخرَ عهدكمْ … يومَ الفراقِ فعلتُ ما لمْ أفعلِ

قال فما يهمُّني إن قال كان يقلع عينيه ولا يرى أحبابه الظَّاعنين فمن يقع به الفراق اضطراراً ويترك هو الوداع اختياراً فهو أحسن حالاً ممَّن يضطر إلى الأمرين جميعاً فإن اجتماع الهجر والفراق يتلف مهجة المشتاق.

وفي مثل ذلك يقول البحتري:

عدتْنا عوادِي الحبِّ عنها وزادَنا … بها كلَفاً أنَّ الوداعَ علَى عتبِ

ولي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعهُ … إلى نهلةٍ مِنْ ريقها الخصر العذبِ

وفي نحوه يقول أبو تمام:

أنأياً واجتناباً أيُّ صبرٍ … معَ البلوَى يعرِّسُ بين ذينِ

ألمْ يُقنعكَ فيهِ الهجرُ حتَّى … جمعتَ لقلبهِ هجراً ببينِ

وعلى أنَّ من المحبوبين من يدعوه حضور الفراق إلى الحرص على التَّوديع والتَّلاق فيكون وقوع النَّوى سبباً لاستخراج ما في نفسه من الضِّغن.

فمن ذلك قول أبي تمام:

أعرضتْ برهةً فلمَّا أحسَّتْ … بالنَّوى أعرضتْ عنِ الإعراضِ

نظرتْ فالتفتُّ منها إلى أح … لى سوادٍ رأيتهُ في بياضِ

ومنه قول الآخر:

ألمْ ترَ قيسٌ كلُّها أنَّ عزَّها … غداةَ غدٍ عن دارهِ الدَّهرَ ظاعنُ

هُنالكَ جادتْ بالدُّموعِ موانعُ ال … عيونِ وسُلَّتْ بالفراقِ الضَّغائنِ

وقال آخر:

عشيَّةَ أدعُو مُسعدي فلمْ أجدْ … إلى حرِّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ مُسعدا

عشيَّةَ زمُّوا للفراقِ جِمالهمْ … فلمْ ترَ إلاَّ واضعاً في يدي يدا

وقال آخر:

فلا أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها … وأدمعُها يُذرينَ حشوَ المكاحلِ

تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإنَّه … رهينٌ بأيَّامِ الشُّهورِ الأطاولِ

وقال آخر:

أقولُ لمُقلَتي لمَّا التقينا … وقدْ شرقتْ مآقيها بماءِ

خُذي لي اليومَ مِنْ نظرٍ بحظٍّ … فسوفَ تُوكَّلينَ إلى البكاءِ

وقال آخر:

أقولُ لهُ يومَ ودَّعتهُ … وكلٌّ بعبرتهِ مُبْلِسُ

لئنْ رجعتْ عنكَ أجسامُنا … لقدْ سافرتْ معكَ الأنفسُ

وأنشدنا أحمد بن يحيى:

إنَّ الظَّعائنَ يومَ جوِّ سويقةٍ … أبكينَ عندَ فراقهنَّ عيونا

غيَّضنَ مِنْ عبراتهنَّ وقلنَ لي … ماذا لقيتَ منَ الهوَى ولقينا

وقال جرير:

ودِّعْ أُمامةَ حانَ منكَ رحيلُ … إنَّ الوداعَ لمنْ تحبُّ قليلُ

تلكَ القلوبُ صوادياً تيَّمْتها … وأرَى الشِّفاءَ وما إليهِ سبيلُ

أعذرتُ في طلبِ النَّوالِ إليكمُ … لو كانَ من ملكَ النَّوالَ نبيلُ

وقال ذو الرمة:

لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءَ مالكٍ … لشوقيَ منقادُ الجنيبةِ تابعُ

فأخْذُ الهوَى فوقَ الحلاقيمِ مُخرسٌ … لنا إذْ نُحيَّا أن نسلِّمَ مانعُ

فلمَّا عرفْنا آيةَ البينِ بغتةً … وهذا النَّوى بينَ الخليطينِ قاطعُ

لحِقْنا وراجعنا الحمولَ وإنَّما … تُقضِّي دياناتِ الوداعِ المراجعُ

فلمَّا تلاحقْنا ولا مثلَ ما بنا … منَ الوجدِ لا تنقضُّ منهُ الأضالعُ

غدونَ فأحسنَّ الوداعَ فلمْ نقلْ … كما قلنَ إلاَّ أن تشيرَ الأصابعُ

وخالسنَ تبساماً إلينا كأنَّما … تصيبُ بهِ حبَّ القلوبِ القوارعُ

وقال الحسين بن الضحاك:

هلاَّ رحمتِ تلدُّدَ المشتاقِ … ومننتِ قبلَ فراقهِ بتلاقي

نفسِي الفداءُ لخائفٍ مترقِّبٍ … جعلَ الوداعَ إشارةً بعناقِ

إذْ لا جوابَ لمفحمٍ متحيِّرٍ … إلاَّ الدُّموعُ تصانُ بالإطلاقِ

وقال عبيد الله بن الصمة:

ولمْ أرَ مثلَ العامريَّةِ قبلَها … ولا بعدَها يومَ التقينا مودِّعا

شكوتُ إليها فيضةَ الحيِّ بالحشا … وخشيةَ شملِ الحيِّ أنْ يتصدَّعا

فما راجعتْنا غيرَ صمتٍ وإنَّه … تكادُ لهُ الأحشاءُ أنْ تتقطَّعا

لقد خفتُ أن لا تقنعَ النَّفسُ دونَها … بشيءٍ منَ الدُّنيا وإنْ كانَ مُقنعا

وأعذلُ فيها النَّفسَ إذا حيلَ دونَها … وتأبَى إليها النَّفسُ إلاَّ تطلُّعا

وقال الطرماح:

كأنْ لم يرعكَ الظَّاعنونَ ببينهمْ … بلَى مثلُ فقدِ الظَّاعنينَ يروعُ

يراقبنَ أبصارَ الغيارَى بأعينٍ … عواذرَ ما تجرِي لهنَّ دموعُ

وقال البحتري:

وقفْنا والعيونُ مثقَّلاتٌ … يغالبُ طرفَها نظرٌ كليلُ

نهتهُ رِقبةُ الواشينَ حتَّى … تعلَّقَ لا يفيضُ ولا يسيلُ

وقال قيس بن الحدادية الخزاعي:

أجدَّكَ إنْ نُعمٌ نأتْ أنتَ جازعُ … وقدْ قربتْ أوْ أنَّ ذلكَ نافعُ

وحسبيَ مِنْ نأيٍ ثلاثةُ أشهرٍ … ومنْ جزعٍ إنْ زادَ شوقكَ رابعُ

وقالتْ وعيناها تفيضانِ بالبُكا … بأهليَ خبِّرني متى أنتَ راجعُ

فقلتُ لها تاللهِ يدرِي مسافرٌ … إذا أضمرتهُ الأرضُ ما اللهُ صانعُ

وقال آخر:

راعكَ البينُ والمحبُّ يراعُ … حينَ قالُوا تشتُّتٌ وانصداعُ

لستُ أنسَى مقالَها يومَ ولَّتْ … وقُصارَى المشيِّعينَ الوداعُ

وقال آخر:

ليسَ شيءٌ منَ الفراقِ إذا كا … نَ أخُو الحبِّ والِهاً كلِفا

أحرقَ منْ وقفةِ المشيِّعِ للقل … بِ يريدُ الوداعَ مُنصرفا

وقال طريح:

يا ليتَ شِعري عنِ الحيِّ الذينَ غدَوْا … هل بعدَ فرقتهمْ للشَّملِ مجتمعُ

أتبعتهمْ مقلةً جادتْ بأدمعِها … والقلبُ منِّي علَى آثارهمْ قطعُ

فكلُّ ما كنتُ أخشَى قد فُجعتُ بهِ … فليسَ لي منْ فراقٍ مرَّةً جزعُ

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

تقضَّتْ لُباناتٌ وجدَّ رحيلُ … ولم يُشفَ من أهلِ الصَّفاءِ غليلُ

ومُدَّتْ كفوفٌ للوداعِ فصافحتْ … وكادتْ عيونٌ للفراقِ تسيلُ

ولا بدَّ للإلفينِ من يومِ لوعةٍ … إذا ما خليلٌ بانَ عنهُ خليلُ

وكمْ منْ دمٍ قد طُلَّ يومَ تحمَّلتْ … أوانسُ لا يُودَى لهنَّ قتيلُ

غداةَ جعلتُ الصَّبرَ شيئاً نسيتهُ … وأعولتُ لو أجدَى عليَّ عويلُ

وقال آخر:

تفرَّقَ أهلي من مُقيمٍ وظاعنٍ … فللّهِ درِّي أيُّ أهليَّ أتبعُ

أقامَ الأُلى لا أستطيعُ فراقهمْ … وبانَ الأُلى قلبي بهمْ يتقطَّعُ

بعينيَّ تلكَ العيرُ حتَّى تجاوزتْ … وحتَّى أتَى من دونِها الخبتُ أجمعُ

وأعرضَ مِنْ رضوَى معَ اللَّيلِ دامسٌ … هضابٌ تردُّ الطَّرفَ عمَّنْ تشيَّعُ

وقال البحتري:

قد أرتكَ الدُّموعُ يومَ تولَّتْ … ظعنُ الحيِّ ما وراءَ الدُّموعِ

عبراتٌ ملءَ الجفونِ مَرَتها … حرقٌ للفراقِ ملءَ الضُّلوعِ

إنْ يثُبْ وادعُ الضَّميرِ فعندِي … نصبٌ مِنْ عشيَّةِ التَّوديعِ

فُرقةٌ لم تدعْ لعينيْ محبٍّ … نظراً بالعقيقِ غيرَ الرُّبوعِ

وقال أيضاً:

رحلُوا فأيَّةُ عبرةٍ لم تُسكبِ … أسفاً وأيُّ عزيمةٍ لم تُغلبِ

لو كنتَ شاهدَنا وما صنعَ الهوَى … بقلوبِنا لحسدتَ مَنْ لم يُحببِ

وقال أيضاً:

منزلٌ هاجَ لي الصَّبابةَ والشَّو … قُ قريني وساءَ ذاكَ قرينا

وتودُّ القلوبُ يومَ استقلَّتْ … ظعنُ الحيِّ أن تكونَ عيونا

فاتْرُكاني فما أُطيعُ عذولاً … واخْذُلاني فما أُريدُ مُعينا

وقال أبو تمام:

لا أظلمَ النَّأيُ قدْ كانتْ خلائقُها … من قبلِ وشكِ النَّوى عندي نوًى قذُفا

ودِّعْ فؤادكَ توديعَ الفراقِ فما … أراهُ مِنْ سفرِ التَّوديعِ مُنصرفا

وقال آخر:

لم أنسَ إذْ قالتْ غداةَ النَّوى … ودمعُها منحدرٌ واكفُ

لأنتَ أحلَى مِنْ لذيذِ الكرَى … ومِنْ أمانٍ نالهُ خائفُ

وقال البحتري:

وانثنتْ وُجهةَ الفراقِ فأرسلْ … تُ إليها عيناً عليها تجودُ

نظرةٌ خلفَها الدُّموعُ عِجالاً … تتمارَى ودونَها التَّسهيدُ

أترى فائتاً يرجَّى ويوماً … مثلَ يومِي برامَتينِ يعودُ

وقال بعض الظاهريين:

قفِي ودِّعينا قبلَ أنْ تصدعَ النَّوى … بوصلكِ شملاً لم يكنْ متصدِّعا

ولا تجمعِي هجراً عليَّ وفرقةً … فما جُمعا قبلِي علَى عاشقٍ معَا

أما الفراق فمستغنٍ ببشاعة اسمه عن الإغراق في وصفه.

ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي في قوله:

أخٌ لي لَوُ اعطيتُ المُنى باسمِ فقدهِ … بلا فقدهِ كانتْ بهِ ثمناً بخسَا

فلو أنَّ نفسِي ألفُ نفسٍ لما انثنتْ … يدُ البينِ أو تُودِي بآخرها نفسَا

وقد اختلف العشاق في التفصيل والفراق فمن أهل الهوى من يُعظم شأن الهجر على شأن النَّوى وينشد محتجّاً لذلك:

وأنقذَها مِنْ غمرةِ الموتِ أنَّه … صدودُ فراقٍ لا صدودُ تعمُّدِ

فأجرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورَّداً … من الدَّمِ يجرِي فوقَ خدٍّ مورَّدِ

وأكثر أهل هذا الشأن يُغلبون شأن النَّوى على شأن الهجر بل يغلِّبونه على كل مكروه من الأمر غير الخيانة والغدر.

ولقد أحسن أبو تمام حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:

وكانَ عزيزاً أنَّ بيني وبينكمْ … حجاباً فقدْ أصبحتُ منكمْ علَى شهرِ

وأبكاهُما للعينِ واللهِ إنَّني … أُحاذرُ أنْ لا نلتقي آخرَ الدَّهرِ

وكمْ دونَنا مِنْ مهمهٍ مُتنازحٍ … ومن جبلٍ وعرٍ ومن بلدٍ قفرِ

وما زلتُ أرضى مِنْ خليلِي بهجرهِ … فأحسبُ أنْ لا داءَ أدوَى منَ الهجرِ

إلى أنْ رمانا دهرُنا بتفرُّقٍ … فأيقنتُ أنَّ البينَ قاصمةُ الظَّهرِ

ونحن نقول الآن الفرقان بين الفراق والهجران الَّذي يعظم عندي أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر لأنَّ الهجر إذا خرج عن أن يكون عقاباً على ذنبٍ أو تذلُّلاً بإظهار تجنٍّ أو عتب أو مراقبة لواشٍ أو مللاً من العذل فلا معذر له غير الغدر والخيانة وترك المقام للهوى بحق الرعاية فهذا أصعب أسباب الهجر ومما ينقص من صعوبته ويكفُّ من عاديته أنَّه إذا جرى هذا المجرى لحق المقصود به ضربٌ من الغيظ لقبح ما صنع به عن غير سبب موجب له وليس شخص المحبوب بناءٍ عن نظره فيتمالك عنه من إزعاج الشوق بفكره ما يذهب بغيظه ويُلين من قلبه ومع الفراق زوال ذلك كله لأن غيبة الشخص عن الناظر مزيلة لكل غيظ وغافرة لكل ذنب وذاهبة بكل عجب يتداخل المحبوب والمحب فالنفوس تذل للفراق وتنقاد معه لدواعي الإشفاق والاشتياق فهذا مقدار ما يتسهّل لنا من وصفهما ويجوز أن نقطع به من الحكم بينهما.

قال ابن ميادة:

سلِ اللهَ صبراً واعترفْ بفراقِ … عسى بعدَ بينٍ أن يكونَ تلاقي

ألا ليتني قبلَ الفراقِ وبعدهُ … سقاني بكأسٍ للمنيَّةِ ساقي

وقال آخر:

فوا حسرتا لمْ أقضِ منكمْ لُبانة … ولم أتمتَّعْ بالجوارِ وبالقُربِ

وفُرِّقَ بيني في المسيرِ وبينكمْ … فها أنذا قاضٍ علَى إثركمْ نحْبي

وقال آخر:

ألا مَنْ لقلبٍ مُعرضٍ للنَّوائبِ … رمتْهُ خُطوبُ الدَّهرِ من كلِّ جانبِ

تبيَّنَ يومَ البينِ أنَّ اعتزامه ع … لى الصَّبرِ من إحدى الظُّنونِ الكواذبِ

وقال آخر:

مَنْ كانَ لمْ يذُقِ الهوَى أوْ ذاقهُ … فلقدْ أخذتُ منَ الهوَى بنصيبِ

فرأيتُ أنَّ أشدَّ كلِّ بليَّةٍ … قُضيتْ علَى أحدٍ فراقُ حبيبِ

وقال أبو تمام:

لو كانَ في البينِ إذْ بانوا لهمْ دعَةٌ … لكانَ بينهمُ منْ أعظمِ الخطرِ

فكيفَ والبينُ موصولٌ بهِ تعبٌ … يكلِّفُ البيدَ في الإدلاجِ والبُكرِ

لو أنَّ ما تبتليني الحادثاتُ بهِ … يكونُ بالماءِ لم يُشربْ من الكدرِ

لو كانَ بالعيسِ ما بي يومَ رحلتهمْ … أعيَتْ علَى السَّائقِ الحادي فلم تسرِ

كأنَّ أيدي مطاياهُمْ إذا وخدَتْ … يقعْنَ في حُرِّ وجهي أوْ علَى بصري

وقال ابن الدمينة:

إلى اللهِ أشكو مُضمراتٍ من الهوَى … طواهُنَّ طولُ النَّأيِ طيَّ الصَّحائفِ

أقامَ بنحْوِ الماءِ قلبي وباعدَتْ … بسائرِ جِثماني قلاصُ الغلائفِ

وقال معاذ ليلَى العقبلي:

أقامَ فريقٌ من أُناسٍ تودُّهمْ … بذاتِ الشَّرى عندي وبانَ فريقُ

بحاجةِ محزونٍ ثباتُ فؤادهِ … رهينٌ ببيضاتِ الحجالِ صديقُ

تحمَّلْنَ أنْ هبَّتْ لهنَّ عشيَّةً … جَنوبٌ وأنْ لاحتْ لهنَّ بروقُ

فواكبدي أُكْوى عليها وإنَّها … مخافةَ هيضاتِ النَّوى لخَفوقُ

وقال المعلوط:

دعوْتُ ربِّي دُعائي فاستجابَ لهُ … كما دعا ربَّهُ نوحٌ وأيَّوبُ

أن ينزعَ الدَّاءَ من قلبي ويجعلهُ … في قلبِ سُلمى وحملُ الدَّاءِ تعطيبُ

لِيُبرئَ اللهُ قلباً من صبابتهِ … فلا أحنُّ إذا حنَّ المطاريبُ

قلبي بنجدٍ وأجلادي تهاميةٌ … ما بعد هذا منَ التَّعذيبِ تعذيبُ

وقال جران العود ومن النَّاس من يرويه لذي الرمة:

أيا كبدي كادتْ عشيَّةَ غُرَّبٍ … منَ الوجدِ إثرَ الظَّاعنينَ تصدَّعُ

عشيَّةَ ما فيمنْ أقامَ بغُرَّبٍ … مُقامٌ ولا فيمنْ مضى مُتسرَّعُ

عشيَّةَ ما لي حيلةٌ غيرَ أنَّني … بلفظِ الحصى والخطِّ في الدَّارِ مولعُ

أخطُّ وأمحو كلَّ خطٍّ خططْتُهُ … بكفِّيَ والغِربانُ في الدَّارِ وقَّعُ

كأنَّ سناناً فارسيّاً أصابني … علَى كبدي بلْ لوعةُ الحبِّ أوجعُ

وما يُرجعُ الشَّوقُ الزَّمانَ الَّذي مضى … ولا للفتى في دمنةِ الدَّارِ مَجزعُ

فما كانَ مشؤوماً لنا طائرُ الهوَى … ولا ذلَّ للبينِ الفؤادُ المروَّعُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لطفيل الغنوي:

وما أنا بالمُستنكرِ البينِ إنَّني … بذي لطَفِ الجيرانِ قِدْماً مُفجَّعُ

جديرٌ بهِ من كلِّ حيٍّ لقيتهُمْ … إذا أنسٌ عزُّوا عليَّ تصدَّعوا

وقال آخر:

أمَّا الرَّحيلُ فحينَ جدَّ ترحَّلتْ … مهجُ النُّفوسِ لهُ عنِ الأجسادِ

من لم يمُتْ والبينُ يصدعُ شملَهُ … لم يدْرِ كيفَ تفتُّتُ الأكبادِ

وقال إسحاق الموصلي:

إقْرَ السَّلامَ علَى الذَّلفاءِ إذْ شحطَتْ … وقُلْ لها قد أذقْتِ القلبَ ما خافا

فما وجدْتُ إلى إلفٍ فُجعتُ بهِ … وجدي عليكِ وقد فارقتُ أُلاَّفا

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

خليليَّ إنِّي لم أجدْ بردَ مشربٍ … ولا طعمَ نومٍ مُذْ نأتْ أمُّ حاجبِ

وما زالَ مذْ لم يلقها القلبُ صادياً … وإن كانَ يُسقى من لذيذِ المشاربِ

وقال آخر:

أحجَّاجَ بيتِ اللهِ في أيِّ هودجٍ … وفي أيِّ خِدرٍ من خدوركمُ قلبي

أأبقى أسيرَ الحبِّ في أرضِ غُربةٍ … وحاديكمُ يحدو بقلبي معَ الرَّكبِ

وقال الحسين الخليع:

بنفسي حبيبٌ أَمَّ مكَّةَ مُكرهاً … يُعالجُ مستوراً منَ الحزنِ والألمْ

كلانا وحيدٌ لا يُسرُّ بمؤْنسٍ … منَ النَّاسِ حتَّى تنقضي الأشهرُ الحرمْ

أحنُّ إلى شهرِ المحرَّمِ ليتهُ … غَداةَ غدٍ قد كانَ أوْ بانَ فانصرمْ

أُلامُ علَى شُغلي بمن أنا شغلهُ … إذا طافَ أوْ أصغى إلى الرُّكنِ فاستلمْ

سترْنا بظهرِ الغيبِ ما كانَ بيننا … ونحفظُ عهدينا علَى رغمِ منْ رغمْ

وقال ذو الرمة:

أراحَ فريقُ جيرتِكَ الجِمالا … كأنَّهمُ يريدونَ انتقالا

فكدْتُ أموتُ من حزنٍ عليهمْ … ولمْ أرَ صاحبَ الأظعانِ آلا

وميَّةُ في الظَّعائنِ وهيَ شكَّتْ … سوادَ القلبِ فاقتُتِلَ اقتتالا

ولمْ أرَ مثلَها نظراً وعيناً … ولا أُمَّ الغزالِ ولا الغزالا

هيَ السُّقمُ الَّذي لا بُرءَ منهُ … وبُرءُ السُّقمُ لو بذلتْ نوالا

وقال معقل بن عيسى أخو أبي الدلف:

لَعمري لئنْ قرَّتْ بقُربكَ أعينٌ … لقد سخنَتْ بالقربِ منكَ عيونُ

فسرْ أوْ أقمْ وقْفٌ عليكَ مودَّتي … مكانُكَ منْ قلبي عليكَ مصونُ

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

راحوا ورحنا علَى آثارهمِ أُصُلاً … مُحمِّلينَ منَ الأثقالِ أوقارا

كأنَّ أنفُسنا لم ترتحلْ معنا … أوْ سرنَ في أوَّلِ الحيِّ الَّذي سارا

وقال آخر:

عجِلَ الفِراقُ بما كرهْتُ وطالما … كانَ الفِراقُ بما كرهْتُ عجولا

وأرى الَّتي هامَ الفؤادُ بذكرِها … أصبحْتُ منها فارغاً مشغولا

وقال آخر:

بنفسيَ مَنْ أُمسي وأُضحي لنأيهِ … وشوقي إليهِ في عناءٍ وفي كرْبِ

فإنْ يرتحلْ جسمي معَ الرَّكْبِ مُكرهاً … يُقمْ عندها قلبي وأمضي بلا قلبِ

ولبعض أهل هذا العصر:

وكنتُ أرى أن قدْ تناهى بيَ الهوَى … إلى غايةٍ ما بعدها ليَ مذهَبُ

فلمَّا تفرَّقنا تذكَّرْتُ ما مضى … فأيقنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ

فقدْ والَّذي لو شاءَ لم يخلُقِ النَّوى … عُرضْتُ فما أدري إلى أينَ أذهبُ

وقال آخر:

وأخلَتْ فشطَّتْ عن مُقامي وخانني … وما … مِنْ ضنى الموتِ لا تُخلي

لقدْ غادرتْني لا صحيحاً لصحَّتي … ولا راجياً بِراً ولا مُدركاً تبْلي

وقال آخر:

أغارَ علينا الدهرُ حتَّى كأنَّما … يُطالبنا الدَّهرُ المغيرُ بأوتارِ

بتشتيتِ أُلاَّفٍ وتغريبِ منزلٍ … وتفريقِ إخوانٍ وتقليبِ أوطارِ

وقدْ علمَ الدَّهرُ الخؤونُ بأنَّني … أصولُ عليهِ صوْلةَ الأسدِ الضَّاري

وقال علي بن محمد العلوي الكوفي:

ولقدْ نظرْتُ إلى الفراقِ ولم أجد … للموتِ لو فُقدَ الفراقُ سبيلا

يا ساعةَ البينِ انبري فكأنَّما … واصلتِ ساعاتِ القيامةِ طولا

وقال الطائي:

يومَ الفراقِ لقدْ خُلقتَ طويلا … لم تُبقِ لي صبراً ولا معقولا

لو حارَ من قادَ المنيَّةَ لمْ يُردْ … إلاَّ الفراقَ علَى النُّفوسِ دليلا

قالوا الرَّحيلُ فما شككْتُ بأنَّها … نفسي عنِ الدُّنيا تريدُ رحيلا

الصَّبرُ أجملُ غيرَ أنَّ تلذُّذاً … في الحبِّ أحرى أن يكونَ جميلا

أتظنُّني أجدُ السَّبيلَ إلى العزا … وجدَ الحِمامُ إذاً إليَّ سبيلا

ردُّ الجموحِ الصَّعبِ أسهلُ مطلباً … من ردِّ دمعٍ قدْ أرادَ مسيلا

وقال أبو تمام:

نوًى كانقضاضِ النَّجمِ كانتْ نتيجةً … منَ الهزلِ يوماً إنَّ هزْلَ الهوَى جِدُّ

فلا تحسِبا هنداً لها الغدرُ وحدها … سجيَّةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هنْدُ

وكمْ تحتَ أوراقِ الصَّبابةِ من فتًى … منَ القومِ حُرٍّ دمعهُ للهوى عبدُ

محمَّدُ يا ابن الهيثمِ انقلبَتْ بنا … نوًى خطأٌ في عقبها لوعةٌ عمْدُ

وحقدٌ منَ الأيَّامِ وهيَ قديرةٌ … وشرُّ السَّجايا قُدرةٌ حازها حقدُ

وقال علي بن محمد العلوي:

أتْبعتهُمْ نفساً تَدْمى مسالكهُ … كأنَّهُ من حِمى الأحشاءِ مقدودُ

ما زلتُ أعرفُ أيَّامي وأُنكرُها … حتَّى انبرتْ وهيَ لا بيضٌ ولا سودُ

خاضتْ بيَ الشَّكَّ حتَّى قالَ قائلُها … لا القربُ قرْبٌ ولا التَّبعيدُ تبعيدُ

وقال آخر:

لَعمري لئنْ شطَّتْ بعُتمةَ دارُها … لقد كنتُ من وشكِ الفراقِ أُليحُ

أروحُ بهمٍّ ثمَّ أغدو بمثلهِ … وتحسبُ أنِّي في الثِّيابِ صحيحُ

وقال آخر:

سنحَ الهوَى فكتمْتُ نفسي حاجةً … بلغَ التَّجلُّدَ ذو العزاءِ الصَّابرِ

نهوى الخليطَ وإنْ أقمْنا بعدهُ … إنَّ المقيمَ مكلَّفٌ بالسَّائرِ

وقال آخر:

وفي الجيرةِ الغادينَ من بطنِ وجْرةٍ … غزالٌ أحمُّ المُقْلتينِ ربيبُ

فلا تحسبي أنَّ الغريبَ الَّذي نأى … ولكنَّ مَنْ تنأيْنَ عنهُ غريبُ

وقال آخر:

تركْتِ بقلبي من فراقكِ لوعةً … ستُتْلفُ ما أبقى وداعُكِ من نفسي

أروحُ وأغدو مُستكيناً كأنَّني … أُراقبُ حتفي حينَ أُصبحُ أوْ أُمسي

من شأن من غاب عن خليله أن تناله حيرةٌ في جميع أموره يصحو عنها ويرجع إليه تمييزه فمن كان المتناول له من تلك الحيرة والآخذ بعنانه من تلك الغمرة داعٍ من غلبات الاشتياق وناهٍ عن المقام في قبضة الفراق لم يتمالك عن أحبابه وقتاً من الأوقات ولم يتشاغل عنهم بضربٍ من اللذَّات ومن كان الآخذ بيده من تلك الغمرات والمتخلِّص بخواطره من تلك السَّكرات ضرباً من الاشتغال بغير تلك الحال سلا على مرِّ الأيَّام والليالي وما دام في تلك الحيرة فهو متشاغل بتذكُّر من فارقه والشَّوق والحنين إلى من خلَّفه ألم تسمع الَّذي يقول:

وإنَّ امرءاً في بلدةٍ نصفُ قلبهِ … ونصفٌ بأُخرى غيرِها لصبورُ

وددْتُ من الشَّوقِ المُبرِّحِ أنَّني … أُعارُ جناحَيْ طائرٍ فأطيرُ

فما من نعيمِ العيشِ بعدكِ لذَّةٌ … ولا لسرورٍ لستِ فيهِ سرورُ

والَّذي يقول:

بأكنافِ الحجازِ هوًى دفينُ … يؤرِّقُني إذا هدَتِ العيونُ

أحنُّ إلى الحجازِ وساكنيهِ … حنينَ الإلفِ فارقهُ القرينُ

وأبكي حينَ ترقدُ كلُّ عينٍ … بكاءً بينَ زفرتهِ أنينُ

وقال آخر:

ذكرتُكِ ذكرى هائمٍ بكِ تنتهي … إليكِ أمانيهِ وإنْ لم يكنْ وصلُ

وليسَتْ بذكرى ساعةٍ بعدَ ساعةٍ … ولكنَّها موصولةٌ ما لها فصلُ

وقال أبو عطاء السندي:

ذكرتُكِ والخطِيُّ يخطرُ بيننا … وقدْ نهكَتْ منَّا المُثقَّفةُ السُّمْرُ

فوالله ما أدري وإنِّي لصادقٌ … أداءٌ عناني منْ ودادكِ أمْ سحْرُ

فإنْ يكُ سحراً فاعذُريني علَى الهوَى … وإنْ يكُ داءً غيرَهُ فلكِ العُذرُ

وقال آخر:

ألا يا لقومي للصَّبابةِ والذِّكرِ … وللقدَرِ السَّاري إليكَ ولا تدري

وللشَّيءِ تنساهُ وتذكرُ غيرَهُ … وللشَّيءِ لا تنساهُ إلاَّ علَى ذكرِ

وقال آخر:

دعاكِ ضمانُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ … ولله أنْ يشفينَ أغنى وأوسعُ

يُذكِّرُنيكِ الخيرُ والشَّرُّ والَّذي … أخافُ وأرجو والَّذي أتوقَّعُ

وقال مسلم بن الوليد:

يذكِّرُنيكَ البُخْلُ والجودُ والعلى … وقيلُ الخنا والحلمُ والعلمُ والجهلُ

فألقاكَ عن مكروهِها مُتنزِّهاً … وألقاكَ في محمودها ولكَ الفضلُ

وقال آخر:

ذكرْتُ بهِ منْ لنْ أُبالي بذكرهِ … تفرُّقَ شعبٍ في النَّوى مُتزايلِ

وإنَّ امرءاً بالشَّامِ أكثرُ أهلهِ … وبُطنانَ ليسَ الشَّوقُ عنهُ بغافلِ

وقال آخر:

وذكرْتُ هنداً والمطايا تعتلي … بالقومِ قد قطعوا العقيقَ وأنجدوا

بعُدَ الطَّريقُ فباتَ يقسمُ أمرهُ … أيجودُ بالعبراتِ أمْ يتجلَّدُ

ولقدْ حُبستُ علَى البِعادِ فزادني … طولُ البِعادِ حرارةً لا تبردُ

وقال معاذ ليلَى:

ذكرتُكِ حيثُ استأمنَ الوحشُ والتقتْ … رفاقٌ منَ الآفاقِ شتَّى شعوبُها

وعندَ الحطيمِ قدْ ذكرتُكِ ذكرةً … أرى أنَّ نفسي سوفَ يأتيكِ حوبُها

دعا المحرمونَ اللهَ يستغفرونهُ … بمكَّةَ يوماً أنْ تُمحَّى ذنوبُها

فناديْتُ أنْ يا ربِّ أوَّلُ سِئلتي … لنفسيَ ليلَى ثمَّ أنتَ حسيبُها

فإنْ أُعْطَ ليلَى في حياتيَ لا يتُبْ … إلى اللهِ عبدٌ توبةً لا أتوبُها

وقال آخر:

لقدْ زادني الحُجَّاجُ شوقاً إليكمُ … وما كنتُ قبلَ اليومِ للحجِّ قاليا

وما نظرتْ عيني إلى شخصِ قادمٍ … من الحجِّ إلاَّ بلَّ دمعي ردائيا

وقال آخر:

فما وجدَتْ كوجدي أمُّ سقْبٍ … أضاعتْهُ فرجَّعتِ الحنينا

ولا شمطاءُ لمْ تترُكْ شفاها … لها من تسعةٍ إلاَّ حُنينا

وقال بعض الأعراب:

وما وجدُ أعرابيَّةٍ قذفَتْ بها … نوى غُربةٍ من حيثُ لم تكُ طُلَّتِ

تمنَّتْ أحاليبَ الرَّعاءِ وخيمةً … بنجدٍ فلمْ يُقدرْ لها ما تمنَّتِ

إذا ذكرَتْ ماءَ العضاهِ وطيبهُ … وبردَ الحصى من نحوِ نجدٍ أرنَّتِ

بأعظمَ من وجدٍ بريَّا وجدْتهُ … غداةَ غدوْنا غُربةً واطمأنَّتِ

فإنْ يكُ هذا آخرَ العهْدِ منهمُ … فهذا الَّذي كُنَّا ظننَّا وظنَّتِ

وقال الحسين الخليع:

يا مَنْ شغلْتُ بهجرهِ ووصالهِ … هِممَ المُنى ونسيتُ يومَ معادي

والله ما التقتِ الجفونُ بطرفةٍ … إلاَّ وذِكرُكَ خاطرٌ بفؤادي

وقال ذو الرمة:

إذا خطرَتْ من ذكرِ ميَّةَ خطرةٌ … علَى القلبِ كادَتْ في فؤادِكَ تجرحُ

علَى حينِ راهقْتُ الثَّلاثينَ وارعوَتْ … لِداتي وكادَ الحلمُ بالجهلِ يرجحُ

ذكرتُكِ أنْ مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ … أمامَ المطايا تشرئبُّ وتسنحُ

رأتنا كأنَّا عامدونَ لقصدِها … بهِ فهيَ تدنو تارةً وتزَحْزحُ

هيَ الشِّبهُ أعطافاً وجيداً ومُقلةً … وميَّةُ أبهى بعدُ منها وأملحُ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

هلِ الشَّوقُ إلاَّ مثلُ ما أتكلَّفُ … أبينُ وعيني ما تَني الدَّهرَ تذرفُ

تذكَّرْتُ بيتاً من نُعيْمةَ والنَّوى … قريبٌ وقد كانَ الَّذي أتخوَّفُ

فقدْ ظنَّ هذا القلبُ أنْ ليسَ ناظراً … إلى وجهها ما كذَّبَ الله خندفُ

فيا قلبُ صبراً واعترافاً بما قضى … لكَ الله إنَّ الحرَّ بالصَّبرِ يُعرفُ

تجلَّدْ وأجملْ واصطبرْ وازجُرْ الأسى … لعلَّ النَّوى يوماً بنعمةَ تُسعفُ

عسى دارُها أنْ ترعَوي بعدَ بُعدها … عليكَ وتلقاها كما كنتَ تعزفُ

وقال آخر:

هلِ الشَّوقُ إلاَّ أنْ يحنَّ غريبُ … وأنْ يستطيلَ العهدُ وهوَ قريبُ

لياليَ يدعوني الصِّبى فأُجيبهُ … وللشَّوقِ داعٍ مُسمعٌ ومُجيبُ

وقائلةٍ ما بالُ لونكَ شاحباً … وأهونُ ما بي أنْ يكونَ شحوبُ

فقلتُ لها في الصَّدْرِ منِّي بلابلُ … تقطَّعُ أنفاسي لها وتذوبُ

وقال بعض الأعراب:

ولو أنَّ ما ألقى وما بي منَ الهوَى … بأرعنَ رُكناهُ صفاً وحديدُ

تفطَّرَ من وجدٍ وذابَ حديدهُ … وأمسى تراهُ العينُ وهوَ عميدُ

ثلاثونَ يوماً كلَّ يومٍ وليلةٍ … أموتُ وأحيا إنَّ ذا لشديدُ

وقال آخر:

أصابني بعدكِ ضُرُّ الهوَى … ومسَّني كربٌ وإقلاقُ

ويعلمُ اللهُ بحسْبي بهِ … أنِّي إلى وجهكِ مُشتاقُ

وقال آخر:

أحنُّ إلى ليلَى وقد شطَّتِ النَّوى … بليلى كما حنَّ اليراعُ المُثقَّبُ

يقولونَ ليلَى عذَّبتْكَ بحبِّها … ألا حبَّذا ذاكَ الحبيبُ المعذِّبُ

وقال آخر:

أحنُّ إلى أرضِ الحجازِ وحاجتي … خيامٌ بنجدٍ دونها الطَّرفُ يقصرُ

وما نظري من نحوِ نجدٍ بنافعي … أجلْ لا ولكنِّي علَى ذاكَ أنظرُ

أفي كلِّ يومٍ نظرةٌ ثمَّ عَبرةٌ … بعينيكَ يجري ماءها يتحدَّرُ

متى يستريحُ القلبُ إمَّا مُجاورٌ … حزينٌ وإمَّا نازحٌ يتذكَّرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

كفى حَزناً ألا أُعاينَ بُقعةً … من الأرضِ إلاَّ زدْتُ شوقاً إليكمُ

وإنِّي متى ما طابَ لي خفضُ عيشةٍ … تذكَّرتُ أيَّاماً مضتْ لي لديكمُ

فنغَّصَ تَذكاري لها طيبَ عيشَتي … فقلتُ سيفْنَى ذا فيأسى عليكمُ

وقال آخر:

لئنْ درسَتْ أسبابُ ما كانَ بيننا … منَ الوصلِ ما شوقي إليكِ بدارسِ

ولا أنا منْ أنْ يجمعَ اللهُ بيننا … علَى جُمْلِ ما كنَّا عليهِ بيائسِ

وقال آخر:

خليليَّ لا تستسلما وادعوا الَّذي … لهُ كلُّ أمرٍ أنْ يصوبَ ربيعُ

حياً لبلادٍ طيَّرَ المحْلُ أهلها … وجبراً لعظْمٍ في شظَناهُ صدوعُ

عسى أنْ يحلَّ الحيُّ جرعاءَ وابلٍ … وعلَّ النَّوى بالظَّاعنينَ تريعُ

أفي كلِّ عامٍ زفرةٌ مُستجدَّةٌ … تضمَّنُها منِّي حشًى وضلوعُ

وقال أبو تمام:

إذا بنْتَ لم أحزَنْ لفقدِ مُفارقٍ … سواكَ ولمْ أفرحْ بقربِ مُقيمِ

فيا ليتني أفديكَ من غُربةِ النَّوى … بكلِّ خليلٍ واصلٍ وحميمِ

وقال آخر:

إذا كنتَ لا يُسليكَ عمَّنْ تحبُّهُ … فراقٌ ولا يشفيكَ طولُ تلاقِ

فهلْ أنتَ إلاَّ مُستعيرٌ حُشاشةً … بمهجةِ نفسٍ آذنتْ بفراقِ

وقال يزيد بن الطثرية:

ولمَّا رأيتُ البِشرَ قد حالَ دونهمْ … ووافَتْ بناتُ الصَّدرِ يهوينَ نُزَّعا

تلفَّتُّ نحوَ الحيِّ حتَّى رأيتُني … وجعْتُ منَ الإصغاءِ ليتاً وأخدعا

وقال ابن الدمينة:

حننْتُ لذكرى منْ أميمةَ وارْعوى … لها من قديماتِ الهوَى كلُّ سالفِ

حنيناً ولوعاتٍ يفضنَ لها سوى … بوادرِ غرباتِ الدُّموعِ الذَّوارفِ

وقال بعض الأعراب:

فلا تُشرفنْ رأسَ اليفاعِ فإنَّني … لدى الشَّوقِ من رأسِ اليفاعِ قديرُ

إذا شرفَ المحزونُ بشراً رأيتهُ … يُسكِّنُ أحشاءً تكادُ تطيرُ

وقال الحسين بن مطير:

إذا ارتحلتْ منْ ساحلِ البحرِ رِفقةٌ … مشرِّقةٌ هاجَ الفؤادَ ارتحالُها

فإنْ لا يُصاحبْها يُتبِّعْ بأعينٍ … سريعٍ برقراقِ الدُّموعِ اكتحالُها

وقال أيضاً:

أحنُّ ويثنيني الهوَى نحوَ يثربٍ … ويزدادُ شوقي كلَّ ممسًى وشارقِ

كذاكَ الهوَى يُزري بمنْ كان عاشقاً … ونوْلُ الهوَى يحنو علَى كلِّ عاشقِ

وقال آخر:

فما سرْتُ من ميلٍ ولا بتُّ ليلةً … منَ الدَّهرِ إلاَّ اعتادني لكِ طائفُ

وكمْ من بديل قدْ وجدنا وطوْفةٍ … فتأبى عليَّ النَّفسَ تلكَ الطَّوائفُ

وقال زيادة بن زيد:

تذكَّرَ عنْ شحطٍ أُميمةَ فارْعوى … لها بعدَ إقصارٍ وطولِ نُكوبِ

وإنَّ امرءاً قدْ جرَّبَ الدَّهرَ لم يخفْ … تقلُّبَ عصريهِ لغيرُ لبيبِ

هلِ الدَّهرُ والأيَّامُ إلاَّ كما أرى … رزيَّةُ مالٍ أوْ فراقُ حبيبِ

ولبعض أهل هذا العصر:

إلى اللهِ أشكو عبرةً قد أظلَّتِ … ونفساً إذا ما عزَّها الشَّوقُ ذلَّتِ

تحنُّ إلى أرضِ الحجازِ ودونها … تنائفُ لو تسري بها الرِّيحُ ضلَّتِ

وإنِّي بها لو لا أماني تغرُّها … وقد أرجفتْ هوجُ المطايا وكلَّتِ

أأمنعُ منْ وادي زُبالةَ شربةً … وقدْ نهِلتْ منهُ الكلابُ وعلَّتِ

سقى اللهُ رملَ القاعِ والقاعَ فاللِّوى … فقدْ عطفَتْ نفسي إليهِ وحنَّتِ

وأسقى لِوى جبليْ زرودَ ومُرْبخاً … سحائبُ لا يلقى الظَّما ما أظلَّتِ

هممْتُ فلمْ أربعْ علَى الفكْرِ لحظةً … وقد كانَ حظُّ النَّفسِ أنْ لو تأنَّتِ

وأصبحتُ لهْفاناً علَى ما أضعتهُ … كذاكَ يكونُ الرَّأيُ ما لم يُثبَّتِ

إذا كان صحوُ المفارق لأحبابه من التحنُّن الَّذي ذكرناه بقلبه داعياً له قبل هواه ندم على مقامه بعد مضيّ أحبابه أوْ على اجترائه على السَّفر وأحبَّته مقيمون في الحضر فاستقبح صنيعه وتلافى تصنيعه فإن كان المحبُّ هو المسافر عن حبيبه.

كان كالذي يقول:

بينما هنَّ منْ بلاكثَ فالقا … عِ سِراعاً والعيسُ تهوي هويَّا

خطرَتْ خطرةٌ علَى القلبِ وهناً … من هواها فما استطعتُ مُضيَّاً

قلتُ لبَّيكِ إذْ دعاني لكِ الشَّوْ … قُ وللحاديينِ كُدَّا المطيَّا

وكما قال عبيد الراعي:

دعاني الهوَى من أمِّ وبرٍ ودونها … ثلاثةُ أخماسٍ فديتُكَ داعيا

فعُجنا لذكراها وتشبيهِ صوتِها … قلاصاً بمجهولِ الفلاةِ صواديا

بغبراءَ مِحرافٍ يبيتُ دليلُها … مُشيحاً عليها للفراقدِ راعيا

وإن كانَ المحبوب المسافر والمحبُّ هو المتخلِّف عن إلفه تعسَّف ركوب المهالك في اللَّحاق.

كما قال العرجي:

كم قدْ عصيتُ إليكِ من مُتنصَّحٍ … داني القرابةِ أوْ وعيدِ أعادي

وتنوفةٍ غبراءَ أرمي عرضها … شوقاً إليكِ بلا هدايةِ هادي

وقال:

قُلْ لهادي المطيِّ يرفقْ قليلا … يجعلِ العيسَ سيرهُنَّ ذميلا

لا تقِفْها علَى السَّبيلِ ودعْها … يهْدِها شوقُ من عليها السَّبيلا

وقال:

أمَّا الدِّيارُ فقلَّما لبثوا بها … بعدَ اشتياقِ العيسِ والرُّكبانِ

وضعوا سياطَ الشَّوقِ في أعناقها … حتَّى وردْنَ بهمْ علَى الأوْطانِ

وقال:

ويومٍ كتنُّورِ الطَّواهي سحرْنهُ … وألقينَ فيه الجزلَ حتَّى تضرَّما

قذفْتُ بنفسي في أجيجِ سمومهِ … وبالعيسِ حتَّى بُلَّ مشفرُها دما

أُؤمِّلُ أنْ ألقى منَ النَّاسِ عالماً … بأخباركُمْ أوْ أنْ أُلمَّ مُسلِّما

وأنشدني بعض أعراب البادية:

بانتْ أنيسُ فما بالقلبِ معقولُ … ولا علَى الجيرةِ الغادينَ تعويلُ

حتَّى شددْتُ برحلي قبلَ برذعتي … والقلبُ مُختبلٌ واللُّبُّ متبولُ

ثمَّ اعتورْتُ علَى نِضوي ليُلْحقني … أخرى الحمولِ الغوادي وهوَ معقولُ

وقال الراعي:

بانَ الأحبَّةُ بالعهدِ الَّذي عهدوا … فلا تمالكَ عن أرضٍ لها عمدوا

حتَّى إذا حالتِ الأرجاءُ دونهمُ … أرجاءُ ترمُدَ كلَّ الطَّرفُ أوْ بعدوا

لولا المخاوفُ والأوصابُ قدْ قطعتْ … عرضَ الفلاةِ بنا المهريَّةُ الأُجُدُ

ولئن كان أفرط في الإحسان في البيت الأول لقد أفرط في الإساءة في البيت الآخر ولولا أنَّ قوله فلا تمالك عن أرض لها عمدوا من أحسن الكلام لفظاً وأصحِّه معنًى وأليقه بما قصدناه لأضربنا عن ذكره لقباحة ما عقب به وما المخاوف والأوصاب حتَّى يعتذر بها في التخلُّف عن الأحباب لقد بلغني أنَّ بشر بن مروان كان في معسكرٍ له بظهر البصرة فنادى بكثرة انصراف الجند من العسكر إلى المدينة فنادى مناديه من وجد بالبصرة من الجند سمِّرت كفُّه بمسمارٍ وكان في العسكر فتًى يألف خلَّةً له بالبصرة فكتب إليها.

لولا مخافة بشرٍ أوْ عقوبته وأن يسمِّر في كفِّي بمسمار إذن لعطلت ثغري ثمَّ زرتكم إنَّ المحبَّ إذا ما اشتاق زوَّار.

فكتبت إليه:

ليسَ المحبُّ الَّذي يخشى العقابَ ولوْ … كانت عقوبتهُ في كيَّةِ النَّارِ

إنَّ المحبَّ الَّذي لا عيشَ ينفعهُ … أوْ يستقرَّ ومنْ يهواهُ في الدَّارِ

فلمَّا قرأ الأبيات دخل البصرة فأخذه صاحب الحرس فجاء به إلى بشر بن مروان فقال له بشرٌ ألم تسمع النِّداء قال بلى قال فما حملك على مخالفته قال هذه الأبيات ودفعها إلى بشر فلمَّا قرأها أمر مناديه فنادى من أحبَّ المقام في العسكر فليقم ومن أحبَّ دخول البصرة فليدخل.

وقال آخر:

فلوْ حشدوا بالإنسِ والجنِّ دونها … لأنْ يمنعوني أنْ أجيءَ لجيتُ

ولوْ خُلطَ السُّمُّ الذُّعافُ بريقهِ … لسُقِّيتُ منهُ نهلةً فرويتُ

ولبعض أهل هذا العصر:

سقى اللهُ رملَ القاعِ وبلاً وديمةً … لتحْيَ بهِ تلكَ الرُّسومُ الدَّوارسُ

أشوْقاً إلى نجدٍ ودونَ لقائها … أهاويلُ يُخشى قطعها وبسابسُ

علَى أنَّ عبدَ الشَّوقِ ليستْ تهولهُ … حُزونُ الفيافي واللَّيالي الدَّوامسُ

بما حبلَتْ فلتأتني منْ بلائِها … فليسَ لما يقضي بهِ الله حابسُ

وله أيضاً:

دعانيَ الشَّوقُ والرُّكبانُ قدْ هجدوا … والشَّمسُ في آخرِ الجوزاءِ تتَّقدُ

والقيظُ مُحتدمٌ والرُّوحُ منصرمٌ … والرَّأيُ مختلفٌ والحتفُ مُطَّردُ

والبيدُ مُغبرَّةُ الأرجاءِ مُقفرةٌ … كأنَّ أعلامها في الآلِ ترتعدُ

فظلْتُ طوعاً لداعي الشَّوقِ أُوقظهمْ … وعلَّ أكثرهمْ ساهونَ ما رقدوا

حتَّى إذا قلتُ شدُّوا قالَ بعضهمُ … قد جُنَّ هذا فخلُّوا عنهُ وابتعدوا

يذرونَ ما وجدوا من حرِّ يومهمِ … وقتَ النُّزولِ ولا يدرونَ ما أجدُ

حرُّ الفِراقُ إذا ما الهجرُ ساعدَهُ … حرٌّ تُخصُّ بهِ الأحشاءُ والكبدُ

وقال أبو دهبل:

أأتركُ ليلَى ليسَ بيني وبينها … سوى ليلةٍ إنِّي إذاً لَصبورُ

هَبوني امرءاً منكمْ أضلَّ بعيرَهُ … لهُ ذمَّةٌ إنَّ الذِّمامَ كبيرُ

وللصَّاحبُ المتروكُ أعظمُ ذِمَّةً … علَى صاحبٍ من أن يضلَّ بعيرُ

عفا الله عن ليلَى الغداةَ فإنَّها … إذا وليَتْ حكماً عليَّ تجورُ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

فلوْ أنَّ شرقَ الشَّمسِ بيني وبينها … وأهلي وراءَ الغربِ حيثُ تغيبُ

لَداورْتُ قطعَ الأرضِ بيني وبينها … وقال الهوَى لي إنَّهُ لقريبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يا منْ تجاوزَ حدَّ السَّمعِ والبصرِ … ومنْ يفوقُ ضياءَ الشَّمسِ والقمرِ

لو كنتَ تعلمُ ما ألقى من السَّهرِ … وما أُقاسي منَ الأشجانِ والفكرِ

وما تضمَّنَ قلبي من هواكَ إذاً … لما رثيْتَ لجسمي منْ أذى المطرِ

أنَّى يضرُّ ندى الأمطارِ ذا كبدٍ … حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُستعرِ

لو كانَ دونكَ بحرُ الصِّينِ مُعترضاً … لخلْتُ ذاكَ سراباً دارسَ الأثرِ

ولو أذنتَ وفيما بيننا سقرٌ … لهوَّنَ الشَّوقُ خوضَ النَّارِ في سقرِ

لا تكذبنَّ فما حالٌ تضمَّنها … قلبُ المشوقِ توازي حالَ مُنتظرِ

وقال بعض الأسديين:

فإنْ تدعي نجداً ندعْهُ ومنْ بهِ … وإنْ تسكُني نجداً فيا حبَّذا نجدُ

وإنْ كانَ يومُ الوعدِ يومَ لقائنا … فلا تعذلاني أن أقولَ متى الوعدُ

وقال نوال:

وإن ترتبعْ ريَّا بغورِ تهامةٍ … نُقِمْ عندها أوْ تترُكِ البرَّ نُنجدِ

وإنْ حاربَتْ ريَّا نُحاربْ وإنْ تدِنْ … ندنْ دينها لا عيْبَ للمتودِّدِ

وقال امرؤ القيس بن حجر:

وأصبحتُ ودَّعْتُ الصِّبى غيرَ أنَّني … أُراقبُ خلاتٍ من العيشِ أربعا

فمنهنَّ نصُّ العيسِ واللَّيلُ دامسٌ … يُيمِّمنَ مجهولاً من الأرضِ بَلْقعا

خوارجَ من برِّيَّةٍ نحوَ قريةٍ … يُجدِّدْنَ وصلاً أوْ يُقرِّبنَ مطْمَعا

وقال ذو الرمة:

تذكَّرتُ ميّاً بعدَ ما حالَ دونها … سهوبٌ ترامى بالمراسيلِ بيدُها

إذا لامعاتُ البيدِ أعرضنَ دونها … تقاربَ لي من حبِّ ميٍّ بعيدُها

وقال ضابي بن الحارث بن أرطاة البرجمي:

وكمْ دونَ سُلمى من فلاةٍ كأنَّما … تجلَّلَ أعلاها مُلاءً مُفصَّلا

مُحقَّفةٍ لا يهتدي لسبيلها … منَ القومِ إلاَّ منْ مضى وتوكَّلا

يُهالُ بها ركبُ الفلاةِ منَ الرَّدى … ومن خوفِ حاديهمْ وما قدْ تحمَّلا

قطعتُ إلى معروفها مُنكراتها … إذا الآلُ بالبيدِ البسابسِ هرْولا

وقال جميل بن معمر:

ألا أيُّها العشَّاقُ ويحَكمُ هُبُّوا … أُسائلكمُ هلْ يقتلُ الرَّجلَ الحبُّ

ألا ربَّ ركبٍ قد رفعتُ وجيفهُمْ … إليكِ ولولا أنتِ لم يوجفِ الرَّكبُ

لها النَّظرةُ الأولى عليهمْ وبسطةٌ … وإنْ كرَّتِ الأبصارُ كانَ لها العقْبُ

وقال جرير:

لشتَّانَ يومٌ بينَ سَجفٍ وكلَّةٍ … ومرُّ المطايا تغتدي وتروَّحُ

نقيسُ بقيَّاتِ النِّطَّافِ علَى الحصى … وهنَّ علَى طيِّ الحيازيمِ جُنَّحُ

ويومٍ من الجوزاءِ مُستوْقدِ الحصى … تكادُ صياصي العينِ فيهِ تصيَّحُ

شديدِ اللَّظى حامي الوديقةِ ريحهُ … أشدُّ لظًى من شمسهِ حينَ يصْمحُ

نصبْتُ له وجهي وحرفاً كأنَّها … منَ الجهدِ والإسآدِ قرمٌ مُلوَّحُ

وقال علي بن محمد العلوي:

هذا وحرفٍ إذا ماتتْ مفاصلهُ … عن راكبٍ وصلَتْ أكفالَهُ بيدُ

يهماءُ لا يتخطَّاها الدَّليلُ سُرًى … إلاَّ وناظرهُ بالنَّجمِ معقودُ

جاوزتُها والرَّدى رحبٌ معالمهُ … فيها ومسلكُها بالخوفِ مسدودُ

ولبعض أهل هذا العصر:

كمْ دونَ أرضكَ من وادٍ ومن علَمٍ … كأنَّ أعلاهُ بالأفلاكِ مُنتسجُ

ومنْ مروجٍ كظهرِ التُّرسِ مُظلمةٍ … كأنَّ حصبائَها تحتَ الدُّجى سُبُجُ

حتَّى إذا الشَّمسُ لاحتْ في سَباسبها … حسبْتَ أعلامها في الآلِ تختلجُ

وكمْ فلاةٍ يفوتُ الطَّرفَ آخرها … للجنِّ باللَّيلِ في أقطارها وهجُ

يهماءُ غبراءُ لا يدري الدَّليلُ بها … في أيِّ أرجائها يُرجى لهُ الفرجُ

قطعتُها بابنِ حرفٍ ضامرٍ قطمٍ … صلبِ المناسمِ في إرْقالهِ هوَجُ

شوقاً إليكَ ولولا ما أُكابدهُ … لكانَ لي في بلادِ اللهِ مُنفرَجُ

فإن تجدْ لي فَمحقوقٌ بذاكَ وإنْ … تبخلْ عليَّ فلا لومٌ ولا حرجُ

قوله فمحقوقٌ بذاك يعني أنت محقوقٌ بالفضل ليس تجشُّمي ما وصفته لك أوجب ذلك لي عليك بذلك على أنَّه أراد بذلك قوله وإن تبخل عليَّ فلا لومٌ ولا حرج لأنه لو كان حقّاً له كان ظالمه حرجاً فعلى هذا التَّفسير يصير معنى الكلام صحيحاً ولو قصد ذلك المعنى الآخر كان خطأً قبيحاً.

وقال آخر:

أقولُ لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ … وجدَّ مسيرُنا ودَنا الطُّروقُ

أرى قلبي سينقطعُ اشتياقاً … وأحزاناً وما انقطعَ الطَّريقُ

وقال آخر:

لمَّا وردْتُ التَّغلبِ … يَّةَ عندَ مُنصرفِ الرِّفاقِ

وشممْتُ من أرضِ الحجا … زِ نسيمَ أرواحِ العراقِ

أيقنتُ لي ولمنْ أُح … بُّ بجمعِ شملٍ واتِّفاقِ

وقال القعقاع الذهلي:

خليليَّ ما منْ ليلةٍ تسريانها … منَ الدَّهرِ إلاَّ نفَّستْ عنكُما كربا

أليسَ يزيدُ السَّيرُ عن كلِّ ليلةٍ … ويزدادُ يومٌ من أحبَّتنا قُرْبا

إذا الجبلُ النَّائي حواكِ مقيلهُ … جعلنا علينا أنْ نُجاورَهُ نحبا

فما ذكرَتْ عندي لها من سميَّةٍ … فتملكَ عيني من مدامعها غربا

من شأن من قصد لقاء أحبابه أن تتطاول عليه الطَّريق عند اقترابه ويلحقه حينئذٍ من الضَّجر مع قربه منه أضعاف ما ناله إذْ كان متباعداً عنه.

وفي ذلك يقول الموصلي:

طربْتَ إلى الأُصَيْبِيةِ الصِّغارِ … وهاجكَ منهمُ قربُ المزارِ

وأبرحُ ما يكونُ الشَّوقُ يوماً … إذا دنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ

فهذا لعمري قولٌ حقٌّ غير أنَّه لم يُخبر بعلَّته.

ولقد أحسن الَّذي يقول في نحوه:

هلِ الحبُّ إلاَّ زفرةٌ بعدَ عبرةٍ … وحرٌّ علَى الأحشاءِ ليسَ لهُ برْدُ

وفيضُ دموعِ العينِ يا ميُّ كلَّما … بدا علمٌ منْ أرضكُمْ لم يكنْ يبدو

وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة هذا المعنى فجوّده أنشدني له أبو العباس أحمد بن يحيى:

خليليَّ ما بالُ المطايا كأنَّما … نراها علَى الأدبارِ بالقومِ تنكِصُ

وقدْ أتعبَ الحادي سُراهنَّ وانثنى … بهنَّ فما بالرَّاجعاتِ مُقلِّصُ

وقدْ قُطعتْ أعناقهُنَّ صبابةً … فأنفسُها ممَّا يُلاقينَ شُخَّصُ

يزدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شوقُنا … إذا ازدادَ طولُ العهدِ والبعدُ ينقصُ

أفلا ترى إلى إيضاحه أنَّ العلّة في تزايد شوقه إنَّما هي تطاول مدَّةٍ وأنَّه كلَّما قطع جزءٌ من الطريق فقرب المقصود زاد في مدَّة المفارقة وقتٌ فزاد الاشتياق على حسب تزايد مدَّة الفراق على أنَّ عمر قد أوضح أشياء وأغفل شيئاً من أنَّ تطاول المدَّة يزيد في الشَّوق مع تقارب الشُّقَّة ولم يذكر أنَّ قوَّة الرَّجاء لسرعة اللِّقاء من أقوى الأسباب في تقوية الشَّوق عند الاقتراب.

حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن يحيى النَّحويُّ قال حدَّثنا أبو سعيد قال حدَّثنا الهرويُّ قال حدثنا موسى بن جعفرٍ بن كثيِّرٍ قال كان المجنون لما أصابه ما أصابه يخرج فإذا أتى الشَّام قال لهم أين أرض بني عامر فقالوا له وأين أنت من أرض بني عامرٍ وقف عند جبلٍ يقال له التَّوباد ثمَّ أنشد:

وأجهشْتُ للتَّوبادِ لمَّا رأيتهُ … وهلَّلَ للرَّحمانِ حينَ رآني

وأذريْتُ دمعَ العينِ لمَّا رأيتهُ … ونادى بأعلى صوتهِ فدعاني

وقلتُ له أينَ الَّذينَ عهدتهمْ … حوالَيْكَ في عيشٍ وخير زمانِ

فقالَ مضوْا واستودعوني بلادهُمْ … ومنْ ذا الَّذي يبقى علَى الحدثانِ

وإنِّي لأبكي اليومَ من حذري غداً … فراقَكَ والحيَّانِ مُؤْتلفانِ

سجالاً وتهْتاناً ووبْلاً وديمةً … وسحّاً وتسجاماً وينهملانِ

قال ثمَّ يمضي حتَّى يأتي العراق فيقول مثل ذلك ثمَّ يأتي اليمن فيقول مثل ذلك.

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

ذاكَ وادي الأراكِ فاحبسْ قليلاً … مُقصراً منْ صبابةٍ أوْ مُطيلا

قِفْ مشوقاً أوْ مُسعداً أوْ حزيناً … أوْ مُعيناً أوْ عاذراً أوْ عذولا

إنَّ بينَ الكثيبِ فالجزعِ فالآ … رامِ رَبْعاً لآلِ هندٍ محيلا

أبلَتِ الرِّيحُ والرَّوائحُ والأ … يَّامُ منهُ معالماً وطُلولا

وخلافُ الجميلِ قولُكَ للذا … كرِ عهدَ الأحبابِ صبراً جميلا

لا تلُمْهُ علَى مواصلةِ الدَّمْ … عِ ولؤمٌ لومُ الخليلِ الخليلا

لم يكنْ يومُنا طويلاً بنعما … نٍ ولكن كانَ البُكاءُ طويلا

وقال يحيى بن منصور:

أما يستفيقُ القلبُ إلاَّ انبرى لهُ … توهُّمُ دارٍ من سعادٍ ومربَعِ

أُخادعُ عنْ عِرفانها العينَ إنَّها … متى تُثبتِ الأطلالَ عينيَ تدمعِ

عهدْنا بها وحشاً عليها براقعٌ … وهذي وحوشٌ حُسَّرٌ لم تُبرقعِ

وقال ذو الرمة:

أإنْ ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً … ماءُ الصَّبابةِ من عينيكَ مسجومُ

منازلُ الحيِّ إذْ لا الدَّارُ نازحةٌ … بالأصفياءِ وإذْ لا العيشُ مذمومُ

تعتادني زفراتٌ حينَ أذكرُها … تكادُ تنقدُّ منهُنَّ الحيازيمُ

وقال أيضاً:

كأنَّ ديارَ الحيِّ بالزُّرقِ حلقةٌ … منَ الأرضِ أوْ مكتوبةٌ بمِدادِ

إذا قلتُ تعفو لاحَ منها مُهيِّجٌ … عليَّ الهوَى من طارفٍ وتِلادِ

وما أنا في دارٍ لميٍّ عرفتُها … بجلدٍ ولا عيني بها بجمادِ

إذا قلتُ بعدَ الجهدِ يا ميُّ نلتقي … عدتْني بكرْهٍ أن أراكِ عوادي

ودويَّةٍ مثلُ السَّماءِ اعتسفتُها … وقد صبغَ اللَّيلُ الحصى بسوادِ

أمَّا تشبيهه رسوم الدَّار بالحلقة من الأرض فهذا إحسانٌ في معناه وإعرابٌ في لفظه وما أساء في تشبيهها بالكتابة بالمداد غير أنَّ هذا مسبوقٌ إليه فالمعيد لذكره غير ملومٍ فيه ولا محمودٍ عليه وأما إخباره بأنَّها تهيج هواه وادكاره فهو أيضاً معنًى غير مبتدعٍ إلاَّ أنَّه يدلُّ على ضعفٍ في الحال ونقصٍ في الجزع ويشهد بما قلناه اعتذاره إلى من يهواه ومن تركه القصد إلى لقائه بأنه إذا عزم على ذلك عداه عنه مكروهٌ من أشغاله وكلُّ هذه الأوصاف تدلُّ على قصور حاله.

ولقد قال البحتري في أكثر هذه الأحوال فأحسن فيما قال فمن ذلك قوله:

دَمنٌ كمثلِ طرائقِ الوشْيِ انجلَتْ … لمَعاتهُنَّ منَ الرِّداءِ المُنهَجِ

يضْعُفنَ عنْ إذكارنا عهدَ الصِّبى … أوْ أنْ يهجْنَ صبابةً لم تهتجِ

ولرُبَّ دهرٍ قد تبسَّمَ ضاحكاً … عن طرَّتَيْ زمنٍ بهنَّ مُدبَّجِ

منْ قبلِ داعيةُ الفراقِ ورحلةٌ … منعَتْ مُغازلةَ الغزالِ الأدْعجِ

لأُكلِّفنَّ العيسَ أبعدَ غايةٍ … يجري إليها خائفٌ أوْ مُرتجِ

وله أيضاً:

لا تقفْ بي علَى الدِّيارِ فإنِّي … لستُ من أربُعٍ ورسمٍ مُحيلِ

في بكاءٍ علَى الأحبَّةِ شغلٌ … لأخي الحبِّ عنْ بُكاءِ الطُّلولِ

علَى أنَّه قد نقض أيضاً علَى نفسه هذا المعنى الَّذي استحسناه بقوله:

أينَ أهلُ القبابِ بالأجرعِ الفَرْ … دِ تولُّوا لا أينَ أهلُ القِبابِ

سقمٌ دونَ أعينٍ ذاتِ سُقمٍ … وعذابٌ دونَ الثَّنايا العِذابِ

وكمثلِ الأحبابِ لو يعلمُ العا … ذلُ عندي منازلُ الأحبابِ

فهو يوهمُنا في الأبيات الأول أنَّ الصَّبابة قد ملكت هممه وأفكاره وتناولت خواطره وادِّكاره حتَّى لم تدع فيه فضلاً لعارضٍ يهيجه ولا لمنزلٍ يذكّره وأنَّ شغله بالتَّفرُّد بالبكاء على إلفه يمنعه من التَّشاغل بالوقوف على منزله وهو في هذه الأبيات لا يرضى أن يجعل البكاء على الدَّار لضروبٍ من ضروب الادِّكار برغم أنَّ موقعها في فؤاده كموقع من كان فيها من أحبابه وهذا أفرط في التَّفاوت والمناقضات غير أنَّ من تكلَّم على قدر الأوقات وجرى مع أحكام الهوَى على حسب الغايات غدر بل تحيَّل في قوله فضلاً عن أن يخالف مذهباً إلى غيره.

ولقد أنصف الَّذي يقول:

لَعمركَ ما أبكي علَى الدَّارِ إذْ خلتْ … ولكن لأهلِ الدَّارِ إذْ ودَّعوا الدَّارا

تولُّوا فولَّى العيشُ من بعدِ غبْطةٍ … وأبقوا بقلبي من تذكُّرهمْ نارا

وقال ذو الرمة:

بجرعائها من ساكنِ الحيِّ ملعبٌ … وآريُّ أفراسٍ كجُرثومةِ النَّملِ

كأنْ لم يكُنها الحيُّ إذْ أنتَ مرَّةً … بها ميِّتُ الأهواءِ مجتمعُ الشَّملِ

بكيتُ علَى ميٍّ بها إذْ عرفتُها … وهجْتُ الهوَى حتَّى بكى القومُ من أجلي

فظلُّوا ومنهمْ دمعهُ غالبٌ لهُ … وآخَرُ يثني عبرةَ العينِ بالهملِ

وهلْ همَلانُ العينِ راجعُ ما مضى … من الوجدِ أوْ مُدْنيكِ يا ميُّ من أهلي

ألا لا أُبالي الموتَ إن كانَ قبلهُ … لقاءٌ لميٍّ وارتجاعٌ من الوصلِ

وقال أيضاً:

قِفِ العيسَ في أطلالِ ميَّةَ فاسألِ … رُسوماً كأخلاقِ الرِّداءِ المُسلسلِ

أظنُّ الَّذي يُجدي عليكَ سؤالُها … دموعاً كتبذيرِ الجُمانِ المفصَّلِ

وكائنْ تخطَّتْ ناقتي منْ مفازةٍ … ومن نائمٍ عن ليلةٍ مُتزمِّلِ

وقال ذو الرمة:

وقفْتُ علَى ربْعٍ لميَّةَ ناقتي … فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبُهْ

وأُسقيهِ حتَّى كادَ ممَّا أبثُّهُ … تُكلِّمني أحجارهُ وملاعبُهْ

ألا لا أرى مثلَ الهوَى داءَ مسلمٍ … كريمٍ ولا مثلَ الهوَى ليمَ صاحبُهْ

وقال أيضاً:

أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما … هلِ الأزمنُ الَّلاتي مضيْنَ رواجعُ

وهلْ يرجعُ التَّسليمَ أوْ يكشفُ العمى … ثلاثُ الأثافي والدِّيارُ البلاقعُ

توهَّمْتها يوماً فقلتُ لصاحبي … وليسَ بها إلاَّ الظِّباءُ الخواضعُ

قفِ العيسَ تنظرْ نظرةً في ديارها … وهل ذاكَ من داءِ الصَّبابةِ نافعُ

فقال أما تغشى لميَّةَ منزلاً … من الدَّهر إلاَّ قلتَ هلْ أنتَ رابعُ

وقال أبو تمام:

أوَ ما رأيتَ منازلَ ابنةِ مالكٍ … رسمتْ لهُ كيفَ الزَّفيرُ رسومُها

وكأنَّما ألقى عصاهُ بها البِلى … من شقَّةٍ قُذفٍ فليسَ يريمُها

والحادثاتُ وإنْ أصابكَ بؤسُها … فهوَ الَّذي أنباكَ كيفَ نعيمُها

فلقَبلُ أظهرَ صقلُ سيفٍ إثرَهُ … فبدا وهذَّبتِ القلوبَ همومُها

وقال البحتري:

أمحلَّتَيْ سُلمى بكاظمةَ اسلما … وتعلَّما أنَّ الجوى ما هجتُما

أبكيكُما دمعاً ولو أنِّي علَى … قدرِ الجوى أبكي بكيتُكُما دما

طللا أُكفكفُ فيهِ دمعاً مُعرباً … بجوًى وأقرأُ منهُ خطّاً أعجما

تأبى رُباهُ أنْ تُجيبَ ولم يكنْ … مُستخبراً ليُجيبَ حتَّى يفهما

وقال أيضاً:

يا يومُ عرِّجْ بلْ وراءكَ يا غدُ … قدْ أجمعوا بيناً وأنتَ الموعِدُ

في كلِّ يومٍ دمنةٌ من حُبِّهمْ … تُقوي وربعٌ بعدهُمْ يتأبَّدُ

دمِنٌ تقاضاهنَّ أعلامَ البِلى … هوجُ الرِّياح البادياتُ العُوَّدُ

حتَّى فنينَ وما البقاءُ لواحدٍ … والدَّهرُ في أطرافهِ يتردَّدُ

وقال أبو تمام:

ديارٌ هراقَتْ كلَّ عينٍ شحيحةٍ … وأوطأتِ الأحزانَ كلَّ حشًى جلْدِ

فعوجا صدورَ الأرْحبيِّ وأسهلا … بذاكَ الكثيبِ السَّهلِ والعلَمِ الفرْدِ

فلا تسألاني عن هويٍّ طُعمتُما … جواهُ فليسَ الوجدُ إلاَّ منَ الوجدِ

وقال البحتري لنفسه:

لا دمنةٌ بلِوى خبْتٍ ولا طللُ … يردُّ قولاً علَى ذي لوعةٍ يسلُ

إنْ عنَّ دمعكَ في إثرِ الرُّسومِ فلمْ … يصبْ عليها فعندي مدمعٌ ذللُ

هلْ أنتَ يوماً مُعيري نظرةً فترى … في رملِ يبرينَ عيراً سيرُها رملُ

شبُّوا النَّوى بحُداةٍ ما لها وطنٌ … إلاَّ النَّوى وجِمالٍ ما لها عقُلُ

وقال ذو الرمة:

يقولُ بالزُّرقِ صحبي إذْ وقفتُ بهمْ … في دارِ ميَّةَ استسقي لها المطرا

لو كان قلبكَ من صخرٍ لصدَّعهُ … هيجُ الدِّيارِ لكَ الأحزانَ والذِّكرا

وزفرةٌ تعتريني كلَّما ذُكرتْ … ميٌّ لهُ أوْ نحا من نحوها البصرا

ما زلتُ أطردُ في آثارهِمْ نظري … والشَّوقُ يقتادُ في ذي الحاجةِ النَّظرا

وقال أيضاً:

عرفتُ لها داراً فأبصرَ صاحبي … صحيفةَ وجهي قدْ تغيَّرَ حالُها

فقلتُ لنفسي من حياءٍ رددْتُهُ … إليها وقد بلَّ الجفونَ بَلالُها

أمِنْ أجلِ دارٍ طيَّرَ البينُ أهلَها … أيادي سبا بعدي وطالَ احتيالُها

فؤادكَ مبثوثٌ عليكَ شجونهُ … وعينكَ يعصي عاذليكَ انهمالُها

وقال الراعي:

ألا أيُّها الرَّبعُ الخلاءُ مشاربُهْ … أشِرْ للفتى من أينَ صارَ حبائبُهْ

فلمَّا رأينا أنَّما هوَ منزلٌ … وموقدُ نارٍ قلَّما عادَ حاطبُهْ

مضيْتُ علَى شأني بمرَّةِ مُخرجٍ … عنِ الشَّأوِ ذي شغبٍ علَى من يحاربُهْ

ولبعض أهل هذا العصر:

أتهجرُ منْ تحبُّ وأنتَ جارُ … وتطلبهُمْ وقدْ بعُدَ المزارُ

وتسكنُ بعدَ نأيهمِ اشتياقاً … وتسألُ في المنازلِ أينَ ساروا

تركْتَ سؤالهُمْ وهمُ جميعٌ … وترجو أنْ تُخبِّركَ الدِّيارُ

فأنتَ كمُشتري أثرٍ بعينٍ … فقلبكَ بالصَّبابةِ مُستطارُ

فنفسكَ لُمْ ولا تلمِ المطايا … ومُتْ أسفاً فقد حقَّ الحذارُ

سمعتَ بنأيهُمْ وظللْتَ حيّاً … فقدتُكَ كيفَ يُهنيكَ القرارُ

إذا ما الصَّبُّ أسلمهُ صدودٌ … إلى بينٍ فمهجتهُ جُبارُ

تباعدَ من هويتَ وأنتَ دانٍ … فلا تتعبْ فليسَ لكَ اعتذارُ

إذا ما بانَ من تهوى فولَّى … ولجَّ بكَ الهوَى فالصَّبرُ عارُ

وله أيضاً:

أمرُّ علَى المنزلِ كالغريبِ … أُسائلُ من لقيتُ عنِ الحبيبِ

وما يغني الوقوفُ علَى الأثافي … ونُؤيِ الدَّارِ عنْ دنفٍ كئيبِ

حبستُ بها المطيَّ فلمْ تُجبني … ولمْ ترحمْ بلا شكٍّ نحيبي

فقلتُ لها سكوتُكِ ذا عجيبٌ … وأعجبُ من سكوتكِ أنْ تُجيبي

شكوْتُ إلى الدِّيارِ فما شفتْني … بلى شاقتْ إلى وجهِ الحبيبِ

فمنْ يُنجي العليلَ منَ المنايا … إذا كانَ البلاءُ منَ الطَّبيبِ

كلُّ متشوَّقٍ من العشَّاق بنسيم ريحٍ أوْ لمعان برقٍ أوْ سجع حمامٍ فهو ناقصٌ عن حال التَّمام من جهتين إحداهما قلَّة صبره على فقد صاحبه حتَّى يحتاج أن يرى ما يشوقه بذكره والأخرى أنَّ من كانت هذه صفته فإنَّ الصَّبابة لم تتمالك على قلبه فتشغله عن أن يتشوَّق بشيءٍ يلمُّ به غير أنَّ الشَّوق بما ذكرناه إنَّما يقصِّر بأهله عن درجة الكمال وليس بمدخلٍ لهم في جملة الموصوفين بالنَّقص والإخلال ومن مختار ما قيل في الشَّوق بالرِّياح.

قول ذي الرمة:

إذا هبَّتِ الأرياحُ من نحوِ جانبٍ … بهِ أهلُ ميٍّ هاجَ شوقي هبوبُها

هوًى تذرفُ العينانِ منهُ وإنَّما … هوى كلِّ نفسٍ حيثُ حلَّ حبيبُها

وقال آخر:

وقدْ عاودتْنا الرِّيحُ منها بنفحةٍ … علَى كبدٍ من طيبِ أرواحها بردُ

عِديني بنفسي أنتِ وعداً فربَّما … جلا كربةَ المكروبِ عن قلبه الوعْدُ

فقدْ بتُّ لا قومٌ ولا كبليَّتي … ولا مثلُ وجدي في الشِّفا بكمُ وجدُ

وقال مجنون بني عامر:

أيا جبليْ نعمانَ باللهِ خلِّيا … طريقَ الصَّبا يخلصْ إليَّ نسيمُها

أجدْ بردَها أوْ تشفِ منِّي حرارةً … علَى كبدٍ لمْ يبقَ إلاَّ صميمُها

فإنَّ الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسَّمتْ … علَى نفسِ مغمومٍ تجلَّتْ غيومُها

وقال ابن الدمينة:

وقدْ جعلتْ ريَّا الجنوبِ إذا جرتْ … علَى ضعفِها تبدَا لنا وتطيبُ

جنوبٌ بريَّا مِنْ أُميمةَ تغتدِي … حجازيَّةً عُلويةً وتؤوبُ

وقالت وجيهة بنت أوس الضبية:

فلو أنَّ ريحاً بلَّغتْ وحْيَ مُرسل … حفِيِّ لناجيتُ الجنوبَ علَى النَّقبِ

فقلتُ لها أدِّي إليهمْ تحيَّتي … ولا تخلطيها طالَ سعدكِ بالتُّربِ

فإنِّي إذا هبَّتْ شمالٌ سألتُها … هلِ ازدادَ صدَّاحُ النُّميرةِ مِنْ قربِ

وقال يزيد بن الطثرية:

إذا ما الرِّيحُ نحوَ الأثلِ هبَّتْ … وجدتُ الرِّيحَ طيِّبةً جنوبا

فماذا يمنعُ الأرواحَ تسرِي … بريَّا أُمِّ عمرو أنْ تطيبا

أليستْ أُعطيتْ في حسنِ خلقٍ … كما شاءتْ وجُنِّبتِ العيوبا

وقال آخر:

خليليَّ مِنْ سكانَ مُرَّانَ هاجَني … سكونُ الجنوبِ مرَّةً وابتسامُها

فإنْ تسأَلاني ما دوائِي فإنَّني … بمنزلةٍ أعيَى الطَّبيبَ سقامُها

وقال صخر الحرمازي:

لعمركَ ما ميعادُ عينيكَ بالبُكا … بداراءَ إلاَّ أنْ تهبَّ جنوبُ

أُعاشرُ في داراءَ مَنْ لا أُحبُّهُ … وبالرَّملِ مهجورٌ إليَّ حبيبُ

وقال آخر:

عليكِ سلامُ اللهِ أمَّا قلوبُنا … فمرضَى وأمَّا ودُّنا فصحيحُ

وإنِّي لأستسقِي بكلِّ سحابةٍ … تمرُّ بها منْ نحوِ أرضكِ ريحُ

قال آخر:

هوَى صاحِبي ريحُ الشَّمالِ إذا جرتْ … وأهوَى لنفسي أنْ تهبَّ جنوبُ

وما ذاكَ إلاَّ أنَّها حينَ تنتهي … تناهَى وفيها مِنْ أُميمةَ طيبُ

فويلِي منَ العذَّالِ ما يترُكونني … بغمِّي أمَا في العاذلينَ لبيبُ

يقولُونَ لو عزَّيتَ قلبكَ لارْعَوى … فقلتُ وهلْ للعاشقينَ قلوبُ

وقال مهدي بن الملوح:

إذا الرِّيحُ مِنْ نحوِ الحبيبِ تنسَّمتْ … وجدتُ لريَّاها علَى كبدِي بردَا

علَى كبدٍ قدْ كادَ يُبدي بها الجوى … صدوعاً وبعضُ القومِ يحسبُني جلدا

وقال آخر:

تمرُّ الصَّبا بساكنِ ذي الغضا … فيصدعُ قلبي أنْ يهبَّ هبوبُها

قريبةُ عهدٍ بالحبيبِ وإنَّما … هوَى كلِّ نفسٍ حيثُ كانَ حبيبُها

وقال الجويرية:

يصحِّحُ أوصابي علَى النَّأيِ والهوَى … مُهيجُ الصَّبا مِنْ نحوِها حينَ تنفحُ

وما اعترضتْ للرَّكبِ أدماءُ حرّةٌ … منَ العينِ إلاَّ ظلَّتِ العينُ تسفحُ

وعاتبةٍ عندِي لها قلتُ أقْصري … فغيركِ خيرٌ منكِ قولاً وأنصحُ

وقال الورد بن الورد العجلي:

أمُغترباً أصبحتَ في دارِ مهرةٍ … ألا كلُّ نجديٍّ هناكَ غريبُ

إذا هبَّ عُلويُّ الرِّياحِ وجدتَني … كأنِّي لعُلويِّ الرِّياحِ نسيبُ

ألا حبَّذا الإصعادُ لو تستطيعهُ … ولكنْ أجلْ لا ما أقامَ عسيبُ

فإنْ مرَّ ركبٌ مُصعدونَ فقلبهُ … معَ المُصعدينَ الرَّائحينَ جنيبُ

سلِ الرِّيحَ إنْ هبَّتْ جنوباً ضعيفةً … متى عهدُها بالدَّيرِ زِير حبيبُ

متى عهدُها بالمُوقلاتِ وحبَّذا … شواكلُ ذاكَ العيشِ حينَ يطيبُ

ولا خيرَ في الدُّنيا إذا أنتَ لمْ تزرْ … حبيباً ولمْ يطربْ إليكَ حبيبُ

وقال آخر:

ألا ليتَ شِعري هلْ يعودَنَّ ما مضَى … لياليَ عيشُ الأصفياءِ رطيبُ

وهلْ عائدٌ قبلَ المماتِ فراجعٌ … علَى عهدهِ دهرٌ إليَّ حبيبُ

وإنِّي لتُحْييني الصَّبا وتُميتُني … إذا ما جرتْ بعدَ الشَّمالِ جنوبُ

وتبردُ نفسي بلْ تعيشُ حشاشَتي … شمالٌ بها بعدَ الهدوِّ هبوبُ

وأرتاحُ للبرقِ اليمانِي كأنَّني … لهُ حينَ يجري في السَّماءِ نسيبُ

وقال ابن الدمينة:

ألا لا أُحبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصعِّداً … ولا الرِّيحَ إلاَّ أنْ تهبَّ جنوبُ

إذا هبَّ عُلويُّ الرِّياحِ وجدتَني … كأنِّي لعُلويِّ الرِّياحِ نسيبُ

وقال آخر:

إذا هبَّتِ الأرواحُ مِنْ نحوِ أرضهمْ … وجدتُ لريَّاها إذا ما جرتْ بردَا

ومَنْ يلبسِ الدُّنيا ونُعمى ويختلفْ … عليهِ جَديداها يُجِدَّا لهُ فقدا

وقال ابن الدمينة:

فيا حسراتِ النَّفسِ مِنْ غربةِ النَّوى … إذا قسمتْها نيَّةٌ وشعوبُ

ومِنْ خطراتٍ تعتَريني وزفرةٍ … لها بينَ جلدي والعظامِ دبيبُ

وقدْ جعلتْ ريَّا الجنوبِ إذا جرتْ … علَى طيبِها تبدَا لنا وتطيبُ

جنوبٌ بريَّا مِنْ أُميمةَ تغتدي … حجازيَّةً علويَّةً وتؤوبُ

وقال هدبة بن خشرم:

ألا ليتَ الرِّياحَ مسخَّراتٌ … لِحاجتنا تراوحُ أوْ تؤُبُ

فتُبلغنا الشَّمالُ إذا أتتْنا … وتُبلغَ أهلَنا عنَّا الجنوبُ

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

مباشرةُ النَّسيمِ لشخصِ إلفي … أشدُّ عليَّ مِنْ فقدِ الحبيبِ

نأَى عنِّي الحبيبُ فصارَ قلبي … يغارُ علَى الصَّبا وعلَى الجنوبِ

ولوْ يسطيعُ ما درجتْ دَبورٌ … إذنْ ونهَى الشَّمالُ عنِ الجنوبِ

خليلِي مِنْ نواكَ أخذتُ حظِّي … فهلْ لي في نوالكَ مِنْ نصيبِ

نُفيتُ منَ الهوَى إنْ كانَ قلبي … دعَى ودّاً كودِّكَ في المغيبِ

وقال حميد بن ثور:

يهشُّ لنجديِّ الرِّياحِ كأنَّهُ … أخُو كربةٍ داني الإسارِ طليقُ

فيا طيبَ ريَّاها وبردَ نسيمِها … إذا حانَ مِنْ حامي النَّهارِ طروقُ

وقال جرير:

يا حبَّذا جبلُ الرَّيانِ مِنْ جبلٍ … وحبَّذا ساكنُ الرَّيانِ مَنْ كانا

وحبَّذا نفحاتٌ منْ يمانيَةٍ … تأتيكَ منْ قبلِ الرَّيانِ أحيانا

وقال آخر:

إذا هبَّ علويُّ الرِّياحِ وجدتَني … يهشُّ لعلويِّ الرِّياحِ فؤاديا

فإنْ هبَّتِ الرِّيحُ الصَّبا هيَّجتْ لنا … دواعيَ حزنٍ لم يجدنَ مُداويا

وما هبَّتِ الرِّيحُ الصَّحيحةُ موهناً … منَ اللَّيلِ إلاَّ بتُّ للرِّيحِ ضاويا

وإلاَّ علتْني عبرةٌ ثمَّ زفرةٌ … وإلاَّ تداعى القلبُ منِّي تداعيا

وقالت امرأة من مرة:

ألا خَليا بردَ الجنوبِ فإنَّهُ … يُداوي فؤادي مِنْ هواهُ نسيمُها

وكيفَ تُداوي الرِّيحُ شوقاً مماطلاً … وعيناً طويلاً للدُّموعِ سجومُها

وقال آخر:

حسبتُ الغضا يشفي هُيامِي فلم أجدْ … شميمَ الغضا يشفي هُيامَ فؤاديا

بلَى لو أتتْنا الرِّيحُ تُدلجُ موهناً … بريحِ الخزامى كانَ أشفى لِما بِيا

وقال الوقاف وهو الورد بن الورد الجعدي:

إذا تركتْ وحشيَّةٌ نجدَ لم يكنْ … لعينيكَ ممَّا يشكوانِ طبيبُ

إذا راحَ ركبٌ مُصعدونَ فقلبهُ … معَ المصعدينَ الرَّائحينَ جنيبُ

وكانتْ رياحُ الشَّامِ تُبغضُ مرَّةً … فقدْ جعلتْ تلكَ الرِّياحُ تطيبُ

وقد كانَ علويُّ الرِّياحِ أحبَّها … إلينا فقدْ دارتْ هناكَ جنوبُ

وقال آخر:

ألا حبَّذا يومٌ تهبُّ به الصَّبا … لنا وعشيَّاتٌ تدانتْ غيومُها

بنُعمانَ إذْ أهلي بنُعمانَ جيرةٌ … لياليَ إذْ يرضَى بدارٍ مقيمُها

وقال كلاب بن عقبة:

بأهلي ونفسي مَنْ تجنَّبتُ دارهُ … ومَنْ لا أرَى لي مِنْ زيارتهِ بدَّا

ومَنْ ردَّني إذْ جئتُ زائرَ بيتهِ … ولو زارَ بيتي ما أُهينَ ولا رُدَّا

ومَنْ لا تهبُّ الرِّيحُ مِنْ شقِّ أرضهِ … فتبلغَني إلاَّ وجدتُ لها بردا

وقال آخر:

ما هبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تلقاءِ أرضكمُ … إلاَّ وجدتُ لها برداً علَى كبدي

ولا تنسَّمتْ أُخرى أستفيقُ لها … إلاَّ وجدتُ خيالاً منكَ بالرَّصدِ

وقال ابن الدمينة:

يمانيَةٌ هبَّتْ بليلٍ فأرَّقتْ … حشاشةَ نفسٍ قد تعنَّى طبيبُها

أبِيني إذا استخبرتِ هل تحفظُ الهوَى … أُميمةُ أم هلْ عادَ بعدِي رقيبُها

وقال الورد بن الورد العبسي:

ألا ليتَ أنَّ الرِّيحَ في ذاتِ بينِنا … رسولٌ فتطوي بينَنا بلداً قفْرا

فتخبرَها ماذا لقينا منَ الهوَى … وتُخبرنا عنها علانيَةً جهرا

وقال آخر:

ألا يا جبالَ الغورِ خلِّينَ بينَنا … وبينَ الصَّبا يخرجُ علينا سَنينُها

فقدْ طالَ ما حالت ذُراكنَّ بينَنا … وبينَ ذُرى نجدٍ فما نسْتَبينُها

وقال طريح بن إسماعيل:

هلِ الرِّيحُ مِنْ صبٍّ مقيمٍ مريحةٌ … علَى الظَّاعنِ النَّائي سلامَ المسلمِ

وكيفَ تناسى مَنْ تجدِّدُ ذكرَهُ … نسيمُ الرِّياحِ للصَّبا المتنسَّمِ

وقالت العيوق بنت مسعود:

إذا هبَّتِ الأرواحُ زادتْ صبابةً … عليَّ وبرحاً في فؤادي هبوبُها

ألا ليتَ أنَّ الرِّيحَ ما حلَّ أهلُنا … بصحراءِ نجدٍ لا تهبُّ جنوبُها

وآلتْ يميناً لا تهبُّ شمالُها … ولا نكباً إلاَّ صَباً نستطيبُها

وقال آخر:

ألا حبَّذا ريحُ الأُلا إذا جرتْ … بريَّاهُ هبَّاتُ الرِّياحِ الجنائبُ

وإنِّي لمعذورٌ إلى الشَّوقِ كلَّما … بدَا لي مِنْ نخلِ الصَّباحِ النَّصائبُ

وقال آخر:

هلِ الرِّيحُ أوْ برقُ اليمامةِ مخبرٌ … ضمائرَ حاجٍ لا أُطيقُ لها ذكرا

سُليمى سقَاها اللهُ حيثُ تصرَّفتْ … بها غُرباتُ الدَّارِ عن دارِنا القطرا

إذا درجتْ ريحُ الصَّبا وتنسَّمتْ … تعرَّفتُ مِنْ نجدٍ وساكنهِ نشرا

تقرَّفَ قرحُ القلبِ بعدْ انْدِمالهِ … فهيَّجَ دمعاً لا جموداً ولا نذرا

حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال حدثنا عبد الله بن شيب قال حدثنا مروان بن أبي بكرة قال حدثني محمد بن إبراهيم الليثي قال حدثني محمد بن معن الغفاري قال اقتحمتِ السَّنة ودخل المدينة ناسٌ من الأعراب منهم صرَّة من كلاب وكانوا يدعون عامَهم ذلك الجُراف قال فأبرقوا ليلة في النَّجد وغدوت عليهم فإذا غلام منهم قد عاد جلداً وعظماً ضيعةً ومرضاً وضمانة حبٍّ وإذا هو قد رفع عقيرته بأبيات والهاً من الليل:

ألا يا سنا برقٍ علَى فلكِ الحمى … ليَهنكَ مِنْ برقٍ عليَّ كريمُ

لمعتَ اقتداءَ الطَّيرِ والقومُ هجَّعٌ … فهيَّجتَ أسقاماً وأنتَ سليمُ

فبتُّ بحدِّ المِرفقينِ أشيمهُ … كأنِّي لبرقٍ بالسَّتَارِ حميمُ

فهلْ مِنْ معيرٍ طرفَ عينٍ جليَّةٍ … فإنسانُ عينِ العامريِّ كليمُ

وفي قلبهِ البرقُ المُلالي رَميَّةٌ … بذكرِ الحمى وهنا تكادُ تهيمُ

قال فقلت له ففي دون ما بك يُفحم عن الشِّعر فقال صدقت ولكنَّ البرق أنطقني ثمَّ ما لبث يومه ذلك حتَّى مات.

وقال آخر:

أقولُ لبوَّابَيْنِ والسِّجنُ مغلقٌ … وطالَ عليَّ اللَّيلُ ما تَرَيانِ

فقالا نرَى برقاً يلوحُ وما الَّذي … يشوقكَ مِنْ برقٍ يلوحُ يَمانِ

فقلتُ افتحا لي البابَ أجلسْ إليكُما … لعلِّي أرَى البرقَ الَّذي تَرَيانِ

فقالُوا أُمرنا بالوثاقِ وما لنا … بمعصيةِ السُّلطانِ فيكَ يَدانِ

ألا ليتَ شِعري وهو ممَّا يهمُّني … متى أنا والصَّهَّالُ مُلتقيانِ

وأنشدني أحمد بن يحيى:

أكلَّما لمعتْ بالغورِ بارقةٌ … هفا إليها جَناحا قلبكَ الخفقُ

إنْ كنتَ مثَّلتَها مِنْ كلِّ رابعةٍ … للشَّمسِ والبدرِ أوْ للمنظرِ الأنقِ

لتُصبحنَّ قتيلاً طُلَّ مصرعهُ … مِنْ طعنةٍ في الحشا مكتومةِ العلقِ

وقال الأحوص:

أصاحِ ألمْ تحزنكَ ريحٌ مريضةٌ … وبرقٌ تلالا بالعقيقينِ لامعُ

فإنَّ غريبَ الدَّارِ ممَّ يشوقهُ … نسيمُ الرِّياحِ والبروقُ اللَّوامعُ

ومنْ دونِ ما أسمُو بطرفي لأرضهمْ … مفاوزُ مُغبرٌّ منَ التِّيهِ واسعُ

فأبدتْ كثيراً نظرَتي منْ صبابتي … وأكثرُ منهُ ما تجنُّ الأضالعُ

أهمُّ لأنسَى ذكرَها ويشوقُني … رفاقٌ إلى أهلِ الحجازِ نوازعُ

وقالت رامة بنت الشماخ:

أُلامُ علَى نجدٍ ومنْ تكُ دارهُ … بنجدٍ يُهجهُ الشَّوقُ شيءٌ يرايعهْ

تُهجهُ جنوبٌ حينَ تبدُو بنشرها … يمانيةٌ والبرقُ إذْ لاحَ لامعهْ

وقالت امرأة من طي:

إذا ما صَبيرُ المزنُ أومضَ برقهُ … ببغدادَ لم تبلجْ بعيني بوارقهْ

ولكنْ متى ما تبدُ منهُ مخيلةٌ … بنجدٍ فذاكَ البرقُ لا بدَّ شائقهْ

وقالت الخنساء:

أمبتدرٌ قلبي إن العينُ آنستْ … سنا بارقٍ بالنجدِ غير تهامي

فليت سماكياً يطيرُ ربابهُ … يقادُ إلى أهلِ الغضا بزمامِ

فيشربَ منهُ جَحْوشٌ ويشيمهُ … بعينيْ قطاميٍّ أغرَّ شآمي

فأُقسمُ أنِّي قد وجدتُ لجَحْوشٍ … إذا جاءَ والمستأذنونَ نيامُ

فإنْ كنتَ من أهلِ الحجازِ فلا تلحْ … وإنْ كنتَ نجديّاً فلحْ بسلامِ

فأهلُ الحجازِ معشرٌ ما أُحبُّهمْ … وأهلُ الغضا قومٌ عليَّ كرامُ

وقال عبد الرحمن بن دارة:

نظرتُ ودورٌ من نصيبينَ دونَنا … كأنَّ غريباتِ العيونِ بها رُمدُ

لكيما أرى البرقَ الَّذي أومضتْ بهِ … ذُرى المزنِ علويّاً وكيفَ لنا يبدُو

وإنِّي ونجداً كالقريبينِ قَطَّعا … قوًى من جبالٍ لم يشدُّ لها عقدُ

وقال أبو القمقام الأسدي:

خليليَّ طالَ اللَّيلُ واشتغلَ القذَى … بعينيَّ واستأنستُ برقاً يمانيا

خليليَّ إلا تبكيا لأخيكما … . . ما بي أقل . .

وقال آخر:

أرقتُ وهاجَني البرقُ البعيدُ … أريدُ لكي يعودَ فلا يعودُ

أُريدُ لكي أزورَ بلادَ ليلَى … فأمَّا غيرُ ذاكَ فلا أُريدُ

عليَّ أليَّةٌ إنْ كنتُ أدري … أينقصُ حبُّ ليلَى أم يزيدُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أرقتُ لبرقٍ من تهامةَ خافقٍ … كأنَّ سنَا إيماضهِ قلبُ عاشقِ

يلوحُ فأزدادُ اشتياقاً وما أرَى … يشوِّقني لولاكَ من ضوءِ بارقِ

متى تدنُو لا يملكْ ليَ الشَّوقُ لوعةً … وإنْ تنأى عنِّي فالتَّوهُّم شائقي

فرأيكَ في عبدٍ إليكَ مفرُّهُ … لتنعشَهُ بالوصلِ قبلَ العوائقِ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:

أعنِّي علَى بارقٍ ناصب … خفيٍّ كلمحكَ بالحاجبِ

كأنَّ تألُّقهُ في السَّماءِ … يدَا كاتبٍ أوْ يدا حاسبِ

وقال علي بن محمد العلوي:

شجاكَ الوميضُ ولذعُ المضيضِ … بنارِ الهوَى وببرقٍ يماني

كأنَّ تألّقهُ في السَّماءِ … رجعُ حسابٍ خفيفِ البنانِ

كأنِّيَ لم أدرِ أنَّ الرَّدى … لهتكِ ستورِ الضَّنى قد رآني

أخلايَّ أُحفيكمُ طائعاً … وأنتمُ مُنى النَّفسِ دونَ الأماني

ولكنْ يدُ الدَّهرِ رهنٌ بما … سيُرمَى بأسهمهِ الفرقدانِ

عسَى الدَّهرُ أنْ يثنِ لي عطفهُ … بعطفِ الهوَى وبعيشٍ لِيانِ

وقال البحتري:

خيالٌ ملمٌّ أو حبيبٌ مسلّمُ … وبرقٌ تجلَّى أوْ حريقٌ مضرِّمُ

تقيَّضَ لي من حيثُ لا أعلمُ النَّوى … ويسري إليَّ الشَّوقُ من حيثُ أعلمُ

وقال النابغة:

أرقتُ وأصحابي هجوعٌ بربوةٍ … لبرقٍ تلالا في تهامةَ لامعُ

فأبدَى هموماً مِنْ همومٍ أجلُّها … وأكثرُ منها ما تجنُّ الأضالعُ

وقال آخر:

أرقتُ لبرقٍ آخرَ اللَّيلِ يلمعُ … سرَى دائباً فيما نهبُّ ونهجعُ

سرَى كاحتساءِ الطَّيرِ واللَّيلُ ضاربٌ … بأرواقهِ والصُّبحُ قدْ كادَ يسطعُ

وقال آخر:

بدَا البرقُ مِنْ نحوِ الحجزِ فشاقَني … وكلُّ حجازيٍّ لهُ البرقُ شائقُ

سرَى مثلَ نبضِ العرقِ واللَّيلُ دونهُ … وأعلامُ نجدٍ كلُّها والأسالقُ

وقال دعبل:

ما زلتُ أكلأُ برقاً في جوانبهِ … كطرفةِ العينِ تخبُو ثمَّ تختطفُ

برقٌ تجاسرَ مِنْ خفَّانَ لامعهُ … يقضي الصَّبابةَ مِنْ قلبي وينصرفُ

وقال آخر:

شبَّهتُ في أُخرياتِ اللَّيلِ مِنْ رجبٍ … برقاً أتتْنا بهِ الجوزاءُ شؤْبوبا

صنجاً بصنائعهِ الأوتارُ قدْ نُصبتْ … بينَ السَّماءِ وبينَ الأرضِ مضروبا

وقال آخر:

أضاءَ البرقُ ليلةَ أذرعاتٍ … هوًى لا يستطيعُ لهُ طِلابا

هوًى بتهامةٍ وهوًى بنجدٍ … فأيُّ هواكَ تتركُ حينَ آبا

وقال كثيّر:

أهاجكَ برقٌ آخرَ اللَّيلِ واصبُ … تضمَّنهُ فرشُ الحيا فالمساربُ

تألَّقَ واحْمَوْمَى وخيَّمَ في الرُّبَى … أحمُّ الذُّرى ذو هيدبٍ متراكبُ

إذا حرَّكتهُ الرِّيحُ أرزمَ جانبٌ … بلا هرَقٍ منهُ وأومضَ جانبُ

كما أومضتْ بالعينِ ثمَّ تبسَّمتْ … جريعٌ بدا منها جبينٌ وحاجبُ

يصحُّ النَّدى لا يذكرُ السَّيرَ أهلهُ … ولا يرجعُ الماشي بهِ وهوَ جادبُ

وقال آخر:

وأرتاحُ للبرقِ اليمانِي كأنَّني … لهُ حينَ يجري في السَّماءِ نسيبُ

ولي كبدٌ حرَّى بما قدْ تضمَّنتْ … عليهِ وعينٌ بالدُّموعِ سكوبُ

أُصعِّدُ أنفاساً حنيناً ولوعةً … كما حنَّ مقصورُ اليديْنِ قضيبُ

وقال أبو هلال الأسدي:

أشاقتكَ البوارقُ والجنوبُ … ومِنْ عالي الرِّياحِ لها هبوبُ

أتتكَ بنفحةٍ مِنْ ريحِ نجدٍ … تضوَّعُ والعرارُ بها مشوبُ

وشمتُ البارقاتِ فقلتُ جادتْ … حيالَ القاعِ أوْ مُطِرَ القلوبُ

وقال محمد بن عبد الله الفقعسي:

أقولُ لقمقامِ بنِ زيدٍ أما ترَى … سنا البرقِ يبدُو للعيونِ النَّواظرِ

فإنْ تبكِي للبرقِ الَّذي هيَّجَ الهوَى … أُعنكَ وإن تصبرْ فلستُ بصابرِ

سقَى اللهُ حيّاً بينَ صارَةَ والحمى … حِمى فَيْدَ صوبَ العاجناتِ المواطرِ

أمينٌ واد اللهِ مَنْ كانَ منهمُ … إليهمْ ووقَّاهُ حِمامَ المقادرِ

وقال بعض العامريين:

عدمتُ جداراً يمنعُ البرقَ أنْ يُرَى … معَ اللَّيلِ علويّاً تطيرُ شقائقهْ

وسقياً لذاكَ البرقِ لو أستطيعهُ … ولكنْ عدِمنا نيَّةً ما توافقهْ

وقال آخر:

أعنِّي علَى برقٍ أُريكَ وميضهُ … تضيءُ دجنَّاتِ الظَّلامِ لوامعهْ

إذا اكتحلتْ عينا محبٍّ بضوئهِ … تجافتْ بهِ حتَّى الصَّباحِ مضاجعهْ

فباتَ وِسادي ساعدٌ قلَّ لحمهُ … عنِ العظمِ حتَّى كادَ تبدُو أشاجعهْ

وقال آخر:

نفى النَّومَ عنِّي فالفؤادُ كئيبُ … نوائبُ همٍّ ما تزالُ تنوبُ

وما جزعاً مِنْ خشيةِ الموتِ أخضلتْ … دموعِي ولكنَّ الغريبَ غريبُ

وإنِّي لأرعَى النَّجمَ حتَّى كأنَّني … علَى كلِّ نجمٍ في السَّماءِ رقيبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أراعكَ برقٌ في دجى اللَّيلِ لامعُ … أجلْ كلُّ ما يلقاهُ ذو الشَّوقِ رائعُ

أألآنَ تخشَى البرقَ والإلفُ حاضرٌ … فكيفَ إذا ما لاحَ والإلفُ شاسعُ

وهاجتْ رياحٌ زدْنَ ذا الشَّوقِ صبوةً … وباكرتِ الأيكُ الحمامُ السَّواجعُ

وعاشرتَ أقواماً فلمْ تلقَ فيهمِ … خليلكَ فاستعصتْ عليكَ المدامعُ

وأصبحتَ لا تروِي منَ الشِّعرِ إذْ نأَى … هواكَ وباتَ الشِّعرُ للنَّاسِ واسعُ

سِوَى قولِ غيلانَ بنِ عقبةَ نادماً … هلِ الأزمنُ اللاَّتي مضينَ رواجعُ

هناكَ تمنَّى أنَّ عينيكَ لم تكنْ … وأنَّكَ لم ترحلْ وإلفكَ رابعُ

فكلُّ الَّذي تلقَى يسوؤكَ إنْ دنَا … ودلُّ الَّذي تلقَى إذا بانَ فاجعُ

فيا ويكَ لا تسرع إلى البينِ إنَّه … هوَ الموتُ فاحْذرْ غِبَّ ما أنتَ صانعُ

وله أيضاً:

أمنْ أجلِ سارٍ في دجى اللَّيلِ لامعِ … جفوتُ حذارَ البينِ لِينَ المضاجعِ

علامَ تخافُ البينَ والبينُ راحةٌ … إذا كانَ قربُ الدَّارِ ليسَ بنافعِ

إذا لم تزلْ ممَّنْ تحبُّ مروَّعاً … بغدرٍ فإنَّ الهجرَ ليسَ برائعِ

أنشدني أبو طاهر الدمشقي قال أنشدني محمد بن الوليد الحيدري من أهل فلسطين:

رأيتُ بجرمِ عذرةَ ضوءَ نارٍ … تلألأَ وهيَ نازحةُ المكانِ

فشبَّهَ صاحبايَ بها سُهيلاً … فقلتُ تبيَّنَا ما تُبصرانِ

أنارٌ أُوقدتْ فتنوَّراها … بدتْ لكُما أمِ البرقُ اليمانِي

وكيفَ ودونَها الفلَجاتُ تبدُو … وكيفَ وأنتُما لا ترفعانِ

كأنَّ الرِّيحَ تصدعُ مِنْ سناها … بنائقَ جنَّةٍ مِنْ أرجوانِ

وقال جامع الكلابي:

وإنِّي لنارٍ أُوقدتْ بينَ ذي الغضا … علَى ما بعينِي مِنْ قذًى لبصيرُ

أضاءتْ لنا وحشيَّةً غيرَ أنَّها … معَ الإنسِ ترعَى ما رعَوْا وتسيرُ

وقال جميل بن معمر:

أكذَّبتُ طرفي أمْ رأيتُ بذي الغضا … لبُثنةَ ناراً فارْفَعوا أيُّها الرَّكبُ

إلى ضوءِ نارٍ ما تبوخُ كأنَّها … منَ البعدِ والإقواءِ جيبٌ لها نقبُ

وقال كثيّر:

رأيتُ وأصحابِي بأيْلةَ موهنا … وقدْ عادُ نجمُ الفرقدِ المتصوّبُ

لعزَّةَ ناراً ما تبوخُ كأنَّها … إذا ما رمقْناها منَ البعدِ كوكبُ

وقال آخر:

يا موقداً نارِي يُذكيها ويُخمدُها … قرَّ الشَّتاءِ بأرواحٍ وأمطارِ

قمْ فاصطلِ النَّارِ من قلبي مضرَّمةً … بالشَّوقِ تغنَ يا موقدَ النَّارِ

ويا أخا الذَّودِ قدْ طالَ الظَّماءُ بها … لمْ تدرِ ما الرّيُّ مِنْ جدبٍ وإقفارِ

ردْ بالعطاشِ علَى عيني ومحجرِها … تُروي العطاشَ بدمعٍ واكفٍ جارِي

وقال آخر:

يا موقدَ النَّارِ بالزّنادِ … وطالبَ الجمرِ في الرَّمادِ

دعْ عنكَ شكّاً وخذْ يقيناً … واقتبسِ النَّارَ مِنْ فؤادي

وقال الشماخ:

وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تبرقعتْ … لقدْ رابَني منها الغداةَ سفورُها

وأُشرفُ بالغورِ اليفاعَ لعلَّني … أرَى نارَ ليلَى أوْ يراني بصيرُها

حمامةَ بطنِ الوادِيينِ ترنَّمي … سقاكِ منَ الغرِّ العذابِ مطيرُها

أبِيني لنا لا زالَ ريشُكِ ناعماً … ولا زلتِ في خضراءَ دانٍ بريرُها

وقال الأحوص بن محمد:

ضوءُ نارٍ بدَا لعينيكَ أمْ شُ … بَّتْ بذي الأثلِ مِنْ سلامةَ نارُ

تلكَ دارُ الغضا وحسّاً وقد يأ … لفُها المجتدونَ والزُّوَّارُ

أصبحتْ دمنةً تلوحُ بمتنٍ … تعتفيها الرِّياحُ والأمطارُ

وكذاكَ الزَّمانُ يذهبُ بال … نَّاسِ وتبقَى الدِّيارُ والآثارُ

وقال آخر:

يا موقدَ النَّارِ بالصَّحراءِ مِنْ عمَقٍ … قمْ فاصطلي مِنْ فؤادٍ هائمٍ قلقِ

النَّارُ تُطفى وبردُ القرِّ يخمدُها … ونارُ قلبيَ لا تطفَى منَ الحرقِ

وقال بعض الأعراب:

أنارٌ بدتْ يا عبدُ مِنْ ساكنِ الغضا … معَ اللَّيلِ أمْ برقٌ تلألأ ناصبُ

فأحببْ بتلكَ النَّارِ والموقدِ الَّذي … لهُ عندَ جرعاءِ النُّميرةِ حاطبُ

لمنْ ضوءُ نارٍ بالبطاحِ كأنَّها … منَ الوحشِ بيضاءُ اللَّبانِ سلوبُ

إذا صدَّعتها الرِّيحُ بانَ بضوئِها … منَ الأثْلِ فرعٌ يابسٌ ورطيبُ

يراها فيرْجوها وليسَ بآيسٍ … وفيها عنِ القصدِ المبينِ نكوبُ

فأمَّا علَى طلاَّبِ بانٍ فساعةٌ … وأمَّا علَى ذي حاجةٍ فقريبُ

وقال آخر:

ونارٍ كسحرِ العَودِ ترفعُ ضوءها … معَ اللَّيلِ هبَّاتُ الرِّياحِ الصَّواردُ

أحيدُ بأيدي العيسِ عنْ قصدِ دارِها … وقلبي إليها بالمودَّةِ قاصدُ

وقال آخر:

وطيبةُ قالتْ أوقدِ النَّارَ علَّهُ … يراها مضلٌّ قدْ سرَى فيؤوبُ

لها موقدٌ مِنْ أهلِها وكأنَّهُ … إذا أُوقدتْ ليلاً أغنُّ غضوبُ

وقال ربيعة بن ثابت:

لمنْ ضوءُ نارٍ قابلت أعينَ الرَّكبِ … تشبُّ بلدْنِ العُودِ والمندلِ الرَّطبِ

فقلتُ لقدْ آنستُ ناراً كأنَّها … صفا كوكبٍ لاحتْ فحنَّ لها قلبِي

وقال ابن الدمينة:

بدتْ نارُ أمِّ العمرو بين حوائلٍ … وبينَ اللّوَى كالبرقِ داني المعانِ

فيا حبَّذا مِنْ ضوءِ برقٍ بدا لنا … ويا حبَّذا مِنْ موقدٍ ودخانِ

بدتْ نارُها يا ملحَ مَنْ هيَ نارُهُ … ويا حبَّذا مِنْ مصطلًى ومكانِ

وقال آخر:

ألا ليتَ أنَّ الطَّلَّ يُطفئُ نارَنا … فيقبِسَني مِنْ نارِ وجناءَ قابسُ

وماذا عليهمْ لو تصلَّى بضوءها … علَى النَّأيِ مشبوحُ الذَّراعبْنِ بائسُ

وقال ابن مقيل:

إذا النَّاسُ قالُوا كيفَ أنتَ وقدْ بدا … ضميرُ الَّذي بِي قلتُ للنَّاسِ صالحُ

إذا قيلَ مِنْ دهماءَ حيِّرتَ أنَّها … منَ الجنِّ لم يوقدْ لنا النَّارَ قادحُ

وكيفَ ولا نارٌ لدهماءَ أُوقدتْ … قريباً ولا كلبٌ منَ اللَّيلِ نابحُ

وإنِّيَ ألْحاني علَى أنْ أُحبّها … رجالٌ تقوِّيهمْ قلوبٌ صحائحُ

ولو أنَّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ والهوَى … لأُهلكَ مالٌ لمْ تسعهُ المسارحُ

وقال امرؤ القيس:

تنوَّرتُها مِنْ أذرِعاتٍ وأهلُها … بيثربَ أدنَى دارِها نظرٌ عالِ

نظرتُ إليها والنَّجومُ كأنَّها … مصابيحُ رهبانٍ تشبُّ لقفَّالِ

فقالت سباكَ اللهُ إنَّكَ فاضحي … ألستَ ترَى السُّمارَ والنَّاسَ أحوالِي

فقلتُ يمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً … ولو قطعُوا رأسي لديكِ وأوصالِي

فلمَّا تنازعْنا الحديثَ وأسمحتْ … هصرتُ بغصنٍ ذي شماريخَ ميَّالِ

فصرنا إلى الحُسنى ورقَّ كلامُنا … ورضتُ فذلَّتْ صعبةً أيَّ إذلالِ

حلفتُ لها باللهِ حلفةَ فاجرٍ … لنامُوا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ

سموتُ إليها بعدَما نامَ أهلُها … سموَّ حبابِ الماءِ حالاً علَى حالِ

فأصبحتُ معشوقاً وأصبحَ بعلُها … عليهِ القَتامَ سيِّئَ الظَّنِّ والبالِ

أمَّا البيت الأول فهو نهاية لا يتهيَّأ مجاوزتها بل لا تتمكن مقاربتها لأنه ذكر أنَّه تخيَّل نارها من المدينة وهو بالشام فساقه الشَّوق إليها من أجل ذلك وقد بلغني أنَّ أعرابياً ذكر صاحبةً له فقال إنِّي لأذكرها وبيني وبينها عقبة طائرٍ وأجد من ذكرها ريح المسك ويقال أنَّ عقبة الطَّائر مئة فرسخ فهذا لعمري مقاربٌ لبيت امرئ القيس ولذلك عليه فضل السَّابق على المسبوق وفضل النَّظم على المنثور وفضل الطَّاعة لاشتياقه وانقياده معه إلى إلفه الَّذي شاقه غير أنَّه عقَّب ذلك بما عفَّ على حسنه ومحا موضع الفخر له به.

وقال الأحوص:

صاحِ هلْ أبصرتَ بالخبْ … تينِ مِنْ أسماءَ نارا

موهناً شُبَّتْ لعيني … كَ فلمْ توقدْ نهارَا

كَتَلالي البرقِ في العا … رضِ ذي المزنِ اسْتَطارا

أذكرَتْني الوصلَ مِنْ سُلْ … مَى وأيَّاماً قِصارا

لمْ تُثِبْ بالوصلِ سُلمَى … جارَها إذْ كانَ جارَا

عاشقاً أفنَى طوالَ الدَّ … هرِ خوفاً واستِتارا

وقال أيضاً:

رأيتُ لها ناراً تُشبُّ ودونَها … بواطنُ من ذِي رجرجٍ وظواهرُ

فخفَّضتُ قلبِي بعدَما قلتُ إنَّه … إلى نارِها مِنْ عاصفُ الشَّوقِ طائرُ

فقلتُ لعمرٍو تلكَ يا عمرُو دارها … تُشبُّ بها نارٌ فهلْ أنتَ ناظرُ

تقادمَ منِّي العهدُ حتَّى كأنَّني … تذكَّرتُها مِنْ طولِ ما مرَّ هاجرُ

وفي مثلِ ما جرَّبتُ منذُ صحبتَني … عذرتَ أيا يحيَى لَوَ انَّكَ عاذرُ

كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ … عَمٍ بنواحِي أمرِها وهوَ خابرُ

إذا قلتُ أنْساها وأخلقَ ذكرُها … تنثَّتْ بذكْراها همومٌ نوافرُ

وقال أيضاً:

أمنْ خُليدةَ وهناً شُبَّتِ النَّارُ … ودونَها مِنْ ظلامُ اللَّيلِ أستارُ

باتتْ تُشبُّ وبتْنا اللَّيلَ نرقبُها … تُعنَى قلوبٌ بها مرضَى وأبصارُ

يا حبَّذا تلكَ مِنْ نارٍ وموقدُها … وأهلُنا باللِّوى إذْ نحنُ أجوارُ

خُليدُ لا تبعدِي ما عنكِ إقصارُ … وإنْ بخلتِ وإنْ شطَّتْ بكِ الدَّارُ

فما أُبالي إذا أمسيتِ جارَتَنا … مقيمةً هلْ أقامَ النَّاسُ أمْ سارُوا

لو دبَّ حوليُّ ذَرٍّ تحتَ مدرعِها … أضحَى بها منْ دبيبِ الذَّرِّ آثارُ

وقال أيضاً:

يا موقدَ النَّارِ بالعلياءِ مِنْ إضَمِ … أوقدْ فقدْ هجتَ شوقاً غيرَ منصرمِ

يا موقدَ النَّارِ أوقدْها فإنَّ لها … سَناً يهيجُ فؤادَ العاشقِ السَّدمِ

نارٌ أضاءَ سناها إذْ تشبُّ لنا … سعديَّةً دلُّها يشفي منَ السَّقمِ

ولائمٍ لامَني فيها فقلتُ لهُ … قد شفَّ جسمي الَّذي ألقَى بها ودَمي

فما طربتَ لشجوٍ كنتَ تأملهُ … ولا تأمَّلتَ تلكَ الدَّارِ مِنْ أممِ

وقال آخر:

كأنَّ فؤادي في يدٍ علقتْ بهِ … محاذرةً أن يقضبَ الحبلَ قاضبهْ

وأُشفقُ مِنْ وشكِ الفراقِ وإنَّني … أظنُّ لمحمولٌ عليهِ فراكبهْ

نظرتُ ودونِي السُّحقُ مِنْ نخلِ بارقٍ … بنظرةِ سامِي الطَّرفِ حجنٍ مخالبهْ

لأُبصرَ ناراً بالجواءِ ودونَها … مسيرةُ شهرٍ لا يعرِّسُ راكبهْ

فواللهِ ما أدرِي أغالَبَني الهوَى … إلى أهلِ تلكَ الأرضِ أمْ أنا غالبهْ

فإنْ أستطعْ أغلِبْ وإنْ يغلبِ الهوَى … فمثلُ الَّذي لاقيتُ يُغلبُ صاحبهْ

وقال آخر:

أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ رائياً … أُميمةَ إنْ حاضرتُ أوْ كنتُ بادِيا

ولا مبصراً بالأجرعِ الفردِ نارَها … ولا ثانياً يُمنى يديْهَا وِسادِيا

ولا قائلاً تَقضي الدُّيونَ فإنَّها … ديونُ غريمٍ ما أساءَ التَّقاضيا

ولبعض أهل هذا العصر:

أرقتُ لنارٍ بالطُّليحةِ أُوقدتْ … تراءَتْ للحظِ العينِ ثمَّ تستَّرتْ

علتْ وخبتْ ثمَّ انجلتْ وتطاولتْ … علَى هضباتِ الرَّملِ ثمَّ تخفَّضتْ

فلمْ يخبُ شوقِي إذْ خبتْ بلْ تلهَّبتْ … صبابةُ قلبي بالهوى لمَّا تلهَّبتْ

وما ردَّ عنها الطَّرفَ بعدُ مكانِها … ولكنْ دموعُ العينِ لمَّا تهلَّلتْ

ذكرتُ بها الدَّهرَ الَّذي ليسَ عائداً … وما نُسيَتْ أيَّامهُ بلْ تُنُسِّيَتْ

فما أنصفتْ أذكتْ هوًى حينَ أُذكِيَتْ … ولمْ تُطفَ نيرانُ الهوَى حينَ أُطفئتْ

ذكروا أنَّ مجنون بني عامر رقد ليلةً تحت شجرةٍ فانتبه بتغريد طائرٍ فأنشأ:

لقدْ هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ … علَى فننٍ تدعُو وإنِّي لنائمُ

فقلتُ اعتذاراً عندَ ذاكَ وإنَّني … لنفسِي فيما قدْ رأيتُ للائمُ

أأزعمُ أنِّي عاشقٌ ذو صبابةٍ … بليلَى ولا أبكِي وتبكِي الحمائمُ

كذبتُ وبيتِ اللهِ لوْ كنتُ عاشقاً … لمَا سبقَني بالبكاءِ الحمائمُ

وقال شقيق بن سليك الأسدي:

ولمْ أبكِ حتَّى هيَّجتْني حمامةٌ … بعَبْنِ الحمامِ الوُرقِ فاستخرجتُ وجدِي

فقد هيَّجتْ منِّي حمامةُ أيكةٍ … منَ الوجدِ شوقاً كنتُ أكتمهُ جُهدِي

تُنادِي هُذيلاً فوقَ أخضرَ ناعمٍ … غذاهُ ربيعٌ باكرٌ في ثرًى جعدِ

فقلتُ تعالَيْ نبكِ مِنْ ذكرِ ما خَلا … ونذكرُ منهُ ما نُسرُّ وما نُبدِي

فإنْ تُسعدِيني نبكِ عبرتَنا معاً … وإلاَّ فإنَّي سوفَ أسفحُها وحدِي

وهذه حال ناقصة منها في المحبَّة من ليست له حال تبة جحدر الفقعسي حيث يقول:

وكنتُ قدِ اندملتُ فهاجَ شوقِي … بُكاءَ حمامتينِ تَجاوبانِ

تَجاوبَتَا بلحنٍ أعجميٍّ … علَى غُصنينِ مِنْ غرَبٍ وبانِ

افتراه إن سلا عمَّن يهواه لم يبق له في قلبه أثر من حبِّه ولا خاطر شارد من ذكره يعيد هواه على فكره فيعطف قلبه عليه إذ لم يستطع أن يردَّ وجده إليه حتَّى يكون نوح الحمام أقوى شيئاً في ردِّ قلبه إلى أحبابه مَن كان السبب في تعذيبه نوح الحمام كان السبب في تبعيده أضعف نوائب الأيَّام ولكنَّ أبا صخر الهذلي قال قولاً لا يهجَّن من ابتدعه ولا يقال على من انتخبه وهو:

وليسَ المعنَّى بالَّذي لا يهجنهُ … إلى الشَّوقِ إلاَّ الهاتفاتُ السَّواجعُ

ولا بالَّذي إنْ صدَّ يومَّ خليلهُ … يقولُ ويُبدي الصَّبرَ إنِّي لجازعُ

ولكنَّهُ سقمُ الجوَى ومطالهُ … وموتُ الجفا ثمَّ الشُّؤونُ الدَّوامعُ

رشَاشاً وتَهتاناً ووبلاً وديمةً … كذلك تُبدي ما تجنُّ الأضالعُ

وقال آخر:

ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدنَ عودةً … فإنِّي إلى أصواتكنَّ حزينُ

فعُدنَ فلمَّا عدنَ كدنَ يُمتنَنِي … وكدتُ بأسرارِي لهنَّ أُبينُ

ولمْ ترَ عيني قبلهنَّ حمائماً … بَكينَ ولمْ تدمعْ لهنَّ عيونُ

وقال آخر:

يا طائرينَ علَى غُصنٍ أنا لكُما … مِنْ أنصحِ النَّاسِ لا أبغِي بهِ ثمنَا

كونا إذا طرتُما زوجاً إخالكُما … لا تأمنانِ إذا أُفردتُما حزَنا

هذا أنا لا علَى غيري أدلُّكما … لاقيتُ جهداً بتركي الإلفَ والوطنا

وقال آخر:

ألا يا حمامَ الأيكِ إلفُكَ حاضرٌ … وعودكَ ميَّادٌ ففيمَ تنوحُ

أفقْ لا تنحْ من غيرِ شيءٍ فإنَّني … بكيتُ زماناً والفؤادُ صحيحُ

وقال آخر:

دعاني الهوَى والشَّوقُ لمَّا ترنَّمتْ … علَى الأيكِ من بينِ الغصونِ طروبُ

تُجاوبها وُرقُ يُرعْنَ لصوتها … وكلٌّ لكلٍّ مسعدٍ ومُجيبُ

ألا يا حمامَ الأيكِ ما لك باكياً … أفارقتَ إلفاً أمْ جفاكَ حبيبُ

وقال آخر:

أُلامُ علَى فيضِ الدُّموعِ وإنَّني … بفيضِ الدُّموعِ الجارياتِ جديرُ

أيبكي حمامُ الأيكِ من فقدِ إلفهِ … وأحبسُ دمعي إنَّني لصبورُ

وقال بعض الأعراب:

ألا قاتل الله الحماماتِ غُدوةً … علَى الفرعِ ماذا هيَّجتْ حينَ غنَّتِ

تغنَّتْ غناءً أعجميّاً فهيَّجتْ … هوايَ الَّذي كانت ضلوعي أجنَّتِ

نظرتُ بصحراءِ البريدَيْنِ نظرةً … حجازيَّةً لو جُنَّ طرفٌ لجنَّتِ

ولو هملتْ عينٌ دماً من صبابةٍ … إذاً هملتْ عيني دماً وأهمَّتِ

وقال ابن الدمينة:

ألا يا صَبا نجدٍ متى هجتِ من نجدِ … لقد زادني مسراكِ وجداً علَى جدِ

أإنْ هتفتْ ورقاءُ في رونقِ الضُّحى … علَى غصنٍ غضِّ النَّباتِ منَ الرَّندِ

بكيتَ كما يبكي الوليدُ ولم يكنْ … جليداً وأبديتَ الَّذي كنتَ لا تُبدي

وقال ناقد بن عطارد العبشمي:

ويثني الشَّوقَ حينَ أقولُ يخبو … بكاءُ حمامةٍ فيلجُّ حينا

مطوَّقةُ الجناحِ إذا استقلَّتْ … علَى فننٍ سمعتُ لها رنينا

يميلُ بها ويرفعُها مراراً … ويسعفُ صوتها قلباً حزينا

كأنَّ بنحرها والجيدِ منها … إذا ما أُمكنتْ للنَّاظرينا

مخطّاً كان من قلمٍ لطيفٍ … فخطَّ بجيدها والنَّحرِ نوتا

وقال نبهان العبشمي:

أحقّاً يا حمامةَ بطنِ قَوٍّ … بهذا الوجدِ أنَّكِ تصدُقينا

غلبتكِ يا حمامةَ بطنِ قوٍّ … وقبلكِ ما غلبتُ الهائمينا

غلبتكِ في البكاءِ بأنَّ ليلِي … أُواصلهُ وأنَّكِ تهجَعينا

وأنِّي أشتكِي فأُقولُ حقّاً … وأنَّكِ تشتكينَ فتكذِبينا

وأنَّكِ أجرأُ الأحياءِ طرّاً … علَى سفكِ الدِّماءِ وتسلَمينا

وقال أبو تمام الطائي:

أتَضعضعتْ عبراتُ عينكَ إذْ دعتْ … ورقاءُ حينَ تضعضعَ الإظلامُ

لا تنشِجنَّ لها فإنَّ بُكاءهَا … ضحكٌ وإنَّ بكاءكَ استغرامُ

هنَّ الحَمامُ فإنْ كسرتَ عَيافةً … مِنْ حائهِنَّ فإنَّهنَّ حِمامُ

وقال البحتري:

ما لخُضرٍ ينُحْنَ في القضُبِ الخُضْ … رِ علَى كلِّ صاحبٍ مفقودِ

عاطلاتٌ بلْ حالياتٌ يُردِّدْ … نَ الشَّجى في قلائدٍ وعقودِ

زِذْنَني صبوةً وذكَّرنني عهْ … داً قديماً مِنْ ناقضٍ للعهودِ

ما يريدُ الحَمامُ في كلِّ وادٍ … مِنْ عميدٍ صبٍّ بغيرِ عميدِ

كلَّما أُخمدتْ لهُ نارُ شوقٍ … هِجنَها بالبكاءِ والتغريدِ

وقال بعض الأعراب:

إلى اللهِ أشكو مقلةً أريحيَّةً … وقلباً متى يعرِض لهُ الشَّوقُ يرجفُ

ونفساً تمنَّى مخرجاً مِنْ وِعائها … إذا سمعتْ صوتَ الحمامةِ تهتفُ

وقال يزيد بن الطثرية:

وأسلمَني الباكونَ إلاَّ حمامةً … مطوَّقةً قدْ صانعتْ ما أُصانعُ

إذا نحنُ أنفدْنا الدُّموعَ عشيَّةً … فموعدُنا قرنٌ منَ الشَّمسِ طالعُ

وقال بعض الأدباء:

ناحتْ مطوَّقةٌ ببابِ الطَّاقِ … فجرتْ سوابقُ دمعكَ المهراقِ

حنَّتْ إلى أرضِ الحجازِ بحُرقةٍ … تُشجِي فؤادَ الهائمِ المشتاقِ

إنَّ الحمائمَ لم تزلْ بحنينَها … قِدماً تُبكِّي أعينَ العشَّاقِ

كانتْ تفرِّخُ بالأراكِ وربَّما … سكنتْ بنجدٍ في فروعِ السَّاقِ

فأتَى الفراقُ بها العراقَ فأصبحتْ … بعدَ الأراكِ تنوحُ في الأسواقِ

فتبعتُها لمَّا سمعتُ حنينَها … وعلَى الحمامةِ جُدتُ بالإطلاقِ

بي مثلُ ما بكِ يا حمامةُ فاسأَلِي … مَنْ فكَّ أسركِ أنْ يفكَّ وثاقِي

وقال بعض الأعراب:

صَدوحُ الضُّحى هيَّاجةُ اللَّحنِ لم تزلْ … قيودُ الهوَى تُهدَى لها وتقودُها

جزوعٌ جمودُ العينِ دائمةُ البُكا … وكيفَ بُكا ذي مقلةٍ وجمودُها

مطوَّقةٌ لمْ تُطربِ العينَ فضَّةٌ … عليها ولمْ يعطلْ منَ الحِليِ جيدُها

وقال آخر:

مطوَّقةٌ لا تفتحُ الفمَ بالَّذي … تقولُ وقدْ هاجتْ ليَ الشَّوقَ أجمَعا

تُؤلِّفُ أحزاناً تفرَّقنَ بالهوَى … إذا وافقتْ شعبَ الفؤادِ تصدَّعا

دعتْ ساقَ حرٍّ بالمراويحِ وانتحتْ … لها الرِّيحُ في وادٍ فراخٌ فأسرَعَا

وحقَّ لمصبوبِ الحشَا بيدِ الهوَى … إذا حنَّ باكٍ أن يحنَّ ويجزَعا

وقال آخر:

ألا هلَ إلى قمريَّةٍ في حمائمٍ … بنخلةَ أوْ بالمرجتينِ سَبيلُ

فتُلبسَني قمريَّةٌ مِنْ جناحِها … وذلكَ نيلٌ للمحبِّ قليلُ

مطوَّقةٌ طوقاً ترَى لفصوصِهِ … روائعَ ياقوتٍ لهنَّ فصولُ

وقال آخر:

رويدكَ يا قمريُّ لستُ بمضمرٍ … منَ الشَّوقِ إلاَّ دونَ ما أنا مُضمرُ

ليَكْفكَ أنَّ القلبَ منذُ تنكَّرتْ … أُمامةُ مِنْ معروفِها متنكِّرُ

سقَى اللهُ أيَّاماً خلتْ وليالِياً … فلم يبقَ إلاَّ عهدُها والتَّذكُّرُ

لئنْ كانتِ الدُّنيا عنتْنَا إساءةً … لمَا أحسنتْ في سالفِ الدَّهرِ أكثرُ

وقال بعض العقيليين:

لقدْ هاجَ لي شوقاً وما كنتُ سالياً … ولا كنتُ لو رُمتُ اصطباراً لأصبِرا

حمامةُ وادٍ هيَّجتْ بعدَ هجعةٍ … حمائمَ وُرقاً مُسعداً أوْ معذِّرا

كأنَّ حمامَ الوادِيينِ ودوْمةٍ … نوائحُ قامتْ إذا دجَى اللَّيلُ حسَّرا

محلاَّةُ طوقٍ ليسَ تخشَى انقضابهُ … إذا همَّ أن يهوِي تبدَّلَ آخرا

دعتْ فوقَ ساقٍ دعوةً وتناولتْ … بها صحرا علَى بديل لتحذَرَا

وإنَّ هذا لمن نفيس الكلام قد اشتمل على لفظ فصيح ومعنى صحيح ألا ترى إلى احترازه من أن يتوهَّم سامع كلامه أنَّ الحمام أعاد له الشوق بعد سلوته أو ردَّ عليه ما كان ذهب من صبوته ثمَّ ما عقَّب به بعد ذلك من الجزالة السَّهلة والرِّقَّة المستحسنة.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

وقبليَ أبكَى كلَّ مَنْ كانَ ذا هوًى … هتوفُ البواكِي والدِّيارُ البلاقعُ

وهنَّ علَى الأطلالِ مِنْ كلِّ جانبٍ … نوائحُ ما تخضلُّ منها المدامعُ

مزَبْرَجةُ الأعناقِ نمرٌ ظهورُها … مخطَّمةٌ بالدُّرِّ خضر روائعُ

ومِنْ قطعِ الياقوتِ صِيغتْ عقودُها … خواضبُ بالحنَّاءِ منها الأصابعُ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

وقدْ كدتُ يومَ الحزنِ لمَّا ترنَّمتْ … هتوفُ الضُّحى محزونةً بالتَّرنُّمِ

أموتُ لمبْكاها أسًى إنَّ لوعَتي … ووجدِي بسُعْدَى قاتلٌ لي فاعلمِ

فلوْ قبلَ مبْكَاها بكيتُ صبابةً … بسُعدَى شَفيتُ النَّفسَ قبلَ التَّندُّمِ

ولكنْ بكتْ قبلِي فهيَّجَ لي البُكا … هواها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمُ

وقال حميد بن ثور:

وما هاجَ هذا الشَّوقُ إلاَّ حمامةٌ … دعتْ ساقَ حرٍّ نوحةً وترنُّما

بكتْ شجوَ ثكلَى قدْ أُصيبَ حميمُها … مخافةَ بينٍ يتركُ الحبلَ أجذَما

فلمْ أرَ مثلي شاقهُ صوتُ مثلِها … ولا عربيّاً شاقهُ صوتُ أعجَمَا

وقال آخر:

يهيجُ عليَّ الشَّوقَ نوْحُ حمامةٍ … دعتْ شجوها في إثر إلفٍ تشوُّقا

دعتْ فبكتْ عينا محبٍّ لصوتِها … وفاضَ لها ماءُ الهوَى فترقرقا

يلذُّ بها الرَّائي جناحاً مولَّجاً … ومتْناً سماويّاً من اللَّونِ أزرقا

خفضتُ إليها القلبَ حتَّى تشرَّبتْ … حلاوتَها أحشاؤهُ فتشوَّقا

أقولُ لها نوحي أُعنْكِ ولم أكنْ … لأُسعدَ بالأمسِ الحمامَ المطوَّقا

ولبعض أهل هذا العصر:

أرى نوحُ الحمامِ يشوقُ قوماً … وفي نوحِ الحمائمِ لي عزاءُ

إذا بكتِ الحمائمُ وهيَ وحشٌ … وأزعجها التفرُّقُ والجفاءُ

فما جزعَ الأنيسِ منَ التَّصابي … إذا امتنعَ التَّزاوُرَ واللِّقاءُ

سبيل كلّ مشغوف بشيء ما كان أن يحذر عليه ما دام في قبضته ويرجو رجوعه إذا خرج عن يده فالمحبُّ ما دام مقيماً مع محبوبه فخواطره موقوفةٌ على الحذر عليه من الزوال وفكره مرتهنةٌ بالخوف من تغيّر الحال فإذا فارق محبوبه وافتقد مطلوبه اشتغلت خواطره بتأميل أوبته كاشتغالها بمحاذرة فرقته إذ هو غير خال من الأحوال فتراه حينئذ يتيامن بالسَّوانح حسب تشاؤمه بالبوارح وقد قالت الشعراء في كلّ ذلك ونحن إن شاء الله نذكر من أقاويلهم حسب ما يحتمله الباب إذ كنَّا غير متجاوزين لما شرطناه في صدر الكتاب.

قال عبد الله بن قيس الرقيات:

بشَّرَ الظَّبيُ والغرابُ بسُعدى … مرحباً بالذي يقولُ الغرابُ

قالَ لي إنَّ خيرَ سُعدى قريبٌ … قدْ أنى أنْ يكونَ منهُ اقترابُ

قلتُ أنَّى تكونُ سعدى قريباً … وعليها الحصونُ والأبوابُ

حبَّذا الرِّيمُ والوشاحانِ والقصْ … رُ الَّذي لا تنالهُ الأسبابُ

فعسى أنْ يُؤتِّىَ الله أمراً … ليسَ في غيِّهِ علينا ارتقابُ

وقال آخر:

نعبَ الغرابُ برؤيةِ الأحبابِ … فلذاكَ صرتُ أليفَ كلِّ غرابِ

لا شُكَّ ريشكَ إذْ نعبْتَ بقربهمْ … وسقيتَ مُزنَ صبيبِ كلِّ سحابِ

وسكنتَ بينَ حدائقٍ في جنَّةٍ … محفوفةٍ بالنَّخلِ والأعنابِ

وقال الراعي:

جرى يومُ رُحنا عامدينَ لأهلِها … عُقابٌ فقالَ القومُ مرَّ سنيحُ

وكرَّ رجالٌ منهمُ وتراجعوا … فقلتُ لهمْ طيرٌ إليَّ بريحُ

عقابٌ بأعقابٍ من الدَّارِ بعدما … مضتْ نيَّةٌ تُقصي المحبَّ طروحُ

وقالوا نراهُ هُدهداً فوقَ بانةٍ … هدًى وبيانٌ والطَّريقُ تلوحُ

وقالوا دمَ دامتْ مودَّةٌ بيننا … ودامَ لنا صفوٌ صفاهُ صريحُ

وقال جران العود:

جرى يومَ جئنا بالجِمالِ نزفُّها … عقابٌ وشحَّاجٌ من البينِ يبرحُ

فأمَّا العقابُ فهو منها عقوبةٌ … وأمَّا الغرابُ فالغريبُ المطرَّحُ

أفلا ترى إلى تقارب ما بين هذين التَّأويلين الرَّاعي لأنه كان مفارقاً لأحبابه وجرى العقاب بالأعقاب من الدَّار ورجوع الحال إلى ما يهوى لضعف المخاوف من المفارق وقوَّة الآمال وهذا لأنه كان مقيماً مع أحبَّته وجرى العقاب بالعقوبة من صاحبته فهذا كلُّه شاهدٌ لما قد ذكرناه.

وقال جحدر الفقعسي:

تغنَّى الطَّائرانِ ببينِ سُعدى … علَى غُصْنينِ من غربٍ وبانِ

فقلتُ لصاحبيَّ وكنتُ أحرى … بزجرِ الطَّيرِ ماذا تُخبرانِ

فقالا الدَّارُ جامعةٌ بسُعدى … فقلتُ بَلَ انْتُما مُتمنِّيانِ

وكانَ البانُ أنْ بانتْ سُليمى … وفي الغربِ اغترابٌ غيرُ داني

إذا جاوزتُما سُعفاتِ حجْرٍ … وأكنافَ اليمامةِ فانعياني

وقال آخر:

رأيتُ غُراباً واقعاً فوقَ بانةٍ … يُشرشرُ أعلى ريشهِ ويُطائرُهْ

فقلتُ لوَ انِّي لو أشارَ زجرتهُ … بنفسيَ للنَّهديِّ هلْ أنتَ زاجرُهْ

فقالَ غُرابٌ باغترابٍ من النَّوى … وفي البانِ بينٌ من حبيبٍ تُجاورُهْ

فما أعْيفَ النَّهديَّ لا درَّ درُّهُ … وأزجرَهُ للطَّيرِ لا عزَّ ناصرهْ

وقال عروة بن حزام:

ألا يا غُرابيْ دمنةِ الدَّارِ بيِّنا … أبالصَّرمِ من عفراءَ تنتحبانِ

فإنْ كانَ حقّاً ما تقولانِ فانهضا … بلحمي إلى وكْرَيكما فكُلاني

ولا يدرينَّ النَّاسُ ما كانَ ميتتي … ولا يأكُلنَّ الطَّيرُ ما تذرانِ

فعفراءُ أصفى النَّاسِ عندي مودَّةً … وعفراءُ عنِّي المُعرضُ المُتواني

وقال قيس بن ذريح:

ألا يا غرابَ البينِ قد طرتَ بالذي … أُحاذرُ من لُبنى فهل أنتَ واقعُ

أتبكي علَى لُبنى وأنتَ تركتَها … فقد ذهبتْ لُبنى فما أنتَ صانع

وطارَ غرابُ البينِ وانشقَّتِ العصا … بلُبنى كما شقَّ الأديمَ الصَّوانعُ

وقال آخر:

ألا يا غرابَيْ دارِ أسماءَ بشِّرا … بخيرٍ وطيرا بعدنا اليومَ أوقَعا

فقدْ كنتُما واللهِ حينَ نعبْتُما … كداعٍ دعا بالبينِ عُدوى فأسمعا

ولا وجْدَ إلاَّ دونَ وجدٍ وجدْتُهُ … غدا إذْ وجدنا عرصةَ الدَّارِ بلقعا

وقال آخر:

جرى نازحٌ من آلِ زينبَ عُدوةً … أمامَ المطايا أعورُ العينِ أعصبُ

وأسحمُ شحَّاجٌ علَى غصنِ بانةٍ … مُقدَّدُ أطرافِ الجناحيْنِ بنعبُ

فلا طارَ إلاَّ في النواهضِ بعدها … غُرابٌ وباتَ الطَّيرُ في الحبلِ يضربُ

وقال الضحاك الخفاجي:

ألا يزجرُ الأُلاَّفُ والنَّاشطُ الفردا … بلى باللِّوى بُعداً لهُ إذْ جرى بُعدا

جرى بانحلال الشَّوقِ في داخلِ الحشا … ومُستعجمٍ لا يستطيعُ لهُ ردَّا

وقال ثوابة بن زيات الأسدي:

ألا يا غُرابَيْ بينِ ظمياءَ طالما … تعرَّضتُما لي تنزعانِ شجاكُما

فيا لكما من طائرَيْنِ شجيتُما … بشحطِ النَّوى حتَّى يطولَ جواكُما

وقال عدي بن زيد:

دعا صُرَدٌ يوماً علَى عودِ شوْحطٍ … وصاحَ بذاتِ البينِ منها غُرابُها

فقلتُ أتصْريداً وشحطاً وغرْبةً … وبيناً فهذا بينُها واغترابُها

وقال قيس بن ذريح:

ألا يا غُرابَ البينِ لونكَ شاحبٌ … وأنتَ بلوْعاتِ الفراقِ جديرُ

فإنْ كانَ حقّاً ما تقولُ فأصبحتْ … همومُكَ شتَّى بثُّهنَّ كثيرُ

ودرتَ بأعْداءٍ حبيبُكَ فيهمِ … كما قد تراني بالعدوِّ أدورُ

وقال جميل بن معمر:

ألا يا غرابَ البينِ فيمَ تصيحُ … فصوتُكَ مشْنيٌّ إليِّ قبيحُ

وكلُّ غداةٍ لا أبا لكَ تنتحي … إليَّ فتلقاني وأنتَ مُشيحُ

تحدِّثني أنْ لستُ لاقيَ نعمةٍ … بعُدتَ ولا أمسى لديكَ نصيحُ

فإنْ لم تهجني ذاتَ يومٍ فإنَّهُ … سيكفيكَ ورقاءُ السَّراةِ صدوحُ

وقال أبو ذؤيب الهذلي:

أبالصَّرمِ من أسماءَ خبَّركَ الَّذي … جرى بيننا يومَ استقلَّتْ ركابُها

زجرتُ لها طيرَ الشِّمالِ فإنْ تصبْ … هواكَ الَّذي تهوى يصبكَ اجتنابُها

عصاني إليها القلبُ أنِّي لأمرهِ … سميعٌ فما أدري أرُشدٌ طلابُها

فقلتُ لقلبي يا لكَ الخيرُ إنَّما … يُدلِّيكَ للموتِ الصَّريحِ اجتنابُها

وقال جرير:

بانَ الخليطُ برامتيْنِ فودَّعوا … أوَ كلَّما رفعوا لبينٍ تجزعُ

أنَّ الشَّواحجَ بالضُّحى هيَّجنني … في دارِ زينبَ والحمامُ الوُقَّعُ

نعبَ الغرابُ فقلتُ بينٌ عاجلٌ … وجرى بهِ الصُّرَدُ الغداةَ الألمعُ

وقال آخر:

ألا يا غرابَ البينِ ما لكَ كلَّما … ذكرتُ لُبيْنى طرتَ لي عن شماليا

أعندكَ علمُ الغيبِ أمْ أنتَ مخبري … بحقٍّ عنِ الأمرِ الَّذي قد بداليا

فلا حملتْ رجلاكَ عشّاً لبيضةٍ … ولا زالَ ريشٌ من جناحكَ باليا

وقال بعض الأعراب:

ألا يا غرابَ البينِ هلْ أنتَ بائعي … جناحيْكَ أمْ مُستبدلاً بهما بُرْدي

فما زلتُ أبكي عندهُ وأبثُّهُ … من الشَّوقِ حتَّى جاءني فبكا عندي

وقال آخر:

كذبتَ غرابَ البينِ ما أنتَ واجدٌ … بإلفٍ وما شوقي وشوقُكَ واحدُ

زعمتَ لحاكَ اللهُ أنَّكَ مدنفٌ … فهلْ لكَ في دعواكَ ويحَكَ شاهدُ

يُترجمُ ما يُخفي المحبُّ دموعهُ … ودمعيَ مُنصبٌّ ودمعكَ جامدُ

فكيفَ هوانا واحداً وفصاحتي … تصرِّحُ عن وجدي ولفظكَ جاحدُ

وقال آخر:

فأوَّلُ طيرٍ حينَ رُحنا عشيَّةً … جنوبٌ أُصيلاناً وقدْ جنحَ العصرُ

فقلتُ جَنوبٌ باجتنابكَ أهلَها … ونفحُ الصَّبا تلكَ الصَّبابةُ والهجرُ

وقالَ غُرابٌ باغترابٍ من النَّوى … وقطعِ القُوى تلكَ العيافةُ والزَّجرُ

وقال المرقش السدوسي:

ولقدْ غدوتُ وكنتُ لا … أغدو علَى واقٍ وحاتمْ

فإذا الأشائمُ كالأيا … مِنِ والأيامنُ كالأشائمْ

وكذاكَ لا خيرٌ ولا … شرٌّ علَى أحدٍ بدائمْ

وقال الحارث بن سمر الحنفي:

ولستُ بمُشفقٍ من ضُرِّ نجمٍ … ولا أرجو المنافعَ في النُّجومِ

وما نعبَ الغرابُ لنا بيُمنٍ … وما نعبَ الغرابُ لنا بشومِ

ولكنْ ما أرادَ الله أمضى … كذلك قدرةُ الرَّؤوفِ الرَّحيمِ

ولبعض أهل هذا العصر:

أيا قلبُ لا تجزعْ منَ البينِ واصطبرْ … فلستَ لما يُقضى عليكَ بدافعِ

توكَّلْ علَى الرَّحمانِ إنْ كنتَ مؤمناً … يُجرْكَ ودعني من نحوسِ الطَّوالعِ

فكلُّ الَّذي قد قدَّرَ اللهُ واقعٌ … وما لم يقدِّرْهُ فليسَ بواقعِ

وقال جهم بن عبد الرحمن الأسدي:

ألمْ ترَ أنَّ العائفَيْنِ ولو حوتْ … لكَ الطَّيرُ عمَّا في غدٍ عميانِ

يظنَّانِ ظنّاً مرَّةً يُخطئانهِ … وأخرى علَى بعض الَّذي يصفانِ

قضى اللهُ ألاَّ يعلمَ الغيبَ غيرهُ … ففي أيِّ أمرِ اللهِ تمتريانِ

وقال عروة بن الورد:

تقولُ سُليمى لو أقمتَ بسرِّنا … ولم تدرِ أنِّي للمُقامِ أُطوِّفُ

أرى أمَّ حسَّانَ الغداةَ تلومُني … تخوِّفُني الأقدارُ واللهُ أخوفُ

لعلَّ الَّذي خوَّفتنا من أمامنا … يصادفهُ من أهلِنا المتخوَّفُ

وقال الكميت:

وما أنا ممَّنْ يزجرُ الطَّيرَ همُّهُ … أصاحَ غرابٌ أمْ تعرَّضَ ثعلبُ

ولا السَّانحاتُ البارحاتُ عشيَّةً … أمرَّ سليمُ القلبِ أمْ مرَّ أعضبُ

وقال مجنون بني عامر:

ألا يا غراباً صاحَ من نحوِ أرضِها … أفقْ لا أفقتُ الدَّهرَ من صيحانِ

ولا كنتَ من ريبِ الحوادثِ سالماً … جناحاكَ إنْ أزمعتَ بالطَّيرانِ

وقال آخر:

أمِنْ أجلِ غربانٍ تصايحْنَ غُدوةً … ببينِ حبيبٍ ماءُ عينيْكَ يسفحُ

ألا يا غرابَ البينِ لا صحتَ بعدها … وأمكنَ من أوداجِ خلفكَ مذبحُ

وقال آخر:

كأنِّي غداةَ البينِ إذْ صاحَ شاحجٌ … من الطَّيرِ مشنيُّ الصِّياحِ لعينُ

سليمٌ رماهُ الحزنُ أمَّا نهارهُ … فغشْيٌ وأمَّا ليلهُ فأنينُ

وقال آخر:

يا طائرَيْ بينِ سُعدى لو أبثُّكما … نجيَّ نفسي وحاجاتي وأسراري

لمْ تفجعاني ببينٍ تنبعانِ بهِ … ولمْ تُحقَّا بهِ وجدي واحذاري

وقال آخر:

وكادَ غداةَ سارَ الحيُّ يُبدي … ضميرَ القلبِ تشحاجُ الغرابِ

غدا بي شامتاً وغدوتُ صبّاً … يُريني ما بهِ وأُريهِ ما بي

يضاحكُني فيضحكُ حينَ أبكي … كذلكَ دابهُ أبداً ودابي

فلوْ أنَّ الغرابَ يرقُّ يوماً … لرقَّ لطولِ وجدي واكتئابي

لعلَّ الدَّهرَ يقلبُ حالتيهِ … فإنَّ الدَّهرَ حولٌ ذو انقلابِ

فيقلقَهُ اشتياقٌ وارتياحٌ … ويوحشَهُ اغترابٌ كاغترابي

قال مرة بن عقيل:

لَعمري لقدْ هاجتْ عليَّ حمامةٌ … قُلوصَ العباديينَ ليلةَ حلَّتِ

تعدَّتْ لها واللَّيلُ مُلقٍ رِواقهُ … فجاوبْنَها حتَّى مللنَ وملَّتِ

وقال تميم بن كميل الأسدي:

يحنُّ قعودي بعدما كمُلَ السُّرى … بنخلةَ والضُّمرُ الحراجيجُ ضُمَّرُ

يحنُّ إلى وردِ الحشاشةِ بعدما … ترامى بهِ خرقٌ من البيدِ أغبرُ

وباتَ يجوبُ البيدَ واللَّيلُ مائلٌ … يثنَّى لتعريسٍ يحنُّ وأزفرُ

وبي مثلُ ما يلقى منَ الشَّوقِ والهوَى … علَى أنَّني أُخفي الَّذي بي وأُظهرُ

فقلتُ لهُ لمَّا رأيتُ الَّذي بهِ … كلانا إلى وردِ الحشاشةِ أصورُ

فليتَ الَّذي ينسى تذكُّرَ إلفهِ … وسرباً بأحواضِ الحشاشةِ يُنحرُ

وقال أيضاً:

يحنُّ قعودي ذو الحياطِ صبابةً … بمكَّةَ وهناً من تذكُّرهِ نجدا

تذكَّرَ نجداً موهناً بعدما انطوتْ … ثميلتهُ وازدادَ عن إلفهِ بُعدا

تذكَّرَ نجداً حادياً بعدَ قادمٍ … ولا يلبثُ الشَّوقانِ أن يصدعا الكِبدا

فقلتُ لهُ قد هجتَ بي شاعفَ الهوَى … أصابَ حمامُ الموتِ أضعفنا وجدا

وقال آخر:

أيضربُ جوْنٌ أنْ تحنَّ غريبةٌ … وما ذنبُ جونٍ أن تحنَّ الأباعرُ

يقولونَ لا تنظرْ وتلكَ بليَّةٌ … بلى كلُّ ذي عينينِ لا بدَّ ناظرُ

وقال آخر:

باتتْ تشوِّقُني برجعِ حنينها … وأزيدها شوقاً برجعِ حنيني

نِضْويْنِ مُقترنيْنِ بينَ تِهامةٍ … طويا الضُّلوعَ علَى جوًى مكنونِ

لو خبَّرتْ عنِّي القَلوصُ لخبَّرتْ … عن مُستقرِّ صبابةِ المحزونِ

وقال عروة بن حزام:

هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوَى … وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ

فلو تركتْني ناقتي من حنينها … وما بيَ من وجدٍ إذنْ لكفاني

فإن تحملي شوقي وشوقكِ تُثْقلي … وما لكِ بالحِملِ الثَّقيلِ يدانِ

وقال آخر:

تحنُّ قلوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى … بعينيَّ أنِّي لستُ موردَها نجدا

ولا وارداً أمواهَ أجْبِلةِ الحمى … وإنْ زهقَتْ نفسي علَى وردِها جُهدا

وقال النجاشي:

رأتْ ناقتي ماءَ الفراتِ وذوقهُ … أمرُّ منَ السُّمِّ الذُّعافِ وأمقرا

وريعَتْ منَ العاقولِ لمَّا رأتْ بهِ … صياحَ النَّبيطِ والسَّفينِ المقيَّرا

وحنَّتْ حنيناً موجعاً هيَّجتْ به … فؤاداً إلى أنْ يدركَ الرَّبْوَ أصورا

فقلتُ لها بعضَ الحنينِ فإنَّ بي … كوجدكِ إلاَّ إنَّني كنتُ أصبرا

وقال آخر:

حنَّتْ وما عقلتْ فكيفَ إذا بكى … شوقاً يُلامُ علَى البُكا منْ يعقِلُ

ذكرتْ قُرى نجدٍ فأقلقها الهوَى … وقُرى العراقِ وليْلهُنَّ الأطولُ

وكأنَّما يُجنى لها ولركبها … بنطافِ دجلةَ والفراتِ الحنظلُ

وتمرُّ من لُججِ السَّرابِ موارقاً … والخرقُ أغبرُ والقتامُ مجلِّلُ

فغدتْ وأيدي الصُّبحِ تلمعُ في الدُّجى … كالبيضِ تُغمدُ تارةً وتُسلَّلُ

وقال جرير:

أرى ناقتي تشكو طروقاً وشاقها … وميضٌ إلى ذاتِ السَّلاسلِ لامعُ

فقلتُ لها حنِّي رُويداً فإنَّني … إلى أهلِ نجدٍ من تهامةَ نازعُ

فلمَّا رأتْ أنْ لا قُفولَ وإنَّما … لها من هواها ما تجنُّ الأضالعُ

تمطَّتْ لمجدولٍ طويلٍ فطالعتْ … وماذا منَ البرقِ اليماني تُطالعُ

وقال آخر:

وحنَّتْ قَلوصي آخرَ اللَّيلِ حنَّةً … فيا روعةً ما راعَ قلبي حنينُها

سعتْ في عقالَيْها ولاحَ لعيْنها … سنا بارقٍ وهناً فجنُّ جنونُها

فما برحتْ حتَّى ارعوينا لصوْتِها … وحتَّى انبرى منَّا المعينُ يعينُها

تحنُّ إلى أهلِ الحجازِ صبابةً … وقدْ بُتَّ من أهلِ الحجازِ قرينُها

فيا ربِّ أطلقْ قيدها وجريرها … فقدْ راعني بالمسجدَيْنِ حنينها

وقال آخر:

أزادَ اللهُ نقيكِ في السُّلامى … علَى منْ بالحنينِ تُعوِّلينا

فلستِ وإن حننْتِ أشدَّ وجداً … ولكنِّي أُسرُّ وتُعلنينا

وبي مثلُ الَّذي بكِ غيرَ أنِّي … أُجلُّ عنِ العقالِ وتُعقلينا

وقالت امرأة من دارم:

ألا أيُّها البِكرُ الأنانيُّ إنَّني … وإيَّاكَ في كلبٍ لمُغتريانِ

تحنُّ وأبكي إنَّ ذا لبليَّةٌ … وإنَّا علَى البلوى لمصطلحانِ

فمن يكُ لمْ يغرضْ فإنِّي وناقتي … جميعاً إلى أهلِ الحِمى غرضانِ

تحنُّ فتُبدي ما بها من صبابةٍ … وأُخفي الَّذي لولا المُنى لعصاني

وقال آخر:

كتموا غداةَ البينِ رحلتهُمْ … فعرفتُها بخواطرِ القلبِ

فتبعتهُمْ وظننْتُ أنْ بعُدوا … وإذا همُ منَّا علَى قُربِ

ما زالَ هادي الشَّوقِ يُرشدني … حتَّى لحقْتُ بأوَّلِ الرَّكبِ

ظلَّتْ مطاياهُمْ تُلاحظنا … ودموعُها سكْباً علَى سكبِ

أتخالُها عشقَتْ فهنَّ إذاً … شركاؤُنا وأبيكَ في الحبِّ

وقال الأحوص:

تذكَّرَ سُلمى بعدما حالَ دونها … منَ النَّأيِ ما يُسلي فهلْ أنتَ صابرُ

فأنتَ إلى سُلمى تحنُّ صبابةً … كما حنَّ أُلاَّفُ المطيِّ السَّواجرُ

وما كنتُ أدري قبلها أنَّ ذا الهوَى … يزيدُ اشتياقاً أنْ تحنَّ الأباعرُ

ألا حبَّذا سُلمى الفؤادُ وحبَّذا … زيارتُها لو يُستطاعُ التَّزاورُ

لقدْ بخلَتْ بالودِّ حتَّى كأنَّها … خليلُ صفاءٍ غيَّبتْهُ المقابرُ

فإنْ أكُ قد ودَّعتُها وهجرتُها … فما عن تقالٍ كانَ ذاكَ التَّهاجرُ

ألا ليتَ أنَّا لم نكنْ قبلُ جيرةً … جميعاً ألا ليتَ دامَ التَّجاورُ

سيُلقى لها في الصَّدرِ من مُضمرِ الحشا … سريرةُ ودٍّ يومَ تُبلى السَّرائرُ

وقد قالت الشُّعراء أيضاً في تفضيل ما بين حنينهِم وحنين الإبل في تشاؤمهم بها وتطيُّرهم منها أشعاراً كثيرةً فممَّا ذكروه في وصف حنينهم وحنينها.

قول ثعلبة بن أوس الكلابي:

وما عودٌ يحنُّ ببطنِ نجدٍ … مُغالى الشَّوقِ مُضطمرٌ قليلا

إلى وادٍ تذكَّرَ عُدوتَيْهِ … أسنَّ بهِ وكانَ بهِ فصيلا

فبدِّلَ مشرباً من ذاكَ ملحاً … وظِمأً بعدَ قصرتهِ طويلا

يحنُّ إلى الجنائبِ هيَّجتْهُ … ضُحيّاً أوْ هببْنَ له أصيلا

بأكثرَ غُلَّةً منِّي وجهداً … علَى إضماريَ الهجرَ الطَّويلا

وقال أيضاً:

وما ذو شُقَّةٍ يقضي حنيناً … بنجدٍ كان مُغترباً مَريعا

يمارسُ راعياً لا لينَ فيهِ … وقيداً قدْ أضرَّ بهِ وجيعا

إذا ما البرقُ لاحَ لهُ سناهُ … حجازيّاً سمعتَ لهُ سجيعا

وأنشدني أعرابي بالبادية:

خليليَّ جَمْجمتُ الهوَى وكتمتهُ … زماناً فقدْ أضحى بجسميَ باديا

كما جمجمَتْ وجناءُ قد طالَ حبسُها … وأكثرَ فيها النَّاظرونَ التَّماديا

فلمَّا استبانوا ما بها جعلوا لها … سوى مربعِ الأُلاَّفِ قيداً وراعيا

وقال آخر:

لَعمركَ ما خوصُ العيونِ شوارقٌ … روائمُ أظْآرٌ عطفنَ علَى سقْبِ

يُغذِّينهُ لو يستطعْنَ ارتشَفْنهُ … إذا استفْنَهُ يزددْنَ نكباً علَى نكبِ

بأوجدَ منِّي يومَ ولَّتْ حمولهُمْ … وقد طلعَتْ أولى الرِّكابِ منَ النَّقْبِ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

متى تظعني يا ميُّ من دارِ جِبرتي … أمُتْ والهوَى برحٌ علَى منْ يطالبُهْ

أكنْ مثلَ ذي الأُلاَّفِ شُدَّ وظيفهُ … إلى يدهِ الأخرى وولَّى صواحبُهْ

تباريْنَ أظلافاً وقاربَ خطْوهُ … عنِ الذَّودِ تفنيداً وهنَّ حبائبُهْ

إذا حنَّ لم يُسمعْ رجيعُ حنينهِ … فلا القيدُ مُنحلٌّ ولا هو قاضبُهْ

وقال عروة بن أذينة:

وتفرَّقوا بعدَ الجميعِ لِنيَّةٍ … لا بدَّ أن يتفرَّقَ الجيرانُ

لا تصبرُ الإبلُ الجِلادُ تفرَّقتْ … حتَّى تحنَّ ويصبرُ الإنسانُ

ومما ذكروا في التطيّر منها والكراهية لها قول عوف الراهب:

غلطَ الذينَ رأيتهمْ بجهالةٍ … يلحوْنَ كلُّهمُ غُراباً ينعقُ

ما الذَّنبُ إلاَّ للأباعرِ أنَّها … مما يُشتُّ جميعهمْ ويفرِّقُ

إنَّ الغرابَ بيُمنهِ تُدني النَّوى … وتشتُّ بالشَّملِ الشَّتيتِ الأينقُ

وقال أبو الشيص في مثل ذلك:

ما فرَّقَ الأحبابَ بعْ … دَ اللهِ إلاَّ الإبلُ

والنَّاسُ يلحوْنَ غُرا … بَ البينِ لمَّا جهلوا

وما علَى ظهرِ غُرا … بِ البينِ تُمطى الرُّحلُ

ولا إذا صاحَ في ال … دِّيارِ احتملوا

وما غُرابُ البينِ إلاَّ … ناقةٌ أوْ جملُ

وقال آخر:

ما المنايا إلاَّ المطايا وما فرَّ … قَ شيءٌ تفريقَها الأحبابا

ظلَّ حاديهمُ يسوقُ بقلبي … ويرى أنَّهُ يسوقُ الرِّكابا

ولبعض أهل هذا العصر:

ولمَّا أتوْنا بالمطايا وقرَّبوا … محاملَ لمْ تُشددْ عليها قيودُها

تيمَّمْتكُمْ عمداً لأحظى بلحظةٍ … لعلِّي إن فارقتكُمْ لا أُعيدُها

فلمْ أنسَ إذْ قيَّدتُ رحلَ مطيَّتي … وقلتُ لحادي الذَّودِ لم لا تقودُها

كأنَّكَ لمْ تعلمْ بأن ربَّ لحظةٍ … تفوتُكَ لا تدري متى تستفيدها

فلو لمْ تكنْ تهوى الفراقَ نحرْتَها … ولم تلتمسْ عمداً لها من يقودُها

فيا عجبا منِّي ومن صبرِ مُهجتي … عليَّ وقدْ أعيَتْ علَى من يكيدُها

أضنُّ بها عمَّنْ يرى المُلكَ دونها … وأبذلُها طوعاً لمن لا يريدُها

قد تقدَّم قولنا في عيب من خلَّف خليله أوْ تخلَّف عنه في وقته أوْ عن اللُّحوق به على حسب طاقته ثمَّ وكَّدنا عيب من لم يرض حتَّى أقرَّ بأنَّ المشوِّق له إلى إلفه عارضٌ غير متمكِّنٍ له من نفسه وأصحاب هذا الباب الَّذي نحن في أوَّله يلحقهم ذلك العيب كلُّه ويزدادون معه لوماً على مسامحتهم أنفسهم في التَّلذُّذ برقادهم وأخلاَّؤهم ظاعنون عن بلادهم ومن الصُّوفيَّة من لا يقنع لهم بما ألحقناه من العيب بهم حتَّى يقولوا إنَّ النَّوم لو كان مانعاً لهم لكان تخصيصهم إيَّاه بأنَّه يريهم أحبَّتهم نقصاً بيِّناً في مودَّتهم فإنَّ الحال إذا تمكَّنت لم تفترق الرُّوحان وإن افترق الشَّخصان فالمحبُّ المشاهد لصاحبه على كلِّ حالٍ مستغنٍ عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال ومن طرائف ما قيل في الخيال وأدلّه على ضعف قائله في الحال.

قول ذي الرمة:

فيا ميُّ هلْ يُجزى بُكائي بمثلهِ … مراراً وأنفاسي عليكِ الزَّوافرُ

وإنْ لامني يا ميُّ من دونَ صُحبتي … لكِ الدَّهرَ من أُحدوثةِ النَّفسِ ذاكرُ

وأنْ لا ينالَ الرَّكبُ يا ميُّ وقفةً … منَ اللَّيلِ إلاَّ اعتادني لكِ زائرُ

فهذا أحسن الله جزاءه لم يرض بالعيب الَّذي ذكرناه حتَّى طالب محبوبه بأن يجازيه على تخييله إيَّاه في منامه ثمَّ لم يقنعه أن يجازى بمثل بكائه مراراً فأما اعتذاره بأنه لا يرقد إلاَّ اعتاده منها زائرٌ فقد يتهيَّأ أن يخفَّف جرمه فيه فضربٌ من المعاذر فيقال إنَّه إنَّما عنى أنَّه لا ينفكُّ خاطره من ذكرها فإذا رقد رأى خيالها بقلبه لشدَّة غلبته في حال اليقظة على فكره وأما ما ذكره سوى ذلك من المحالات فإنَّه ينبو عن مراتب الاعتذارات وقد قال قيس بن الملوَّح ما إن لم يكن موفياً على حدِّ الكمال فإنَّه إلى الجليلة من الأحوال وهو:

وإنِّي لأستسقي وما بيَ عطشةٌ … لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خياليا

وأخرجُ من بينِ الجلوسِ لعلَّني … أُحدِّثُ نفسي عنك في السرِّ خاليا

فهذا البائس إذاً تناعس وليس بناعسٍ ليتعلَّل بخيالها إذا فاته ما يؤمِّله من وصالها فنحن نشهد له بالتَّمام في هذه الحال ولا ندري ما الَّذي يوجب له الغيبة عن إلفه حتَّى اضطرَّه إلى التَّعلُّل بطيفه فنعلم أين منه ذلك تماماً أم يوجب عليه ملاماً.

وما قصّر أيضاً الحسين بن وهب حيث يقول:

أرَقتُ وكيفَ لي بالنَّومِ كيفا … فألقى من حبيبِ النَّفسِ طيْفا

أقولُ لها متى وتقولُ حتَّى … وتمطُلني الهوَى بنعمْ وسوْفا

ولولا فرطُ إشفاقي عليها … غدوْتُ محكَّماً وشهرْتُ سيْفا

ولكنِّي إذا فكَّرتُ فيها … نهتْني النَّفسُ إشفاقاً وخوفا

ومن مليح ما يدخل في هذا الباب وإن كان مشهوراً في النَّاس:

فقلتُ لها بخلتِ عليَّ يقظى … فجودي في المنامِ لِمُستهامِ

فقالت لي وصرتَ تنامُ أيضاً … وتطمعُ أن تواصلَ في المنامِ

ولبعض أهل هذا العصر:

جُعلتُ فداكَ لم يخطر ببالي … حضورُ البينِ إلاَّ مذْ ليالي

فقد وهواكَ زادنيَ اشتياقا … علَى شوقي نواكَ وأنتَ قالي

وأكَّدَ ذاكَ أنِّي مذْ ليالٍ … سهرتُ فلمْ يزُرْ طيفُ الخيالِ

فبتُّ علَى الفراشِ كأنَّ قلبي … يقلِّبهُ هواكَ علَى المقالي

وكانَ الطَّيفُ يكشفُ بعضَ ما بي … ولستَ تراهُ يطرُقني بحالِ

فقلْ لي بالذي أصفاكَ ودِّي … أأنتَ نهيْتَ طيفكَ عن وصالي

أمِ السَّهرُ الَّذي ألزمتَنيهِ … نفى عنِّي الخيالَ فلا أُبالي

ولبعض أهل الأدب:

أعادَ عليَّ الله يومَ وصالكَ … وأخطرني قبلَ المماتِ ببالكَ

يُضاعفُ ما بي أنَّني لكَ وامقٌ … أميرٌ بما تهوى ولستَ كذلكَ

منعت جفوني أن تنامَ قريرةً … ولو نمتُ أرضاني طروقُ خيالكَ

وحلَّلْتَ عهدي في الهوَى وتركتني … أُعقِّدُ ما حلَّلْتهُ من حبالكَ

ومن مختار ما قالت الشعراء في الخيال علَى تقصير قائله عن بلوغ درج الكمال:

أسْرَتْ لعينكَ ليلَى بعدَ مغفاها … يا حبَّذا بعدَ نومِ العينِ مسراها

فقلتُ حُيِّيتَ من طيفٍ ألمَّ بنا … إن كنتَ تمثالها أوْ كنتَ إيَّاها

وقال العرجي:

وقد كنتُ أرجو أنَّ نأيكِ راحةٌ … ولم أدرِ أنَّ الطَّيفَ إن نمتُ طالبي

فواللهِ لا يُنكى محبٌّ بمثلها … وإن كانَ مكروهاً فراقُ الحبائبِ

وأنشدني أعرابي بالبادية:

حلمتُ أقرَّ اللهُ عينيَ أنَّني … أرى أُمَّ لهوِ القلبِ فيمنْ أُجاورُ

فلمَّا انتبهْنا بالخيالِ الَّذي سرى … إذا صوتُ جنٍّ والنُّجومُ الزَّواهرُ

فعدتُ لكيْما أن تعودَ فلمْ تعدْ … وعاودني منها الَّذي قد أُحاذرُ

وقال بعض الأعراب وكان محبوساً في سجن الطائف:

فأنَّى اهتدَتْ تسري وأنَّى تخلَّصتْ … إليَّ وبابُ السِّجنِ بالعتلِ موثَقُ

عجبْتُ لمسراها وسربٍ سرتْ بهِ بُعَ … يدَ الكرى كادتْ له الأرضُ تشرقُ

فلا تحسبي أنِّي تخشَّعتُ بعدكُمْ … لشيءٍ ولا أنِّي منَ الموتِ أفرقُ

ولكنَّ ما بي من هواكِ ضمانةٌ … كما كنتُ ألقى منكِ إذْ أنا مُطلقُ

فأمَّا الهوَى منِّي إليكِ فطائحٌ … يمانٍ ولكنِّي بمكَّةَ موثقُ

ألمَّتْ فحيَّتْ ثمَّ قامتْ فودَّعتْ … فكادتْ عليها مهجةُ النَّفسِ تزهقُ

فما برحتْ حتَّى وددْتُ بأنَّني … بما في فؤادي من دمِ الجوفِ أشرقُ

وقال الأقرع القشيري:

ألمَّتْ فحيَّاها فهبَّ فحلَّقتْ … معَ النَّجمِ رؤيا في المنامِ كذوبُ

لقدْ شغفتني أمُّ عمرٍو وبغَّضتْ … إليَّ نساءً ما لهنَّ ذنوبُ

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

ألمَّ خيالُ طَيبةَ أجنبيَّا … فحيَّا الرَّكبَ دوني والمطيَّا

لما حيَّيْتهمْ يا طيفُ دوني … وأنتَ أحبُّهمْ شخصاً إليَّا

ألمَّ بنا فسلَّمَ ثمَّ ولَّى … علَى الهجَّادِ تسليماً خفيَّا

فلمَّا أنْ كشفْتُ غطاءَ رأسي … إذا أنا لا أرى إلاَّ النَّضيَّا

وأينُقَنا الثَّلاثَ ملقَّياتٍ … علَى متنِ الطَّريقِ وصاحبيَّا

وزرقاً بالجفيرِ مُنشَّباتٍ … وشوحطةً ترنُّ ومشرفيَّا

فكلَّفنا سُراها أن رحلنا … وأحثثنا الأميرَ العامريَّا

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

ألا طرقَتْ جمْلٌ وبيني وبينها … مهامِهُ أمْراتٌ وداويةٌ قفرُ

فقلتُ لها كيفَ اهتديْتِ لصاحبٍ … ونضوٍ طواهُ السَّيرُ مَمْساهما وعرُ

فقالتْ أمنْتَ الدَّهرَ ألاَّ تُحبَّني … فقلتُ عداني النَّأيُ والأعينُ الخزرُ

علَى أنِّني أهواكِ ما هبَّتِ الصَّبا … وما سكنتْ سلمى وأكنافها العفرُ

وما هتفتْ يوماً لإلفٍ حمامةٌ … علَى بانةٍ أفنانها عطَّفٌ خضرُ

فدوميَ علَى العهدِ الَّذي كانَ بيننا … فما يُبتغى منِّي ولا منكِ لي عذرُ

وقال الحسين بن الضحاك:

سقياً لزورٍ منْ طيفِ مُحتجبٍ … عاتبتهُ في المنامِ فاعتذرا

فزالَ حقدُ الضَّميرِ عنْ سكنٍ … يُسخطني رائحاً ومُبتكرا

رضيتُ من عذرِ منْ أقامَ علَى الذَّنْ … بِ بطيفٍ ألمَّ مُعتذرا

وقال الرقاد بن المنذر الضبي:

ألا طرقَتْ أسماءُ واللَّيلُ دامسٌ … فأحببْ بها من طارقٍ حينَ يطرقُ

وما طرقَتْ إلاَّ لتُحدثَ ذكرةً … وتُحكمَ وصلاً بيننا كادَ يخلقُ

وقال أبو تمام الطائي:

عادكَ الزَّورُ ليلةَ الرَّملِ منْ رمْ … لةَ بينَ الحمى وبينَ المطالي

قمْ فما زاركَ الخيالُ ولك … نَّكَ بالفكرِ زُرتَ طيفَ الخيالِ

وقال البحتري:

وليلةَ هوَّمنا علَى العيسِ أرسلتْ … بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطلُهْ

فلولا بياضُ الصُّبحِ طالَ تشبُّثي … بعِطفيْ غزالٍ بتُّ وهناً أُغازلُهْ

وكم من يدٍ للَّيلِ عندي حميدةٍ … وللصُّبحِ من خطبٍ تذمُّ غوائلُهْ

وقال أيضاً:

مثالُكَ من طيفِ الخيالِ المعاودِ … ألمَّ بنا من أُفقهُ المُتباعدِ

يُحيِّي هجوداً ميِّتينَ منَ الكرى … وما نفعُ إهداءِ السَّلامِ لهاجدِ

وقال أيضاً:

إذا نسيتُ هوى ليلَى أشادَ بهِ … طيفٌ سرى في سوادِ اللَّيلِ إذْ جنحا

دنا إليَّ علَى بعدٍ فأرَّقني … حتَّى تبلَّجَ وجهُ الصُّبحِ فاتَّضحا

عجبْتُ منهُ تخطَّى القاعَ من إضَمٍ … وجاوزَ الرَّملَ من خبتٍ وما برحا

وقال أبو تمام:

إسْتَزارتْهُ فكرتي في المنامِ … فأتاني في خفيةٍ واكتتامِ

فاللَّيالي أحفى بقلبي إذا ما … جرحتْهُ النَّوى من الأيَّامِ

يا لها ليلةً تنزَّهتِ الأرْ … واحُ فيها سرّاً منَ الأجسامِ

مجلسٌ لم يكنْ لنا فيهِ عيبٌ … غيرَ أنَّا في دعوةِ الأحلامِ

وقال عمر بن ربيعة المرقش:

أمِنْ بنتِ عجلانَ الخيالُ المبرِّحُ … ألمَّ ورحْلي ساقطٌ مُتزحزحُ

فلمَّا انتبهنا بالخيالِ وراعني … إذا هوَ رحلي والبلادُ توضَّحُ

ولكنَّهُ زَوْرٌ يوقِّظُ نائماً … ويحدثُ أشجاناً بقلبكَ تجرحُ

بكلِّ مبيتٍ يعترينا ومنزلٍ … فلوْ أنَّها إذْ تدلجُ اللَّيل تصبحُ

فولَّتْ وقد بثَّتْ تباريحَ ما ترى … ووجدي بها من قبلِ ذلك أبرحُ

وقال عبادة الطائي:

أما وهواكَ حِلفةَ ذي اجتهادِ … يعدُّ الغيَّ فيكِ منَ الرَّشادِ

لقدْ أذكى فراقُكِ نارَ وجدي … وعرَّفَ بينَ عيني والسُّهادِ

وما ناديتني للشَّوقِ إلاَّ … عجلتُ بهِ فلبَّيْتُ المنادي

وهجرُ القربِ منها كانَ أشهى … إلى المشتاقِ من وصلِ البعادِ

وقال أيضاً:

وإنِّي وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها … لأرتاحُ منها للخيالِ المؤرِّقِ

يعزُّ علَى الواشينَ لو يعلمونها … ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي

فكمْ غلَّةٍ للشَّوقِ أطفأتُ حرَّها … بطيفٍ متى يطرقْ دجى اللَّيل يطرُقِ

أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلُّقاً … بهِ عندَ إجلاءِ النُّعاسِ المرفِّقِ

وقال أيضاً:

دعا عبرتي تجري علَى الجورِ والقصدِ … أظنُّ نسيماً قارفَ الهجرَ من بعدي

خلا ناظري من طيفهِ بعدَ شخصهِ … فيا عجباً للدَّهرِ فقداً علَى فقدِ

خليليَّ هلْ من نظرةٍ توصلانها … إلى وجناتٍ ينتسبْنَ إلى الوردِ

وقد كادَ هذا القلبُ ينقدُّ دونهُ … إذا اهتزَّ في قربٍ من العينِ أوْ بعدِ

فلو تُمْكنُ الشَّكوى لخبَّركَ البكا … حقيقةَ ما عندي وإن جلَّ ما عندي

وقال أيضاً:

أنسيمُ هلْ للدَّهرِ وعدٌ صادقُ … فيما يؤمِّلهُ المحبُّ الوامقُ

ما لي فقدْتُكَ في المنامِ ولم يزلْ … عوْنَ المشوقِ إذا جفاهُ الشَّائقُ

أمنعْتَ أنتَ منَ الزِّيارةِ رِقبةً … منهم فهلْ منعَ الخيالُ الطَّارقُ

الآنَ جازَ بنا الهوَى مِقدارهُ … في أهلهِ وعلمتُ أنِّي عاشقُ

ولبعض أهل هذا العصر:

وقدْ كنتُ لا أرضى منَ النَّيلِ بالرِّضا … وأقبلُ ما فوقَ الرِّضى مُتلوِّما

فلمَّا تفرَّقنا وشطَّتْ بنا النَّوى … قنعْتُ بطيفِ منكَ يأتي مُسلِّما

فساعفني وهناً خيالكَ في الكرى … فزارَ وحيَّا ثمَّ قامَ فسلَّما

بنفسي وأهلي من خيالٍ ألمَّ بي … فداوى سقامي ثمَّ بانَ فأسقما

فواحسرتا لم أدرِ أنَّى اهتدى لنا … ولمْ أدرِ إذْ ولَّى إلى أينَ يمَّما

رعاهُ ضمانُ اللهِ في كلِّ حالةٍ … وإن ذرفَتْ عيني لفرقتهِ دما

قال بعض الأعراب:

أيا شجراتِ الوابشيَّاتِ إنَّني … لكُنَّ علَى مرِّ الزَّمانِ صديقُ

ولو لم تُجاوركُنَّ أسماءُ لم يصلْ … إليكنَّ من قلبي الغداةَ فريقُ

يميلُ الهوَى بي نحوكُنَّ وقد أرى … بعينيَّ ما لي نحوكنَّ طريقُ

فلوْ كنتُ أُهدي الغيثَ أو كنتُ والياً … علَى الماءِ لم تعطشْ لكُنَّ عروقُ

وقال آخر:

يا سرحةَ الدَّوحِ أينَ الحيُّ واكبدي … لهفاً تذوبُ وبيتِ اللهِ من حسرِ

ها أنتِ عجماءُ عمَّا قد سُئِلتِ فما … بالُ المنازلِ لم تنطقْ ولم تحرِ

يا قاتَلَ اللهُ غادات قرعنَ لنا … حبَّ القلوبِ بما استودعْنَ من حورِ

عنَّتْ لنا وعيون من براقعها … مكنونةٌ مُقلُ الغزلانِ والبقرِ

باللهِ يا ظبياتِ القاعِ قُلنَ لنا … ليْلايَ منكنَّ أم ليلَى منَ البشرِ

يا ما أُميْلَحَ غزلاناً شدنّ لها … هوَ لِباي بينَ الضَّالِ والسَّمُرِ

وقال بعض الأعراب:

ألا هلْ إلى شمِّ الخُزامى ونظرةٍ … إلى قرقرى قبلَ المماتِ سبيلُ

أيا أثلاتِ القاعِ من بطنِ توضحٍ … حنيني إلى أفيائكُنَّ طويلُ

ويا أثلاتِ القاعِ قد ملَّ صُحبتي … سُرايَ فهل في ظلِّكنَّ مقيلُ

ويا أثلاتِ القاعِ قلبي معلَّقٌ … بكُنَّ وجدْوى خيركُنَّ قليلُ

ويا أثلاتِ القاعِ ظاهرُ ما بدا … بجسمي علَى ما في الفؤادِ دليلُ

وقال بشر بن هذيل العبسي:

فيا طلحتَيْ لوذانَ لا زالَ فيكُما … لمنْ يبتغي ظلَّيْكُما فننانِ

وإن كنتما قد هجتُما لوعةَ الهوَى … ودانيْتُما ما ليسَ بالمتدانِ

وقال آخر:

تجرَّمَ أهلوها لئنْ كنتُ مُشعراً … جَنوباً بها يا طولَ هذا التجرُّمِ

وما ليَ من ذنبٍ إليهمْ علمتهُ … سوى أنَّني قد قلتُ يا سرحةُ اسلَمي

بلى فاسلَمي ثمَّ اسلمي ثمَّتَ اسلمي … ثلاثَ تحيَّاتٍ وإن لم تكلَّمي

وقال حميد بن ثور:

أبى اللهُ إلاَّ أنَّ سرحةَ مالك … علَى كلِّ آفاقِ العضاهِ تروقُ

نمى النَّبتُ حتَّى نالَ أفنانَها العلى … وفي الماءِ أصلٌ ثابتٌ وعروقُ

فيا طيبَ ريَّاها ويا بردَ ظلِّها … إذا حانَ من شمسِ النَّهارِ زروقُ

وهلْ أنا إنْ علَّلتُ نفسي بسرحةٍ … منَ السَّرحِ موجودٌ عليَّ طريقُ

حمى ظلَّها شكْسُ الخليقةِ خائفٌ … عليها غرامَ الطَّائفينَ شفيقُ

فلا الظِّلُّ منها بالضُّحى نستطيعهُ … ولا الفيءُ منها في العشيِّ نذوقُ

وقال آخر:

أيا نخلتَيْ أوْلٍ سقى الأصلَ منكُما … مُهيجُ الرُّبى والمدجناتُ رواكُما

ويا نخلتَيْ أوْلٍ إذا هبَّتِ الصَّبا … وأمسيْتُ مقروراً ذكرْتُ ذُراكُما

ويا نخلتَيْ أوْلٍ بليتُ وأنتما … جديدانِ كالبُردَيْنِ طابَ شذاكُما

وقال خلف بن روح الأسدي:

أيا نخلتَيْ بطنِ العقيقِ أمانعي … جنى النَّخلِ والبينُ انتظاري جناكُما

لقد خِفْتُ ألاَّ تنفعاني بطائلٍ … ويُكتبَ في الدُّنيا لغيري جداكُما

وقال بعض الأعراب:

أيا منْ لِعينٍ لا ترى قُللَ الحمى … ولا جبلَ الأوسالِ إلاَّ استهلَّتِ

لجوجٌ إذا لجَّتْ بكيٌّ إذا بكتْ … بكتْ فأدقَّتْ في البُكا وأجلَّتِ

نعِمْنا زماناً باللِّوى ثمَّ أصبحتْ … بِراقُ اللِّوى من أهلها قد تخلَّتِ

ألا قاتلَ اللهُ اللِّوى من محلَّةٍ … وقاتلَ دنيانا بها كيفَ ولَّتِ

وقال آخر:

إقرأْ علَى الوشلِ السَّلامَ وقلْ لهُ … كلُّ المشاربِ مذْ هجرْتَ ذميمُ

سقياً لظلِّكَ بالعشيِّ وبالضُّحى … ولِبردِ مائكَ والمياهُ حميمُ

لو كنتُ أقدرُ منعَ مائكَ لمْ يذقْ … ما في قِلاتكَ ما حييتُ لئيمُ

وقال آخر:

ألا حبَّذا أعطانُ فلجةَ بالضُّحى … وخيمُ ذرَى في جلْهَتَيْها المُنصَّبُ

يقولونَ مِلحٌ ماءُ فلجةَ آجنٌ … أجلْ هوَ مملوحٌ إلى النَّفسِ طيِّبُ

وقال ابن الدمينة:

خليليَّ رُوحا بالهجينِ فسلِّما … علَى الخيمِ أوْ مُرَّا بذي العشراتِ

وقِيلا بنا في ظلّهنَّ ورمْيِنا … ذراهنَّ رميَ المحرمِ الجمراتِ

وقُولا لمنْ لاقيتُما يا هديتُما … أحثَّا لنا في الطَّوافِ مِنْ بكراتِ

قلائصَ فيهنَّ الَّتي كِبرُ همّها … أنينٌ وتُذري الدَّمعَ بالزَّفراتِ

ولبعض بني كلاب:

ألا حبَّذا الماءُ الَّذي قابلَ الحمى … ويا حبَّذا مِنْ أجلِ ظمياءَ حاصرهْ

ولو سألتْ ظمياءُ يوماً بوجهِها … سحابَ الثُّريَّا لاستهلَّتْ مواطرهْ

وقال آخر:

يقرُّ بعيني أنْ أرَى بمكانهِ … سُهيلاً كطرفِ الأخدرِ المتشاوسِ

وأنْ أُشرفَ القاراتِ مِنْ أيسرِ الحمى … فتبدُو والأنضاءُ حوصٌ خوامسُ

ذكرتكِ ذِكرى مثلها صدَّعَ الحشا … بتوٍّ وأُخرى مثلها يومَ حابسِ

ويومَ تعالتْ بي السَّفينةُ وارتمَى … بيَ البحرُ في آذيهِ المتلاطسِ

وقال ورد الهلالي:

سقَى اللهُ نجداً مِنْ ربيعٍ ومصيفٍ … وماذا تُرجِّي مِنْ ربيعٍ سقَى نجدا

بلَى إنَّه قدْ كانَ للبيضِ مرَّةً … وللعيشِ والفتيانِ منزلةً حمدَا

وقال آخر:

ألا حبَّذا الدَّهنَا وطيبُ ترابِها … وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلُ هامُها

ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى … إلى بقرٍ وحيُ العيونِ كلامُها

وقال آخر:

خليليَّ إنِّي واقفٌ فمسلِّمٌ … علَى ….. خالطَ اللَّحمَ والدَّما

ولو زالَ هضبُ الرَّملِ عنْ سكناتهِ … ليمَّمتُ مِنْ وجدٍ بهِ حيثُ يمَّما

ولو نطقتْ ضمرُ الجبالِ لعاشقٍ … حزينٍ لحيَّانا إذاً وتكلَّما

وقال آخر:

سلِّمْ علَى قطَنٍ إنْ كنتَ لاقيهُ … سلامَ مَنْ كانَ يهوَى مرَّةً قطَنا

أُحبُّهُ والَّذي أرسَى قواعدهُ … حبّاً إذا ظهرتْ آياتهُ بطَنا

يا ليتَنا لا نريمُ الدَّهرَ ساحتهُ … أوْ كانَ إنْ نحنُ سرنا غربةً معَنا

وقال جرير:

ألا حيِّ رهبَى ثمَّ حيِّ المطاليا … فقدْ كانَ مأنوساً فأصبحَ خالِيا

ألا أيُّها الوادِي الَّذي ضمَّ سيلهُ … إلينا نوَى ظمياءَ حيِّيتَ وادِيا

نظرتُ برهبَى والظَّعائنُ باللِّوى … فطارتْ برهبَى شعبةٌ مِنْ فؤادِيا

وقال آخر:

أيا نخلتَيْ شرقِ العذابِ هَلَ انْتُما … إذا احتملَ الجيرانُ محتملانِ

تفرَّقَ أُلاَّفٌ كثيرٌ وأنتما … مقيمانِ ينبُو عنكُما الحدثانِ

كأنَّكما قدَّامَ جيشٍ طليعةٌ … علَى حاضرِ الرَّوحاءِ مرتبيانِ

وقال آخر:

ألا حبَّذا نجدٌ وطيبُ ترابِها … وغلظةُ دنيا أهلِ نجدٍ ولينُها

نظرتُ بأعلى الجلهتَيْنِ فلم أجدْ … سِوى مِنْ سُهيلٍ لمحةً أستبينها

فكذَّبتُ طرفَ العينِ ثمَّ ردَّدتهُ … فراجعَ نفسِي بعدَ شكٍّ يقينُها

وقال آخر:

بليتُ بلى البردٍ اليماني ولا أرى … جناناً ولا أكنافَ ذروةَ تخلقُ

ألوي حيازيمي بهنَّ صبابةً … كما تتلوى الحيةُ المتسرقُ

وقال آخر:

أيا سروَتَيْ وادي العقيقِ سُقيتما … حياً غضَّةَ الأنفاسِ طيّبةَ الوردِ

تروَّيتما مجَّ النِّدى وتغلغلتْ … عروقُكُما تحتَ النَّدى في ثرًى جعدِ

ولا يهنأنْ ظلاَّكما إنْ تباعدتْ … بيَ الدَّارُ مَنْ يرجُو ظلالكُما بعدِي

وقال آخر:

تذكّرني خزاماً كلُّ أرضٍ … منَ الأرضينَ حلَّ بها خزامُ

بهذا الزَّادِ يحيى كلُّ صبٍّ … فليتَ الزَّادَ كانَ هو الحِمامُ

وقال آخر:

تحنُّ إلى الرَّملِ اليمانِي صبابةً … وهذا لعمري لوْ قنعتَ كثيبُ

فأينَ الأراكُ الدَّوحُ والسِّدرُ والغضا … ومستخبرٌ عمَّن تحبُّ قريبُ

هناكَ يغنِّينَا الحمامُ ونجتَني … جنَى النَّخلِ يحلوْلِي لنا ويطيبُ

وقال آخر:

أقمنا مُكرهينَ بها فلمَّا … ألفْناها خرجنا كارهينَ

وما حبُّ البلادِ بنا ولكنْ … أمرُّ العيشِ فرقةُ مَنْ هوينا

وقال ورد بن عبد الرحمن الأسدي:

أيا كبدِي ماذا أُلاقي منَ الهوَى … إذا الرَّسُّ في آلِ السَّرابِ بدَا لِيا

ضمنتُ الهوَى للرَّسِّ في مُضمرِ الحشا … ولمْ يضمرِ الرَّسُّ الغداةَ الهوَى لِيا

أعدُّ اللَّيالي ليلةً بعدَ ليلةٍ … للقيانِ لاهٍ لا يعدُّ اللَّياليا

وقال آخر:

أرَى كلَّ أرضٍ دمَّنتها وإنْ مضتْ … لها حججٌ يزدادُ طيباً ترابُها

ألمْ تعلمنْ يا ربِّ أنَّ ربَّ دعوةٍ … دعوتكَ فيها مخلصاً لوْ أُجابُها

لعمرُ أبي ليلَى لئنْ هيَ أصبحتْ … بوادي القرى ما ضرَّ غيريَ اغترابُها

وقال آخر:

أمَا والَّذي حجَّ الملبُّونَ بيتهُ … سلاماً ومولَى كلِّ باقٍ وهالكِ

وربِّ القلاصِ الحوصِ تدمَى أُنوفُها … بنخلةَ والسَّاعونَ حولَ المناسكِ

لقدْ صرتُ آتي الأرضَ ما يستفزُّني … لها الشَّوقُ لولا أنَّها مِنْ دياركِ

لئنْ قطعَ اليأسُ الحنينَ فإنَّهُ … رقوءٌ لإذرافِ الدُّموعِ السَّوافكِ

ولبعض أهل هذا العصر:

سقى اللهُ رملَ القاعِ في النَّخلاتِ … فذاكَ الكثيبَ الفردَ في السَّمراتِ

فقبرَ العباديِّ الَّذي دونَ مُربِخٍ … فمربخَ والغدرانَ فالهضباتِ

فجبلَيْ زرودٍ فالطَّليحةَ فاللِّوى … فإنَّ لها عندِي يداً وهناتِ

ولمْ يبقَ مِنْ لذَّاتها غيرُ ذكرةٍ … تقطَّعُ نفسِي عندَها حسراتِ

لقصرٍ علَى وادِي زُبالةَ مشرفٍ … أُكفكفُ في أكنافهِ عبَراتي

أحبُّ إلى نفسِي وأشقَى لشجوِها … وأولَى بها مِنْ هذهِ القُرياتِ

عسَى اللهُ لا تيأسْ سيأذنُ عاجلاً … بنصرةِ مظلومٍ وفكِّ عُناةِ

وترضَى قلوبٌ قدْ تواترَ سخطُها … عليَّ فعادتْني بغيرِ تِراتِ

قال القمقام الأسدي:

ألا ليتَ شِعري هلْ ترَى تذكرينَني … فذكركِ في الدُّنيا إليَّ حبيبُ

وهلْ لي نصيبٌ في فؤادكِ ثابتٌ … كما لكِ عندِي في الفؤادِ نصيبُ

رأيْنا نفوساً هيّماً طالَ حبسُها … علَى غيرِ جرمٍ ما لهنَّ ذنوبُ

يحمنَ حيامَ الهيمِ لمْ تلقَ ساقياً … أثابَ النُّفوسَ الحيّماتِ مُثيبُ

فلستُ بمتروكٍ فاشرَب شُربةً … ولا النَّفسُ عمَّا لا تنالُ تطيبُ

وقال حميد بن ثور:

فلا يبعدِ اللهُ الشَّبابَ وقولها … إذا ما صبوْنا صبوةً ستتوبُ

لياليَ سمعُ الغانياتِ وطرفُها … إليَّ وإذْ رِيحي لهنَّ جنوبُ

وأرضَى بقولِ النَّاسِ أنتَ مهوّنٌ … علينا وإذْ غصنُ الشَّبابِ رطيبُ

وقال النابغة الجعدي:

تذكَّرتُ والذِّكرى تضرُّ بذي الهوَى … ومِنْ حاجةِ المحزونِ أنْ يتذكَّرا

ندامايَ عندَ المنذرِ بنِ محرِّقٍ … أرَى اليومَ منهمْ ظاهرَ الأرضِ مقفرَا

وقال متمم بن نويرة:

وكنَّا كندمانيْ جَذيمةَ حقبةً … منَ الدَّهرِ حتَّى قيلَ لنْ يتصدَّعا

فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً … لطولِ اجتماعٍ لمْ نقمْ ليلةً معَا

فإنْ تكنِ الأيَّامُ فرَّقنَ بينَنا … فقدْ بانَ محموداً أخي يومَ ودَّعا

وقال عدي بن زيد:

فإنْ أمسيتُ مكتئباً حزيناً … كثيرَ الهمِّ يشهدُني الحذارُ

فقدْ بُدِّلتُ ذاكَ بنُعمِ بالٍ … وأيَّامٍ لياليها قصارُ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر قال أنشدنا أبو تمام لنفسه:

ألا إنَّ صدرِي مِنْ غرامِي بلاقعٌ … عشيَّةَ شاقتْني الدِّيارُ البلاقعُ

لئنْ كانَ أمسَى شملُ وحشكَ جامعاً … لقدْ كانَ لي شملٌ بأُنسكَ جامعُ

أُسيءُ علَى الدَّهرِ الثَّناءَ فقدْ قضَى … عليَّ بجورٍ صرفهُ المتتابعُ

وقال حميد بن ثور:

قضَى اللهُ في بعضِ المكارهِ للفتَى … رشاداً وفي بعضِ الهوَى ما يحاذرُ

شربْنا بثُعبانٍ منَ الطَّودِ بردَها … شفاءً لغمٍّ وهيَ داءٌ مخامرُ

لياليَ دُنيانا علينا رحيبةٌ … وإذْ عامرٌ في أوَّلِ الدَّهرِ عامرُ

وقدْ كنتُ في بعضِ الصَّبابةِ أتَّقي … وأخشَى علينا أنْ تدورَ الدَّوائرُ

وأعلمُ أنِّي إنْ تغطَّيتُ مرَّةً … منَ الدَّهرِ مكشوفٌ غطائِي فناظرُ

وقال أيضاً:

خليليَّ إنْ دامَ همُّ النُّفوسِ … عليها ثلاثَ ليالٍ قتلْ

علَى أنَّ شيئاً سمعْنا بهِ … يسمَّى السُّرورُ مضَى ما فعلْ

وقال البحتري:

عيشٌ لنا بالأبرقَيْنِ تأبَّدتْ … أيَّامهُ وتجدَّدتْ ذكراهُ

والعيشُ ما فارقتهُ فذكرتهُ … لهفاً وليسَ العيشُ ما تنساهُ

وقال محمد بن عبيد الأزدي:

فلمَّا قضيْنا عصمةً مِنْ حديثِنا … وقدْ فاضَ مِنْ بعدِ الحديثِ المدامعُ

جرَى بينَنا منَّا رسيسٌ يزيدُنا … سقاماً إذا ما استيقنتهُ المسامعُ

كأنْ لمْ تجاورْنا أُميمُ ولمْ تقمْ … بفيضِ الحمَى إذْ أنتَ بالعيشِ قانعُ

فهلْ مثلَ أيَّامٍ تسلَّفنَ بالحمَى … عوائدُ أوْ عيشُ السّتارَيْنِ واقعُ

وقال قيس بن ذريح:

فإنْ تكنِ الدُّنيا بليلَى تقلَّبتْ … عليَّ وللدُّنيا بطونٌ وأظهرُ

فقدْ كانَ فيها للأمانةِ موضعٌ … وللكفِّ مرتادٌ وللعينِ منظرُ

وللهائمِ الظَّمآنِ ريٌّ بريقِها … وللدَّنفِ المشتاقِ خمرٌ مسكِّرُ

قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي فقلنا له فما الَّذي بقي بعد ما وصفت قال بقيت الموافقة.

وقال البحتري:

كانَ الوصالُ بُعيدَ هجرٍ منقضٍ … زمنَ اللِّوَى وقُبيلَ بينٍ آفدِ

ما كانَ إلاَّ لفتةً مِنْ ناظرٍ … عجلٍ بها أوْ نهلةً مِنْ واردِ

ولبعض أهل هذا العصر:

رعَى اللهُ دهراً فاتَ لمْ أقضِ حقَّهُ … وقدْ كنتُ طبّا بالأُمورِ مجرِّبا

لياليَ ما كانتْ رياحكَ شمألاً … عليَّ ولا كانتْ بروقكَ خلَّبا

لياليَ وفَّيتُ الهوَى فوقَ حقِّهِ … وفاءً وظرفاً صادقاً وتأدُّبا

فلمْ أرَ ودّاً عادَ ذنباً وقدْ مضتْ … لهُ حقبٌ يشجَى بذكراهُ مَنْ صبَا

ولمْ أرَ سهماً هتَّكَ الدِّرعَ وانتهَى … إلى القلبِ قِدماً ثمَّ قصَّر أوْ نبَا

ولا عذرَ للصَّمصامِ إنْ بلغَ الحشا … وكَلَّ ولمْ يثلمْ لهُ العظمُ مضربَا

ولا لجوادٍ سابقَ الرِّيحَ سالماً … وقامَ فأعيَا بلْ تقطَّرَ أوْ كبَا

فأنَّى بعذرٍ في اطِّراحِي وجفوتي … ونقضِ عهودٍ أُكِّدتْ زمنَ الصِّبا

إذا عوقبَ الجانِي علَى قدرِ جرمهِ … فتعنيفُهُ بعدَ العقابِ منَ الرِّبا

وقال ابن ميادة:

ألا يا لقومِي للهوَى والتَّذكُّرِ … وعينٍ قذَى إنسانها أُمُّ جحدرِ

فلمْ ترَ عيني مثلَ قلبيَ لمْ يطرْ … ولا كضلوعِي فوقهُ لمْ تكسَّرِ

وقال الطرماح:

عرفتُ لسلمَى رسمَ دارٍ تخالُها … ملاعبَ جِنٍّ أوْ كتاباً منمنمَا

وعهدِي بسلمَى والشَّبابُ كأنَّهُ … عسيبٌ نمَى في ريِّهِ فتقوَّما

يعضُّ سِواراها جلانَا لَوَ أنَّها … إذا بلغا الكفَّينِ أنْ يتقدَّما

وقال الحسن بن وهب:

الدَّمعُ مِنْ عينيْ أخيكَ غزيرُ … في ليلهِ ونهارهِ محدورُ

ذكرٌ يجولُ بها الضَّميرُ كأنَّما … يُذكَى بها تحتَ الفؤادِ سعيرُ

وقال علي بن محمد العلوي:

شآكَ الزَّمانُ بكرِّ الزَّمانِ … وأفناكَ مِنْ كرِّهِ كلُّ فانِ

إساءةُ دهركَ محفوفةٌ … بما لمْ يكنْ للصِّبى في ضمانِ

لياليَ لا يشبعُ النَّاظرا … نِ مَا قابلاكَ ولا يُروَيانِ

لياليَ لمْ يكتسِي العارضا … نِ شيباً ولمْ يقصصِ الشَّاربانِ

فإنْ يكُ هذا الزَّمانُ انقضى … وبُدِّلتَ أخبارهُ بالعيانِ

فلا بالقِلى تتناسَى الصِّبى … ولا بالرِّضا رضيَ العاذلانِ

ونازلةٍ كنتُ مِنْ حدِّها … علَى غزرٍ مثلَ حدِّ السِّنانِ

ومِنْ نكباتِ خطوبِ الزَّمانِ … أُلاحظُها بجنانِ الجبانِ

ألا هلْ سبيلٌ إلى نظرةٍ … بكُوفانَ يحيَى بها النَّاظرانِ

وهلْ أدنوَنْ مِنْ وجوهٍ نأتْ … وهنَّ منَ النَّفسِ دونَ الدَّواني

أُناسٌ همُ الأُنسُ دونَ الأنيسِ … وجنَّاتُ عيشكَ دونَ الجنانِ

وله أيضاً:

واهاً لأيَّامِ الشَّبا … بِ وما لبسنَ منَ الزَّخارفْ

وزوالهنَّ بمَا عرفْ … تُ منَ المناكرِ والمعارفْ

أيَّامَ ذكركَ في دوا … وينِ الصِّبى صدرَ الصَّحائفْ

وقفَ النَّعيمُ عنِ الصَّبا … وزَلَلْتُ عنْ تلكَ الموقفْ

وقال البحتري:

أرسومُ دارٍ أمْ سطورُ كتابِ … ذهبتْ بشاشتُها معَ الأحقابِ

يجتازُ زائرُها بغيرِ لُبانةٍ … ويُردُّ سائلُها بغيرِ جوابِ

ولربَّما كانَ الزَّمانُ محبَّباً … فنبَا بمنْ فيها منَ الأحبابِ

أيَّامَ عُودُ الدَّهرِ أخضرُ والهوَى … تربٌ لبيضِ ظِبائها الأترابِ

لوْ تُسعفينَ وما سألتُ مشقَّةً … لعدلتِ حرَّ جوًى ببردِ رُضابِ

ولئنْ شكوتُ ظَمايَ إنَّكِ لَلَّتي … قِدماً جعلتِ منَ السَّرابِ شرابِي

وعُتبتُ مِنْ حُبِّيكِ حتَّى إنَّني … أخشَى ملامكِ أنْ أبثَّكِ ما بي

وقال أيضاً:

سقَى اللهُ عهداً مِنْ أُناسٍ تصرَّمتْ … مودَّتهمْ إلاَّ التَّوهُّمُ والذِّكرُ

وفاءٌ منَ الأيَّامِ رجعُ حُدوجهمْ … كما أنَّ تشريدَ الزَّمانِ بهمْ غدرُ

هلِ العيشُ إلاَّ أنْ تُساعفنا النَّوى … بوصلِ سعادٍ أوْ يساعدَنا الدَّهرُ

علَى أنَّها ما عندَها لمُواصلٍ … وصالٌ ولا عنها لمصطبرٍ صبرُ

إذا ما نهَى النَّاهي فلجَّ بيَ الهوَى … أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ

ويومَ تثنَّتْ للوداعِ وسلَّمتْ … بعينينِ موصولٌ بلحظِهما السِّحرُ

توهَّمتُها ألوَى بأجفانها الكرَى … كرَى النَّومِ أوْ مالتْ بأعظُمها الخمرُ

وقال المرار الفقعسي:

ألا ذكِّراني يا خليليَّ ما مضَى … منَ العيشِ إذْ لمْ يبقَ إلاَّ تذكُّري

وإذْ لاهتزازِ العيشِ بالرَّكبِ لذَّةٌ … وإذْ كلُّ شربٍ باردٍ لمْ يُكدَّرِ

وإذْ أنتَ لمْ تشعرْ بعينٍ سخينةٍ … بكتْ مِنْ فراقٍ لكنِ الآنَ فاشعرِ

وقال أبو صخر الهذلي:

وإنِّي لتعرُوني لذكراكِ رعشةٌ … كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ

عجبتُ لسعيِ الدَّهرِ بيني وبينَها … فلمَّا انقضَى ما بينَنا سكنَ الدَّهرُ

أمَا والَّذي أبكَى وأضحكَ والَّذي … أماتَ وأحيَى والَّذي أمرهُ الأمرُ

لقدْ تَرَكتْني أحسدُ الوحشَ أنْ أرَى … أليفَيْنِ منها ما يروعُهما الذُّعرُ

هجرتكِ حتَّى قلتِ لا أعرفُ القِلَى … وزرتكِ حتَّى قلتِ ليسَ لهُ صبرُ

فيا هجرَ ليلَى قدْ بلغتَ بيَ المدَى … وزدتَ علَى ما لمْ يكنْ يبلغُ الهجرُ

وقال السري بن مغيث النوفلي:

ألا هلْ مُقيتي اللهُ في أنْ ذكرتُها … وهنَّ بأعلَى ذاتِ عرقٍ خواضعُ

سُحيراً وأصحابِي يلبُّونَ بعدَما … بدَا وجهُ مشهورٍ منَ الصُّبحِ ساطعُ

تمضَوْا هدَاكمْ ربُّ موسى فإنَّني … مُنيخٌ فباكٍ بكيةً ثمَّ رافعُ

وبينَ الصَّفا والرُّكنِ نادمتُ صُحبتي … بذكراكِ والعوَّادُ ساعٍ وراكعُ

وفي جوفِ بيتِ اللهِ جمجمتُ زفرةً … عليها وظلَّتْ تستهلُّ المدامعُ

ومِنْ نفرٍ عندَ التَّنبُّهِ جئتهمْ … وكلُّهم مِنْ خشيةِ اللهِ خاشعُ

فقلتُ لهم هلْ تعلمونَ منَ الجوَى … دواءً فقالُوا أنتَ في النَّارِ واقعُ

فقلتُ لهمْ هلْ تعلمونَ بما الَّذي … أُرجِّي ولا ما اللهُ بالعبدِ صانعُ

أيجعلُني في النَّارِ ربِّي وحبُّها … علَى كبدِي منهُ شؤونٌ صوادعُ

قال حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدثني أبو العالية قال حدثني حباب القشيري قال لمَّا ملك الوليد بن يزيد بعث إلى ابن ميادة وكان معجباً بشِعره فألزمه بابه فاشتاق الشَّيخ لمَّا طال مقامه فقال:

ألا ليتَ شِعرِي هلْ أبيتنَّ ليلةً … بحرَّةِ ليلَى حيثُ ربَّتَني أهلِي

بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائِمِي … وقُطِّعنَ عنِّي حيثُ أدركَني عقلِي

فإن كنتُ عنْ تلكَ المواطنِ حَابسِي … فأيسِرْ عليَّ الرِّزقَ واجمعْ إذاً شملِي

قال فلمَّا سمع شِعره كتب إلى مصدِّق كلبٍ أن يعطيه مئة ناقةٍ دهماءَ جعاداً.

وقال ابن ميادة:

ألا ليتَ شِعرِي هلْ يحلَّنَّ أهلَها … وأهلكَ روضاتٍ ببطنِ اللِّوى خُضرا

وهلْ تأتينَّ الرِّيحُ تدرجُ موهناً … بريَّاكِ تعرُوني بها بلداً قفرَا

بريحِ خُزامَى الرَّملِ باتَ معانقاً … فرُوعُ الأقاحِي تهضبُ الطَّل والقطرَا

ألا ليتَني ألقاكِ يا أُمَّ جحدرٍ … قريباً فأمَّا الصَّبرُ عنكِ فلا صبرَا

ألا لا تلُظِّي السِّترَ يا أُمَّ جحدرٍ … كفَى بذُرى الأعلامِ مِنْ دوننا سِترا

وأنشدني أحمد بن يحيى:

قالتْ أُميمةُ ما لجسمكَ شاحباً … وجدٌ بقلبِي يا أُميمُ برَاني

للهِ صاحبيَ الَّذي نبَّأتهُ … وشكوتُ حبُّكِ عندهُ فكَواني

ظنَّ المكاوِي مُخرجاتِ حرارةٍ … بينَ الضُّلوعِ ودونَها هَيَماني

يا للرِّجالِ أمَا رأَى ما شفَّني … أفلا بذكركِ والمُنى داوانِي

وقال كثيّر:

وددتُ وما تُغني الودادةُ أنَّني … بما في ضميرِ الحاجبيَّةِ عالمُ

فإنْ كانَ خيراً سرَّني وعلمتهُ … وإن كانَ شرّاً لمْ تلُمْني اللَّوائمُ

وما ذكرتكِ النَّفسُ إلاَّ تفرَّقتْ … فريقينِ منها عاذرٌ لي ولائمُ

وقال البحتري:

مُنَى النَّفسِ في أسماءَ لوْ تستطيعُها … بها وجدُها مِنْ غادةٍ وولوعُها

عجبتُ لها تُبدِي القِلى وأودُّها … وللنَّفسِ تَعصينِي هوًى وأُطيعُها

وقال آخر:

وددتُ بأنَّ النَّاسَ كلّهمُ أنا … وأنِّي فداءٌ للَّذي أنا عاشقهْ

وأنِّي إذا صاحبتُ للعرضِ مِنْ غدٍ … إلى اللهِ جيراناً هناكَ أُوافقهْ

فإمَّا إلى جنَّاتِ عدنٍ نكنْ معاً … وإمَّا إلى نارٍ ففيها أُرافقهْ

وقال كثيّر:

يودُّ بأنْ يُمسي سقيماً لعلَّها … إذا سمعتْ عنهُ بشكوَى تُراسلهْ

ويرتاحُ للمعروفِ في طلبِ العُلى … لتُحمدُ يوماً عندَ ليلَى شمائلهْ

فلوْ كنتُ في كبلٍ وبحتُ بعَوْلَتي … إليهِ ألانتْ جمَّةً لي سلاسلهْ

ويدركُ غيري عندَ غيركِ حظَّهُ … بشِعري ويُعييني بهِ ما أُحاولهْ

فلا هانتِ الأشعارُ بعدِي وبعدكمْ … مُحبّاً وماتَ الشِّعرُ بعدِي وقائلهْ

وقال آخر:

تمنَّيتُ في عرضِ الأمانِي وربَّما … تمنَّى الفتَى أُمنيَّةً لنْ ينالَها

لَوَ انِّي وسُعدى جارُ بيتٍ حبائباً … فتعلمَ حالِي ثمَّ أعلَمَ حالها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

يا ليتَني قدْ أجزتُ الحبلَ دونكمُ … حبلَ المعرَّفِ أوْ جاورتُ ذا عُشرِ

إنَّ الثَّواءَ بأرضٍ لا أراكِ بها … فاسْتيقنيهِ ثواءٌ حقٌّ ذي كدَرِ

وما مللتُ ولكنْ زادَ حبُّكمُ … وما ذكرتكِ إلاَّ ظَلتُ كالسَّدرِ

أُذري الدُّموعَ كذِي سقمٍ يُخامرهُ … وما يخامرُ مِنْ سقمٍ سوَى الذِّكرِ

كمْ قدْ ذكرتكِ لوْ أُجزَى بذكركمُ … يا أشبهَ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ بالقمرِ

إنِّي لأجذَلُ أنْ أمشِي مقابلهُ … حبّاً لرؤيةِ مَنْ أحببتُ في الصُّورِ

ولبعض أهل هذا العصر:

زُبالةُ لا همَّ اسقِها ثمَّ روِّها … وقلَّتْ لها أضعافُ ذي الدَّعواتِ

ألا هلْ إلى نجدٍ وماءٍ بقاعِها … سبيلٌ وأرواحٍ بها عطراتِ

وهلْ لي إلى تلكَ الطُّليحةِ عودةٌ … علَى مثلِ تلكَ الحالِ قبلَ وفاتِي

فأشربَ مِنْ ماءِ السَّماءِ فأرتوي … وأرعَى معَ الغزلانِ في الفلواتِ

وأُلصقَ أحشائِي برملِ زُبالةٍ … وآنسَ بالظِّلمانِ والظَّبياتِ

وقال بعض الأعراب:

يا ليتَ شِعري وليتٌ أصبحتْ حرَجاً … هلْ أهبطنَّ بلاداً ما بها دورُ

ألا سبيلَ إلى نجدٍ وساكِنها … أمْ لا بنجدٍ حبيبُ الأهلِ مهجورُ

لقدْ تبدَّلتُ مِنْ نجدٍ وساكنهِ … أرضاً بها الدِّيكُ يزقُو والسَّنانيرُ

وقال آخر:

ليتَ شِعري وأينَ منِّيَ ليتٌ … إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ

أيُّ ساعٍ سعى ليقطعَ حبلِي … حينَ لاحتْ للصَّالحِ الجوزاءُ

واستكنَّ العصفورُ كُرهاً معَ الضَّ … بِّ وأوفَى في عودهِ الحرباءُ

وأما أهلُ قريةٍ أنكرُوني … عرفَتْني الدَّوِّيَّةُ الملساءُ

عرفتْ ليلَها الطَّويل وليلِي … إنَّ ليلَ المحزونِ فيهِ عناءُ

وقال آخر:

عسَى اللهُ يا ظلاَّمُ أنْ يعقبَ الهوَى … فتلقَى كما قدْ كنتُ فيكِ لقيتُ

وتنهَيْ فتزدادِي إليَّ صبابةً … كما ازددتُ في حبِّيكِ حينَ نُهيتُ

ألمْ تعلمِي يا ريقةَ الوصلِ أنَّني … شربتُ بصابٍ بعدكمْ فرويتُ

وإنِّي لخيرٍ قدْ تداويتُ بعدكمْ … بهجرٍ لكمْ مِنْ حبِّكمْ فبريتُ

وقال آخر:

ألا ليتَني لا أطلبُ الدَّهرَ حاجةً … ولا بغيةً إلاَّ عليكِ طريقُها

فيا حبَّذا مِنْ منظرٍ لوْ تنالهُ … عذابُ الثَّنايا أُمُّ عمرٍو وريقُها

وقال آخر:

إذا كلَّمْتِني وكحلتِ عيني … بعينكِ فامنَعي ما شئتِ منِّي

إذا ازدحمتْ همومِي في فؤادِي … طلبتُ لها المخارجَ بالتَّمنِّي

وقال آخر:

ألا ليتَ بعدَ الموتِ أُنشرُ نشرةً … فأنظرَ ما شمطاءُ صانعةٌ بعدِي

أترعَى وصالَ العهدِ بيني وبينَها … فذلكَ ظنِّي أمْ تغيَّرُ عنْ عهدِي

وقال العباس بن الأحنف

تمنَّى رجالٌ ما أحبُّوا وإنَّما … تمنَّيتُ أنْ أشكُو إليها وتسمعَا

أرَى كلَّ معشوقينِ غيرِي وغيرَها … قدِ استعذَبا طعمَ الهوَى وتمتَّعا

وإنِّي وإيَّاها علَى حدِّ رقبةٍ … وتفريقِ شملٍ لمْ نبتْ ليلةً معَا

وإنِّي لأنهَى النَّفسَ عنها ولمْ تكنْ … بشيءٍ منَ الدُّنيا سواها لتقْنَعا

وقال جميل:

ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وإنْ نمتْ … يجاورُ في الموتَى ضريحِي ضريحُها

فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ … إذا قيلَ قدْ سُوِّي عليها صفيحُها

أظلُّ نهارِي مُستهاماً ونلتَقِي … معَ اللَّيلِ رُوحي في المنامِ وروحُها

وقال أبو بكر عبد الرحمن الزهري:

ولمَّا نزلْنا منزلاً طلَّهُ النَّدى … أنيقاً وبستاناً منَ النَّورِ حاليا

أجدَّ لنا طيبُ المكانِ وحسنهُ … مُنًى فتمنَّينا فكنتِ الأمانيا

وقال مزاحم العقيلي:

وددتُ علَى ما كانَ منْ شرفِ الفتَى … وجهلِ الأمانِي أنَّ ما شئتُ تفعلُ

فترجعَ أيَّامٌ مضينَ بنعمةٍ … علينا وهلْ يُثنَى منَ العيشِ أوَّلُ

وقال جرير:

أُؤمِّلُ أنْ أُلاقيَ آلَ ليلَى … كما يرجُو أخُو السَّنةِ الرَّبيعا

فلستُ بنائمٍ إلاَّ بهمٍّ … ولا مستيقظاً إلاَّ مَروعا

وقال آخر:

فما مسَّ جنبِي الأرضَ إلاَّ ذكرتُها … وإلاَّ وجدتُ ريحَها في ثيابيا

فيا ربِّ إنْ كانتْ عروضُ هيَ المُنى … فزنِّي بعينيها كما زِنتَها لِيا

وقال سعد ذلفاء:

فليتَ ابنَ أوسٍ حينَ يأتيهِ أهلُها … يخاصمهمْ أهلِي قضانِي لها عبْدا

فتربطُني ذلفاءَ في شقِّ بيتِها … إلى الطَّنبِ الأقصَى فتوسعُني جلدا

فأضحكَ منها إذا تقولُ نساؤُها … لكِ الويلُ يا ذلفاءُ لا تقتُلي سعدَا

وقال عروة بن حزام:

كأنَّ قطاةً عُلِّقتْ بجناحِها … علَى كبدِي مِنْ شدَّةِ الخفقانِ

ألا ليتَنا نحيَى جميعاً وليتَنا … إذا نحنُ مُتنا ضمَّنا كفنانِ

ألا ليتَنا عفراءُ مِنْ غيرِ ريبةٍ … بعيرانِ نرعَى القفرَ مؤتلفانِ

وإنِّي لأهوَى الحشرَ إذْ قيلَ إنَّني … وعفراءَ يومَ الحشرِ ملتقيانِ

وقال آخر:

ألا مَنْ لهمٍّ بتُّ وحدِي أُكابدهْ … ومَنْ يكُ ذا همٍّ يبتْ وهوَ عامدهْ

تذكَّرتُ بطنَ الحِبرِ يا ليتَني بهِ … إذا اعتمَّ بيتاً متنهُ وأجالدهْ

وقال الأحوص:

إنِّي لآملُ أن تدنُو وإنْ بعُدتْ … والشَّيءُ يؤملُ أنْ يدنُو وإنْ بعُدا

أبغضتُ كلَّ بلادٍ كنتُ آلفُها … فما أُلائمُ إلاَّ أرضَها بلدَا

يا للرِّجالِ لمقتولٍ بلا ترَةٍ … لا يأخذونَ لهُ عقلاً ولا قوَدا

إنْ قرَّبتْ لمْ يُفقْ عنها وإنْ بعُدتْ … تقطَّعتْ نفسهُ مِنْ حبِّها قدَدا

ما تذكرُ الدَّهرَ لي سُعدى وإنْ نزحتْ … إلاَّ ترقرقَ ماءُ العينِ فاطَّردا

ولا قرأتُ كتاباً منكِ يبلُغُني … إلاَّ تنفَّستُ مِنْ وجدٍ بكمْ صعدا

وقدْ بدتْ لي مِنْ سُعدى معاتبةٌ … أمسَى وأضحَى بها جدِّي وما سعِدا

ولو أُعاتبُ ذا حقدٍ قتلتُ لهُ … نفساً مُعاتَبَتي إيَّاكِ ما حقدا

وقال النميري:

ألا هلْ إلى نصِّ النَّواعجِ بالضُّحى … وشمِّ الخُزامى بالعشيِّ سبيلُ

بلادٌ بها أمسَى الهوَى غيرَ أنَّني … أميلُ معَ المقدارِ حيثُ يميلُ

وقال أبو القمقام الفقعسي:

يقرُّ بعيني أن أرَى رملةَ الغضا … إذا ما بدتْ يوماً لعينِي قِلالُها

ولستُ وإنْ أحببتُ مَنْ يسكنُ الغضا … بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها

وقال أيضاً:

تبدَّلَ هذا السِّدرُ أهلاً وليتَني … أرَى السِّدرَ بعدِي كيفَ كانتْ بدائلهْ

فعهدِي بهِ عذبَ الجنَى ناعمَ الذُّرَى … تطيبُ وتندَى بالعشيِّ أصائلهْ

كما لوْ وشَى بالسِّدرِ واشٍ رددْتهُ … كئيباً ولمْ تملحْ لديَّ شمائلهْ

وقال آخر:

ألا هلْ إلى إلمامةٍ قبلَ موتِنا … سبيلٌ وهلْ للنَّازحينَ رجوعُ

وهلْ لعيونٍ قدْ بكينَ إلى الفلا … وأبكينَ حتَّى ما لهنَّ دموعُ

يُحاذرنَ إنْ لا يرتجعنَ إلى الفلا … وإنْ لا يُراعُ الشَّملُ وهوَ جميعُ

أمَّا هؤلاء الذين ترجمنا هذا الباب بذكرهم فهم على كلِّ الأحوال أعذر ممَّن كان قبلهم على أنَّ فراغهم لوصف ما بدا لهم هُجنة بهم ودلالة على ضعف أحوالهم وقال الطائي وما أظنُّ أنَّه احترز به من هذا اللَّوم الَّذي يلحق غيره فألزم نفسه أكثر ما حذره وذلك قوله:

لستُ أدري أطالَ ليلِي أمْ لا … كيفَ يدرِي بذاكَ مَنْ يتقلاَّ

لوْ تفرَّغتُ في استطالةِ ليلِي … ولرعيِ النُّجومِ كنتُ مخلاَّ

فهو وإنْ كانت جهالته بحاله دالَّة على قوَّة اشتغاله فإنَّ علمه بالعلَّة الَّتي أوجبت جهله بها ضربٌ من الفلسفة الَّتي لا يصلح أن يعلمها إلاَّ متخلٍّ من هذه الحالة كلِّها ففرَّ من شيءٍ ووقع في أعظم منه ألا ترى أنَّ البهائم تجد ألم ما ينالها وتُظهر التَّأذِّي به وليس يعلم أنَّ الاشتغال بالألم يمنع من وصفه إلاَّ أهل الفلسفة والحكم والتَّكلُّف إذا دخل في شيء نبَّه على موضعه وترجم عن ضمير متحلِّله ولسنا قادرين على ذكر حال تامَّة عن أحد من الشُّعراء في هذا الباب لأنَّ كلّ واصف بوصفه أدلّ الأشياء على ضعفه فأهل التَّمام إذن سكوتٌ عن الوصف مستغرقون في غمراته مشتغلون به عن صفاته ولكنَّا نذكر عن أهل الضَّعف المستطيعين لترتيب الوصف أحسن ما يحضرنا من أقاويلهم وما زادوا فيه على أمثالهم ونظرائهم.

قال النابغة الذبياني:

كِليني لهمٍّ يا أُميمةُ ناصبِ … وليلٍ أُقاسيهِ بطيءُ الكواكبِ

وصدرٍ أراحَ اللَّيلَ غاربَ همِّهِ … يُضاعفُ فيه الحزنَ مِنْ كلِّ جانبِ

تقاعسَ حتَّى قلتُ ليسَ بمنقضٍ … وليسَ الَّذي يرعَى النُّجومَ بآيبِ

وقال عبيد الراعي:

كأنَّ بلادهنَّ سماءُ ليلٍ … تكشَّفُ عنْ كواكبها الغيومُ

مللتُ بها الثَّواءَ وأرقتْني … همومٌ ما تنامُ ولا تُنيمُ

أبيتُ بها أُراعي كلّ نجمٍ … وشرُّ رعايةِ العينِ النُّجومُ

وقال سويد بن أبي كاهل:

وأبيتُ اللَّيلَ ما أرقدهُ … وبعينيَّ إذا النَّجمُ طلعْ

فإذا ما قلتُ ليلِي قدْ مضَى … عطفَ الأوَّلُ منهُ فرجعْ

يسحبُ اللَّيلُ نجوماً ظلَّعاً … فتُواليها بطيئاتُ التَّبعْ

وقال جرير:

أتَى دونَ هذا اليومِ همٌّ فاسهَرَا … أُراعي نجوماً تالياتٍ وغُوَّرا

أقولُ لها مِنْ أجلهِ ليسَ طولُها … كطولِ اللَّيالي ليتَ صُبحكِ نوَّرا

وقال أبو تمام:

أفنَى وليلي ليسَ يفنَى آخرهْ … هاتَا مواردهُ فأينَ مصادرهْ

نامتْ عيونُ الشَّامتينَ تيقُّناً … أنْ ليسَ يهجعُ والهمومُ تسامرهْ

لا شيءَ ضائرُ عاشقٍ فإذا نأَى … عنهُ الحبيبُ فكلُّ شيءٍ ضائرهْ

وقال كثيّر:

ولِي منكِ أيَّامٌ إذا تشحطُ النَّوى … طوالٌ وليلاتٌ تزولُ نجومُها

إذا سمتُ نفسِي هجرَها واجتنابَها … رأتْ غمراتِ الموتِ فيما أسومُها

وذكروا أنَّ علي بن الجهم لمَّا طُعن في برِّيَّة حلب قال لغلامه في أول اللَّيل أطلعَ النَّجمُ أم لا؟ فقال له غلامه هذا بعد وقت العشاء فأنشأ يقول:

هلْ زِيدَ في اللَّيلِ ليلُ … أمْ سالَ بالصُّبحِ سيلُ

ذكرتُ أهلَ دُجيلٍ … وأينَ منِّي دُجيلُ

ثمَّ مات من ليلته.

وقال البحتري:

مغانِي سُليمى بالعقيقِ ودونَها … أجدَّ الشَّجى إخلاقُها ودثورُها

وألحقَني بالشَّيبِ في عقرِ دارهِ … مناقلُ في عرضِ الشَّبابِ أسيرُها

مضتْ في سوادِ الرَّأسِ أُولى بطالَتي … فدعْني يُصاحبْ وخْطَ رأسي أخيرُها

وأطريتَ لي بغدادَ إطراءَ مادحٍ … وهذي لياليها فكيفَ شهورُها

وقال أيضاً:

أُنبِّيكَ عنْ عيني وطولِ سهادِها … ووحدةِ نفسِي بالأسَى وانفرادِها

وأنَّ الهمومَ اعتدنَ بعدكِ مضجَعي … وأنتِ الَّتي وكَّلْتني باعتيادِها

خليليَّ إنِّي ذاكرٌ عهدَ خلَّةٍ … تولَّتْ ولمْ أذممْ حميدَ ودادِها

فواعجَبا ما كانَ أقصرَ دهرَها … لديَّ وأدنَى قربَها مِنْ بعادِها

وكنتُ أرَى أنَّ الرَّدى قبلَ بينِها … وأنَّ افتقادَ العيشِ قبلَ افتقادِها

بنفسيَ مَنْ عاديتُ مِنْ أجلِ فقدهِ … بلادِي ولولا فقدهُ لمْ أُعادِها

وقال أبو تمام:

رأيتُ في النَّومِ أنَّ الصُّلحَ قدْ فسدَا … وأنَّ مولايَ بعدَ القربِ قدْ بعُدا

لِمْ لَمْ أمتْ جزعاً لِم لَم أمتْ أسفاً … لِم لَم أمت حزناً لِم لَم أمتْ كمدَا

قدْ كدتُ أحلفُ لولا أنَّه سرَفٌ … أنْ لا أذوقَ رُقاداً بعدهُ أبدا

فهذا قد زادنا رتبة على ما عنى لأنه لم يدع النوم شوقاً إلى من يهواه ثمَّ رأى في النَّوم ما قد وصف وهو يزعم أنَّ تركه إيّاه مع ذلك سرف ولو جعل امتناعه من ترك النَّوم شوقاً إلى رؤية الطَّيف فقال قد كدتُ أحلف لولا الطَّيف مجتهداً ألا أذوق رقاداً بعده أبداً كان أعذر على كلّ حال وإن دخل ذلك ضروبٌ من الاختلال منها أنَّه نام أوَّلاً حتَّى رأى ما رأى، ومنها أنَّه لم يتهيَّأ له ترك النَّوم إلاَّ بيمين على نفسه، ومنها أنَّه مع ذلك لم يحلف أيضاً وإنَّما أرجف باليمين.

وقال أيضاً:

لا نِمتَ عيناً ولا لُقِّيتَ عافيةً … وكانَ حظُّكَ بعدَ اللَّيلةِ الأرَقا

أنمتَ لا نمتَ في خيرٍ ولا دعَةٍ … حتَّى أتَى أجلُ الميعادِ فانطلَقا

فهذا عافانا الله وإيَّاه ألوَم في هذا النَّوم من كلِّ ما لمناه لأنَّ الإنسان يشغل قلبه بمجيء خادمه من حاجة لا قدر لها في قلبه فيشغله ذلك عن نومه فكيف لمن يعِده من يهواه بزيارة فينام عن موعده.

وقال البحتري:

أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ … واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ

لا ذُقتَ ما ذاقهُ مَنْ أنتَ مالكهُ … ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ

أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ … والعينُ تعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ

فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهُما … فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ

وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي لنفسه:

أرقتُ وحالفتْ لِينَ الوِسادِ … ولمْ يسعدْ ولُذَّتْ بالمهادِ

وباتتْ والسُّرورُ لها ضجيعٌ … يجنَّبها مجانبةُ الرُّقادِ

وبتُّ ومرهفاتُ الشَّوقِ تفرِي … بها عنقَ الكرَى يدُ السُّهَادِ

فكمْ تروِي بأدمعِنا خدوداً … لنا جرحَى وأنفسُنا صوادِ

وقال آخر:

تطاولَ أيَّامي ولَلَّيلُ أطولُ … ولامَ علَى حبِّي أُميمةَ عُذَّلُ

يلومونَ صبّاً أضرعَ الحبُّ جسمهُ … وما ضرَّهمْ لوْ لمْ يلوموا وأجملوا

وقال آخر:

قدْ كانَ يكفيكَ ما بالحسمِ مِنْ سقمٍ … لِمْ زِدْتني سهراً لا مسَّكَ السَّهرُ

عينٌ مُؤرَّقةٌ والجسمُ مختبلٌ … والقلبُ بينهما تخلُو بهِ الفكرُ

يا حارِمِي لذَّةَ الدُّنيا وبهجتَها … قد كانَ يُقنعني مِنْ وجهكَ النَّظرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يا مانعاً مُقلتي مِنْ لذَّةِ الوسنِ … رُوحي تَقيكَ منَ الأسواءِ والحزنِ

واللهِ لا سكنتْ روحي إلى سكنٍ … إلاَّ إليكَ ولا حنَّتْ إلى وطنِ

ولنْ أقولَ ولوْ أضنَى الهوَى كبدِي … ردّاً لقولكَ لي قدْ خنتَ لم أخُنِ

هبْني غريباً أُلامُ اليومَ فيكَ ألمْ … أكنْ حقيقاً بأنْ أُعدَى علَى الزَّمنِ

فلا تدعْ رعيَ ما قد كنتَ تعلمهُ … منِّي يقيناً وتهجرْني علَى الظِّننِ

فلمْ تزلْ مذْ عرفتُ الحبَّ في كبدِي … أحبَّ واللهِ مِنْ روحي إلى بدنِي

وتوهم هؤلاء بمنع أحبَّتهم إيَّاهم النَّوم وإن كان مُسقطاً عنهم لائمة النُّوَّام فإنَّه موجب عليهم ضرباً من الملام لأن في الحال يرون سهرهم بالفكر في أحبَّتهم نعمة لا يعرف قدرها فضلاً عن أن يؤدَّى شكرها.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

يا نسيمَ الرَّوضِ في السَّحرِ … وشبيهَ الشَّمسِ والقمرِ

إنَّ مَنْ أسهرتَ ليلتهُ … لقريرُ العينِ بالسَّهرِ

على أنَّه غير مأمون على صاحب هذا الشِّعر أن يكون السَّهر الَّذي مدحه هو السَّهر مع إلفه لا السَّهر بالفكرة في أمره ومن أبلغ ما قيل في طول الليل.

قول خالد الكاتب:

رقدتَ فلمْ ترثِ للسَّاهرِ … وليلُ المحبِّ بلا آخرِ

ولمْ تدرِ بعدَ ذهابِ الرُّقا … دِ ما صنعَ الدَّمعُ بالنَّاظرِ

ولقد أكثر النَّاس في استطالة الليل وأصحّ ما قيل فيه معنًى.

قول بشار:

لمْ يطلْ ليلِي ولكنْ لمْ أنمْ … ونفَى عنِّي الكرَى طيفٌ ألمّْ

وإذا قلتُ لها جُودِي لنا … خرجتْ بالصَّمتِ عنْ لا ونعمْ

وأنشدني أبو الفضل بن أبي طاهر قال أنشدني أبو دعامة علي بن زيد لخليل بن هشام:

يقولونَ طالَ اللَّيلُ واللَّيلُ لمْ يطلْ … ولكنَّ مَنْ يهوَى منَ الهمِّ يسهرُ

وكمْ ليلةٍ طالتْ عليَّ بهجركمْ … وأُخرى تليها نلتقِي فهيَ تقصرُ

ولا أعلم أحداً استطالَ الليل ممّن خبَّر بعلّة استطالته ولا ممّن لم يخبّرها شرح السبب المضجر من اللَّيل ما هو غير الطرماح حيث يقول:

ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا اصبَحِ … بصبحٍ وما الإصباحُ فيها بأروحِ

علَى أنَّ للعينينِ في الصُّبحِ راحةً … بطرحِهِما طرفيهِما كلَّ مطرحِ

وهذا قول امرئ القيس:

ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا انجلِي … بصبحٍ وما الإصباحُ فيكَ بأمثلِ

إلاَّ أنَّ امرء القيس لم يقل لم صار النَّهار وإن لم يكن أمثل من اللَّيل والقلوب إليه أميل منها إلى اللَّيل كما بيَّنه الطرمّاح ومن سرق معنى فزاد فيه احتمل له جرم سرقته لموضع زيادته ومن أحسن ما قيل في ترك النَّوم قول مسلم بن الوليد:

لمَّا التَقَيْنا افْترعْنا في تعاتُبِنا … منَ الحديثِ ومِنْ لذَّاتهِ العُذرا

قالتْ أأقررتَ بالإجرامِ قلتُ نعمْ … إنْ كانَ جرمٌ علَى الإقرارِ مُغتفرا

لمْ تُغمضِ العينُ مذْ عُلِّقتُ حبُّكمُ … إلاَّ إذا خالستْها عينكِ النَّظرا

ولقد أحسن بشار بن برد حيث يقول:

كأنَّ جفونهُ سُملتْ بشوكٍ … فليسَ لنومهِ فيها قرارُ

جفتْ عيني عنِ التَّغميضِ حتَّى … كأنَّ جفونها عنها قِصارُ

أقولُ وليلَتي تزدادُ طولاً … أما للَّيلِ بعدهمُ نهارُ

وقال آخر:

وعينٍ لنا من ذكرِ صعبةَ واكفٍ … إذا غاضها كانتْ سريعاً جُمومها

تنامُ قريراتُ العيونِ وبينها … وبينَ حجابَيْها قذًى لا يريمُها

وقال آخر:

لعلَّ جفوناً فرَّقَ البينُ بينها … وبينَ الكرى تحظى بطعمِ رُقادِ

ويُحسرُ دمعٌ ما يزالُ كأنَّهُ … علَى الخدِّ مُنهلاًّ تدافعُ وادِ

كأنَّ السَّواري والغوادي تكلَّفتْ … لهُ بسواري أدمعٍ وغوادي

وقال آخر:

إذا زُيِّنتْ بالدُّرِّ يوماً فإنَّها … تُزيِّنهُ والدُّرُّ ليسَ يزينُها

أبيتُ طوالَ الدَّهرِ أبكي لذكرها … بعينِ محبٍّ ما تلاقى جفونها

وأقطعُ أيَّامي بهمٍّ وفكرةٍ … أُعلِّلُ نفساً قد براني حنينها

وأحفظها في الغيبِ حتَّى كأنَّني … حلفتُ لها باللهِ أن لا أخونها

وقال جرير:

ألا حيِّ الدِّيارَ بسُعدَ إنِّي … أحبُّ لحبِّ فاطمةَ الدِّيارا

أرادَ الظَّاعنونَ ليُحزنوني … فهاجوا صدعَ قلبيَ فاستطارا

أبيتُ اللَّيلَ أرقبُ كلَّ نجمٍ … تعرَّضَ حيثُ أنجدَ أو أغارا

يهيمُ فؤادهُ والعينُ تلقَى … منَ العبراتِ جولاً وانحدارا

وقال أيضاً:

نامَ الخليُّ وما رقدْتُ لحبِّكُمْ … ليلَ التَّمامِ تأرُّقاً وسهودا

وإذا رجوتُ بأنْ تُقرِّبكِ النَّوى … كانَ القريبُ لما رجوْتُ بعيدا

وقال الراعي:

كفاني مُقاساةَ الكرى وكفيْتُهُ … كلاءُ النُّجومِ والنُّعاسُ معانقُهْ

فباتَ يُريهِ عرسهِ و….. … وبتُّ أُراعي النَّجمَ أينَ مخافقُهْ

وقال امرؤ القيس:

أعنِّي علَى الأشجانِ والذِّكراتِ … يبتْنَ علَى ذي الهمِّ مُعتكراتِ

ظللْتُ ردائي فوقَ رأسيَ قاعداً … أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي

بليلِ التَّمامِ أوْ وُصلْنَ بمثلهِ … مُقايسةً أيَّامها نكراتِ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

أرقْتُ وطالتْ ليلتي بأبانِ … لبرقٍ سرى بعدَ الهدوِّ يماني

فيا عمُّ عمَّ السُّوءِ فرَّقْتَ بيننا … ونحنُ جميعاً شملُنا متداني

وقال محمد بن عبد الملك الزيات:

كتبَتْ علَى فصٍّ لخاتَمها … منْ ملَّ من أحبابهِ رقدا

فكتبْتُ في فصِّي ليبلغها … من نامَ لم يشعرْ بمنْ سهدا

قالتْ يعارضني بخاتمهِ … والله لا كلَّمتهُ أبدا

وقال آخر:

ولي مقلةٌ عهدها بالمنامِ … بعيدٌ وبالدَّمعِ عهدٌ قريبْ

يحارُ إذا زادَ طرفي المنامُ … كما حارَ في الحيِّ ضيفٌ غريبْ

أمَّا أهل هذا الباب فقد انفردوا بأمرٍ يقوم لهم ببعض العذر على أنَّ ذلك الأمر الَّذي يعذرهم هو بعينهِ يدلُّ على نقيصتهمْ فأما جهته المحمودة فهي وصف الحال بالدَّمع لا يمكن فيها من التَّصنُّع ما يمكن في الصِّفات بالألسن وأما جهته المذمومة وهي أنَّ امتناع الدَّمع من الجريان أوَّل على تظاهر ألم الأشجان لعلَّةٍ سنذكرها في الباب الثاني ولا نألو إن شاء الله أن نذكر من هذا الباب أحسن ما قيل فيه على النقص الَّذي يلحق قائليه ثمَّ نذكر الحال التَّامة في الباب الَّذي يليه.

أنشدني أبو عبادة البحتري لنفسه:

لعمْرُ الرُّسومِ الدَّارساتِ لقد جرتْ … بريَّا سعادٍ وهي طيِّبةُ العرْفِ

بكيْنا فمنْ دمعٍ يمازجهُ دمٌ … هناكَ ومن دمعٍ نجودُ به صرفِ

وقال أبو تمام الطائي:

لا عذرَ للصبِّ أن يُفني الحياءَ ولا … للدَّمعِ بعدَ مضيِّ الحيِّ أنْ يقفا

حتَّى يطلُّ بماءٍ سافحٍ ودمٍ … في الرَّبعِ يُحسبُ من عينيهِ قدْ رعِفا

وقال آخر:

وبتُّ من الأحزانِ قد أسفرَ الضُّحى … وفي كبدي من جمرهنَّ حريقُ

مزجْتُ دماً بالدُّمعِ حتَّى كأنَّما … يُذابُ بعيني لؤلؤٌ وعقيقُ

وقال أحمد بن أبي طاهر:

دموعٌ فيضهُنَّ معَ الدِماءِ … كما ورَّدْتَ حاشيةَ الرِّداءِ

أُريحُ إلى الدُّموعِ الوجدَ منِّي … إذا ما عزَّني حسنُ العزاءِ

ملامكَ ليسَ من عينيكَ دمعي … ولا بحشاكَ أسقامي ودائي

وقال آخر:

فما زالَ يشكو الحبَّ حتَّى كأنَّما … تنفَّسَ من أحشائهِ أوْ تكلَّما

ويبكي فأبكي رحمةً لبُكائهِ … إذا ما بكى دمعاً بكيتُ له دما

وقال آخر:

وقفنا وثالثُنا عبرةٌ … فيشكو إليَّ وأشكو إليهْ

وولَّى يخوضُ دموعاً جرَيْ … نَ من مُقلتيَّ ومن مُقلتيهْ

ويستودعُ الله ما في يديَّ … وأستودعُ الله ما في يديهْ

وقال آخر:

يقولُ وقد أبكى البُكاءَ بمُقلتي … نُدوباً ألا داويتَ عينيكَ بالكُحلِ

فقلتُ رأيتُ الكُحلَ يشغلُ قدرهُ … من العينِ قدراً لم يكنْ عنكَ في شُغلِ

وقال آخر:

محبٌّ بكتْ عيناهُ من حبِّ قاتلٍ … فيا قاتلاً يبكي عليهِ قتيلُ

خليلٌ جفاني كانَ روحي لروحهِ … خليلاً وهلْ يجفو الخليلَ خليلُ

وقال آخر:

وما شنَّتا خرقاءُ واهيتا الكُلى … سقى بهما ساقٍ ولم يتبلَّلا

بأضيعَ من عينيكَ للماءِ كلَّما … توسَّمْتَ برقاً أوْ توهَّمْتَ منزلا

وقال أبو حية النميري:

لعينيكَ يومَ البينِ أسرعُ واكفاً … منَ الفنن الممطورِ وهو مروحُ

إذا قلتُ يفنى ماؤها اليومَ أصبحتْ … غداً وهيَ ريَّا الماقيَيْنِ نضوحُ

وقال جران العود:

أبيتُ كأنَّ العينَ أفنانُ سدرةٍ … إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ تنطفُ

أُراقبُ لمحاً من سُهيلٍ كأنَّهُ … إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ يطرفُ

وقال ابن هرمة:

استبقِ دمعكَ لا يودي البكاءُ بهِ … واكففْ بوادرَ من عينيكَ تستبقُ

ليسَ الشُّؤونُ وإن جادتْ بباقيةٍ … ولا الجفونُ علَى هذا ولا الحدقُ

وقال آخر:

وممَّا شجاني أنَّها يومَ ودَّعتْ … تولَّتْ وماءُ العينِ في الجفنِ حائرُ

فلمَّا أعادتْ من بعيدٍ بنظرةٍ … إليَّ التفاتاً أسلمتْهُ المحاجرُ

وقال ابن ميادة:

ألا مَنْ لعَيْنٍ لا ترى صائباً ولا … ترى واديَ الطَّرفاء إلاَّ استهلَّتِ

بماءٍ لوَ انَّ المُزنَ جادتْ بمثلهِ … رضينا بما جادتْ بهِ حينَ ولَّتِ

وللعينِ فيضاتٌ إذا ما ذكرتُها … وللصَّدرِ بلبالٌ إذا العينُ كلَّتِ

وقال الطائي:

لو قيلَ سلْ تُعطَ المنى أنْ لو درى … مولاهُ في الخُلواتِ كيفَ بُكاؤهُ

مطرٌ منَ العبراتِ خدِّي أرضهُ … حتَّى الصَّباحِ ومُقلتيَّ سماؤهُ

وقال ابن قوفا:

سيِّدي أنتَ لمْ أقُلْ سيِّدي أنْ … تَ لمخلوقٍ سواكَ والصَّبُّ عبدُ

كبدٌ رطبةٌ تذوبُ منَ الوجْ … دِ وخدٌّ فيهِ منَ الدَّمعِ خدُّ

وقال آخر:

نظرتُ كأنِّي من وراءِ زجاجةٍ … إلى الدَّارِ من ماءِ الصَّبابةِ أنظرُ

فعينايَ طوراً تغرقانِ منَ البُكا … فأغشى وطوراً تحسرانِ فأُبصرُ

وهذا مأخوذ من قول ذي الرمة:

لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءِ مالكٍ … لذو عبرةٍ كُلاًّ تفيضُ وتخنقُ

وإنسانُ عيني يحسرُ الماءُ مرَّةً … فيبدو وأحياناً يجمُّ فيغرقُ

وقال ابن هرمة:

كأنَّ عينيَ إذْ ولَّتْ حمولهُمْ … عنَّا جناحا حمامٍ صادفا مطرا

أوْ لؤلؤٌ سلسٌ في عقدِ جاريةٍ … خرقاءَ نازعها الوُلدانُ فانتثرا

وقال آخر:

تكادُ أُخرى دموعي من تسرُّعها … تفيضُ قبلَ الأُلى أنْ ينحدرْنَ معا

وغاضَ عنها كثيراً راجعاً حذراً … ولنْ ترى قاتلاً كالدَّمعِ إن رجعا

وقال أبو نواس:

يا قمراً أبصرْتُ في مأتمٍ … يندبُ شجواً بينَ أترابِ

تبكي فتُذري الدُّرَّ من عينها … وتلطمُ الوردَ بعنَّابِ

وقال أيضاً:

تقولُ غداةَ البينِ عندَ وداعها … ليَ الكبدُ الحرَّى فسرْ ولكَ الصَّبرا

وقدْ سبقتْها عبرةٌ فدموعها … علَى خدِّها بيضٌ وفي نحرها صفرُ

وقال بعض الأعراب:

عشيُّ وداع قبِّحتْ من عشيَّةٍ … ولكنَّها لا قُبِّحتْ من مُودَّعِ

كأنَّ انحدارَ الدَّمعِ منها تعدُّهُ … لها ذاتُ سلكٍ قيلَ عُدِّي وأسرعي

وقال ابن الدمينة:

أفي كلِّ يومٍ أنتَ رامٍ بلادها … بعينيْنِ إنساناهُما غرقانِ

إذا اغروْرَقَتْ عينايَ قال صحابتي … لقدْ أُولعَتْ عيناكَ بالهملانِ

ألا فاحملاني باركَ اللهُ فيكُما … إلى حاضرِ الرَّوحاءِ ثمَّ ذراني

وقال الركاض الزبيري:

فيا مَنْ لعينٍ قد أضرَّ بها البُكا … فهلْ حاولتْ من طولِ ما سجمَتْ تعمى

وقلبٍ كئيبٍ لا يزالُ كأنَّما … يُقلَّبُ في أعراضهِ ميسمٌ مُحْمى

وقال البحتري:

دنتْ فدنا هجرانُها فإذا نأتْ … غدا وصلُها المطلوبُ أنأى وأسحقا

وما ربَّما بلْ كلَّما عنَّ ذكرُها … بكيْتَ فأبكيتَ الحمامَ المُطوَّقا

وقال آخر:

عرِّجْ بذي سلمٍ ففيهِ المنزلُ … ليقولَ صبٌّ ما أرادَ ويفعلُ

سارتْ مقدَّمةُ الدُّموعِ وخلَّفتْ … حُرقاً توقَّدُ في الحشا ما ترحلُ

إنَّ الفراقَ كما علمْتَ فخلِّني … ومدامعاً تسعُ الفراقَ وتفضلُ

إلاَّ يكنْ صبرٌ جميلٌ فالهوى … نشوانُ يجملُ فيه ما لا يجملُ

ولبعض أهل هذا العصر:

ولمَّا وقفنا للوداعِ وبيننا … أحاديثُ يُعْيي الحاسبينَ عديدُها

تبادرَ دمعي فانصرفْتُ تهضُّني … إلى عبرتي بُقيا عليكَ أذودُها

فما أشبهتْ عينايَ إلاَّ سحابةً … دنا صرْبُها واستعجلتها رعودُها

فما زالَ زجرُ الرَّعدِ يحدو سحابها … فتبدو وأرواحُ الشَّمالِ تُحيدُها

فما أقلعَتْ حتَّى بكتْ فتضاحكَتْ … رياضُ الرُّبى فاخضرَّ بالعشبِ عودها

وهلْ تتلافى ذاتُ عقدٍ جُمانَها … إذا انسلَّ من سلكِ النِّظامِ فريدُها

فقال رفيقي ما للونِكَ حائلاً … وعينيكَ ما يعدو جفونكَ جودُها

فأغضيْتُ عن ردِّ الجوابِ تبلُّداً … وخيرُ قلوبِ العاشقينَ بليدُها

وقال البحتري:

لعَمرُ المغاني يومَ صحراءِ أرثدِ … لقد هيَّجتْ وجداً علَى ذيَ توجُّدِ

منازلُ أمستْ للرِّياحِ منازلاً … تردَّدُ منها بينَ نؤْيٍ ورِمْددِ

شجتْ صاحبي أطلالُها فتهلَّلتْ … مدامعهُ فيها وما قلتُ أسعدِ

وقلَّتْ لدارِ المالكيَّةِ عبرةٌ … منَ الشَّوقِ لم تُملكْ بصبرٍ فتُرْددِ

سقتها الغوادي حيثُ حلَّتْ ديارُها … علَى أنَّها لم تشفِ ذا الغُلَّةِ الصَّدِّي

تزيدينَ هجراً كلَّما ازددْتُ صبوةً … طلاباً لأنْ أُردى فها أنذا رَدِ

وقال الحسين بن الضحاك:

هَبوني أغضُّ إذا ما بدتْ … وأملكُ طرفي فلا أنظرُ

فكيفَ انتصاري إذا ما الدُّموعُ … نطقْنَ فبُحْنَ بما أُضمرُ

وقال آخر:

ألا أيُّها الباكونَ من ألمِ الهوَى … أظنُّكمُ أُدركْتُمُ بذنوبِ

تعالَوْا نُدافعْ جُهدنا عنْ قلوبنا … فنوشكَ أن نبقى بغيرِ قلوبِ

وقال البحتري:

أعرضْتِ حتَّى خلْتُ أنِّي ظالمٌ … وعتبتِ حتَّى قلتُ إنِّي مُذنبُ

سأعدُّ ما ألقى فإنْ كذَّبتني … فسلي الدُّموعَ فإنَّها لا تكذبُ

وقال آخر:

قالوا تصنَّعَ بالبُكاءِ فقلتُ هلْ … يبكي الشَّجيُّ لغيرِ ما في قلبهِ

ولقدْ ألِفتُ الدَّمعَ حتَّى ربَّما … جرتِ الجفونُ بهِ ولم أعلمْ بهِ

وقال آخر:

وغائبِ الرُّوحِ شاهدِ البدنِ … يبكي بعينٍ قليلةِ الوسنِ

يبكي عليها بها مخافةَ أنْ … تقْرِنهُ والظَّلامَ في قرَنِ

وقال البحتري:

هلْ أنتَ من حبِّ ليلَى آخذٌ بيدي … أوْ ناصرٌ لي علَى التَّعذيبِ والسَّهدِ

وهلْ دموعٌ أفاضَ الحزنُ ريِّقَها … تُدني منَ البعدِ أوْ تشفي منَ الكمدِ

قد باتَ مُستعبراً من كانَ مُصطبراً … وعادَ ذا جزعٍ من كانَ ذا جلدِ

إنْ أسخطَ الهجرُ لا أرجِعْ إلى بدلٍ … منهُ وإنْ أطلُبِ السُّلوانَ لا أجدِ

وقال الأعشى:

وفاضتْ دموعي فظلَّ الشُّؤونُ … إمَّا وكيفاً وإمَّا انحدارا

كما أسلمَ السِّلكُ منْ نظمهِ … لآلئَ مُنحدراتٍ صغارا

وقال آخر:

ولوْ أنَّ دمعي لم يفضْ لتقطَّعتْ … نباتُ فؤادي حينَ تُذكرُ من وجدي

وقدْ صرمتْني إذْ تيقَّنَ قلبُها … بأنْ لستُ عنها بالصَّبورِ ولا الجلدِ

فيا ليتني واللهِ متُّ ولمْ أكنْ … فتحتُ لها بالدَّمعِ باباً منَ الصَّدِّ

وقال آخر:

أعيْنَيَّ ما لي كلَّما بتُّ ليلةً … بأرضٍ فضاءٍ كانِ دمعي قراكُما

أعينيَّ لامَ اللهُ من لامَ فيكُما … مُحبّاً وآذى من يريدُ أذاكُما

أعينيَّ صبراً أعقباني حلاوةً … فقدْ خفتُ من طولِ البكاءِ عماكُما

ألا قد أرى واللهِ أنْ قد قذيتُما … بمن لا يبالي أن يطولَ قذاكُما

أجدَّكُما لا تذكرا زمناً مضى … بصنعاءَ لا بلْ جنِّباني نداكُما

وأنشدتني مريم الأسدية:

أعينيَّ من كحلِ الطَّبيبِ تداويا … فلا كحلَ بعدَ اليومِ يشفي قذاكُما

أعينيَّ كفَّا الدَّمعَ لا تُشمتا بنا … عدوّاً ولا يُحزنْ صديقاً بكاكُما

أمَّا الدَّلالة على صحَّة هذا القول من جهة الطِّبِّ فهي إنَّ الحرارة المتولِّدة من الحزن تنحاز إلى القلب من سائر أعضاء البدن ثمَّ تتصاعد إلى الدِّماغ فتتولَّد بخاراتٍ رديَّةً فإن طاقتها الطَّبيعة بالقوَّة الغريزيَّة أذابت تلك البخارات الرَّديَّة فأجرتها دموعاً وربَّما أضرَّ كثرة جريانها بالمجاري فأدماها فجرى الدَّم مجرى الدَّمع وهكذا تذيب تلك القوى البخارات المتولِّدة في الدِّماغ في كمون الحرارة لما يعرض للرَّأس من حرٍّ وبردٍ فتجريه من الأنف زكاماً فتذهب غائلته ولو لم تذبه وتجره من الأنف صار كيموساً غليظاً ومادَّة منصبةً إلى بعض الأعضاء الرَّئيسية فحينئذٍ تتلف أوْ تولِّد علَّةً غليظةً فكذلك الدُّموع إن لم تطق تذويبها القوى الطَّبيعيَّة واشتغلت عنها بمدافعة ما هو أخوف على النَّفس منها صارت تلك البخارات كيموساً غليظاً فولَّد أمراً عظيماً وإمَّا أن يستقرَّ في الدماغ فيفسد ما جمع فيبطل الذّكر ويفسد الفكر ويهيج التَّخييلات المستحيلات وذلك هو الجنون بعينه وربَّما فسدت منه كرَّةً أو كرَّتين فيفسد بفسادها ما كان مستقيماً بصلاحها وشرح ذلك يطول وليس من جنس ما ابتدأناه فيجب علينا أن نشرح منه ما أجملناه وربَّما انحدر ذلك الكيموس عن الدماغ إلى القلب فهتك بعض الحجب أوْ جميعها وكان منه حينئذٍ التَّلف لا محالة والله أعلم وربَّما انحدر إلى الكبد فمنع شهوة الطَّعام والشَّراب فحينئذٍ يكون نحول الجسم وضعف القوَّة ولقد أصاب كلَّ الإصابة على الإصابة حيث يقول:

عجائبُ الحبِّ لا تفنى وأوَّلها … ممَّنْ تحبُّ بتكذيبٍ وإنكارِ

ماءُ المدامعِ نارُ الشَّوقِ تُحدرهُ … فهلْ سمعتَ بماءٍ فاضَ من نارِ

لأنَّ هذا هو الَّذي قدَّمنا ذكره من أنَّ الحرارات هي المولِّدة لتلك البخارات الَّتي يحدث الدَّمع منها بإذابة الحرارة الغريزية لها وقد ذكرت الشعراء جملاً من أن فيض الدمع أروح من كمونه ولم يدلُّوا على سبب ذلك ولا أحسبهم وقفوا عليه ومن أقربهم وصفاً له الَّذي يقول:

كتمتُ الهوَى حتَّى بدا كتَمانهُ … وفاضَ فنمَّتْهُ عليَّ المدامعُ

ولو لمْ يفضْ دمعي لعادَ إلى الحشا … فقطَّعَ ما تُحنى عليهِ الأضالعُ

وقال بعض الأعراب:

يقولونَ لا تُنزفْ دموعكَ بالبُكا … فقلتُ وهلْ للعاشقينَ دموعُ

لئنْ كانَ أبقى لي التَّشوُّقُ قطرةً … لهنَّ إذنْ من عاشقٍ لمُضيعُ

أظنُّ دموعَ العينِ تذهبُ باطناً … إلى القلبِ حتَّى انصاعَ وهو صديعُ

وقال عمرو بن متبعة الرقاشي:

تضيقُ جفونُ العينِ عنْ عبراتها … فتفسحُها بعدَ التَّجلُّدِ والصَّبرِ

وغُصَّةِ صدرٍ أظهرتْها فرفَّهتْ … حرارةَ حزنٍ في الجوانحِ والصَّدرِ

وقال آخر:

سأبكي وما لي عبرةٌ من معوَّلٍ … لديكِ وما لي غيرُ حبِّكِ من جُرمِ

لعلَّ انسكابَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً … من الوجدِ أوْ يشفي الفؤادَ منَ السُّقمِ

وظنِّيَ أنْ لا يذهبَ الحزنُ بالبكا … عليكِ وأن أزدادَ كلْماً علَى كلْمِ

وقال ذو الرمة:

فوالله ما أدري أجوْلانُ عبرةٍ … تجودُ بها العينانِ أحرى أمِ الصَّبرُ

وفي هملانِ العينِ من غُصَّةِ الهوَى … رواحٌ وفي الصَّبرِ الجلادةُ والأجْرُ

وقال الفرزدق:

ألمْ ترَ أنِّي يومَ حرِّ سُويقةٍ … بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليا

خليلٌ دعا والرَّملُ بيني وبينهُ … فأسمعني سقياً لذلكَ داعيا

وكانَ جوابي أنْ بكيْتُ صبابةً … وفدَّيْتُ من لوْ يستطيعُ فدانيا

وقلتُ لها إنَّ البكاءَ لَراحةٌ … به يشتفي من ظنَّ أن لا تلاقيا

وقال ذو الرمة:

أمِنْ حذرِ الهجرانِ قلبكَ يجمحُ … كأنَّ فلوّاً بينَ حِضْنيكَ يرمحُ

أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما … علَى النَّأيِ والنَّائي يودُّ وينصحُ

وإنْ كنتُما قد هجتُما راجعَ الهوَى … لذي الشَّوقِ حتَّى ظلَّتِ العينُ تفسحُ

أجلْ عبرةٌ كادتْ لفُرقانِ منزلٍ … لميَّةَ لو لمْ تُسهلِ العينُ تذبحُ

وقال أيضاً:

خليليَّ عوجا من صدورِ الرَّواحلِ … بجُمهورِ حزْوى فأبكيا في المنازلِ

لعلَّ انحدارَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً … من الوجدِ أو يشفي نجيَّ البلابلِ

دعاني وما داعي الهوَى من بلادها … إذا ما نأتْ خرقاءُ عنِّي بغافلِ

وما يومُ خرقاءَ الَّذي فيهِ نلتقي … بنحسٍ علَى عيني ولا متطاولِ

وإنِّي لأُنحي الطَّرفَ من نحوِ غيرها … حياءً ولو طاوعتهُ لم يُعادلِ

إذا قلتُ ودِّعْ وصلَ خرقاءَ واجتنبْ … زيارتها تخلق حبالُ الوسائلِ

أبتْ ذكرٌ عوَّدْنَ أحشاءَ قلبهِ … خفوقاً وقضَّاتُ الهوَى في المفاصلِ

ولقد أحسن سابق اليزيدي في قوله:

وقد رابني من فعلِ عينيَ أنَّها … إذا ذُكرتْ سُعدى اعتراني جُمودُها

وفي الدَّمعِ لو جادتْ به العينُ شاهدٌ … عليها فلمْ يشهدْ لنفسي شهودُها

ولبعض أهل هذا العصر:

يا من إذا صدَّ لم أُظهرْ له جزَعا … لا تحسبنِّي علَى الهجرانِ ذا جلَدِ

ما يمنعُ الدَّمعَ أن تجري غواربهُ … إلاَّ شماتةُ من قدْ كانَ ذا حسدِ

فيضُ الدُّموعِ وإنْ تمَّتْ بوادرُها … أشفى لمنْ عالجَ البلوى منَ الكمدِ

وقال آخر:

نزفتُ دمعي وأزمعْتُ الرَّحيلَ غداً … فكيفَ أبكي ودمعُ العينِ منزوفُ

واسَوْأتي من عيونِ العاشقينَ غداً … إذا رحلتُ ودمعُ العينِ مكفوفُ

هذا البائس يعتذر من ذهاب دموعه ولو عرف علَّة ذهابها لكان محتاجاً إلى الاعتذار لو دامت من دوامها.

وأحسن من هذا قول قيس بن ذريح:

تُشوِّقني ذكرى إذا ما ذكرتُها … وكمْ عرضُ أرضٍ دونها وسماءُ

ومن عبراتٍ تعتريني أكفُّها … ومن زفراتٍ ما لهنَّ فناءُ

ومن قولها إنَّ القُوى قد تقطَّعتْ … وهلْ لقُوًى لا تستجدُّ بقاءُ

ومن أنَّها باتتْ ولم تدرِ ما الَّذي … لها عندنا من خلَّةٍ وصفاءُ

ومن أريحيَّاتِ الصِّبى عندَ ذكرها … ولمَّاتِ شوقٍ ما بهنَّ خفاءُ

فلا حبَّ حتَّى يلصقَ العظمُ بالحشا … ولا وجدَ حتَّى لا يكونَ بكاءُ

وقد لطف أبو تمام في هذا المعنى حيث يقول:

وإذا فقدْتَ أخاً ولم تفقدْ لهُ … دمعاً ولا صبراً فلستَ بفاقدِ

أفلا ترى إلى إزرائه على الدَّمع وتقصيره بأهله وإخباره أنَّ من قويت حاله انقطع دمعه ونحل جسمه.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

قدْكَ فلا دمعٌ ولا صبرُ … ربعُ الهوَى من أهلهِ قفْرُ

عمرُ الفتَى في كلِّ لذَّاتهِ … فإنْ نأتْ عنهُ فلا عمرُ

وقال محمد العلوي:

أبقى الهوَى منهُ جسماً كالهواءِ ضنًى … لقدْ تنسَّمَ منهُ وهوَ مفؤودُ

أنستُ بالذِّكرِ منها والسُّهادِ لهُ … أعجبْ بهِ من مسيءٍ وهو مورودُ

وقال قيس بن الملوح:

فأنتِ الَّتي إنْ شئتِ أشقيتِ عيشتي … وإنْ شئتِ بعدَ اللهِ أنعمتِ باليا

وأنتِ الَّتي ما من صديقٍ ولا عدًى … رأى نضْوَ ما أبقيت إلاَّ رثى ليا

وقال البحتري:

ألا هلْ أتاها بالمغيبِ سلامي … وهل خبرَتْ وجدي بها وغرامي

وهلْ علمتْ أنِّي ضنيتُ وأنَّها … شفائيَ من داءِ الضَّنى وسقامي

فداؤُكِ ما أبقيتِ منِّي فإنَّهُ … حُشاشةُ جسمٍ في نحولِ عظامي

وقال ماني:

ها أنا ذا يُسقطني للبِلى … عن فرشتي أنفاسُ عوَّادي

لو يحسدُ السِّلكُ علَى دقَّةٍ … حقّاً لأمسى بعضَ حسَّادي

وقال أيضاً:

ومُدنفٍ زادَ في النُّحولِ منِ ال … وجدِ إلى مثلِ دقَّةِ الألِفِ

يشاركُ الطَّيرَ في النَّحيبِ ولا … يشركهُ في النُّحولِ والقصفِ

وقال أيضاً:

أما ترَيْني ناحلَ الجسمِ … أصيرُ من همٍّ إلى همِّ

أُنقلُ من ثوبٍ إلى دونهِ … حتَّى كأنِّي بدنُ الكُمِّ

ولقد أحسن الَّذي يقول:

غابوا فأضحى بدني بعدهُمْ … لا تبصرُ العينُ لهُ فيَّا

بادى وجه إتلافهِمْ … إذا رأوْني بعدهُمْ حيَّا

واخَجلتا منهمْ ومن قولهمْ … ما ضرَّكَ الفقدُ لنا شيَّا

وقال آخر:

شِعْرُ ميتٍ أتاكَ عن لفظِ حيٍّ … صارَ بينَ الحياةِ والموتِ وقْفا

قد برتْهُ حوادثُ الدَّهرِ حتَّى … كادَ عن أعينِ الحوادثِ يخفى

وقال عمر بن أبي ربيعة:

إرحمي مُغرماً بحبِّكِ لاقى … من جوى الحبِّ والصَّبابةِ جهدا

قد براهُ وشفَّهُ الحبُّ حتَّى … صارَ ممَّا بهِ عظاماً وجِلدا

وأنشدني بعض الأدباء:

لم يبقَ إلاَّ نفسٌ خافتُ … ومقلةٌ إنسانُها باهتُ

ومغرمٌ توقدُ أحشاؤهُ … بالنَّارِ إلاَّ أنَّهُ ساكتُ

لم يبقَ في أعضالهِ مفصلٌ … إلاَّ وفيهِ سقمٌ ثابتُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يُعيِّرني الواشي بأنْ لستُ مُدْنفاً … كما هو من فرطِ الصَّبابةِ مدنفُ

فيا كاشحاً قد جاءَ في زيِّ ناصحٍ … تشاغلْ بغيري لستُ ممَّنْ يُعرَّفُ

ولا تلحَني فيمنْ أحبُّ فإنَّني … أضنُّ به ممَّا تظنُّ وأشغفُ

سلوهُ فإنِّي لا أكلِّمُ واشياً … أيدْري بمنْ يلحي وفيمنْ يُعنِّفُ

وقال مجنون بني عامر:

يا دارَ ليلَى بسقْطِ الحيِّ قد دُرستْ … إلاَّ الثُّمامُ وإلاَّ موقدُ النَّارِ

أبلى عظامكَ بعدَ اللَّحمِ ذكرهُما … كما تتبَّعَ قِدحَ الشَّوحطِ الباري

فبين صاحب هذا الكلام وصاحب الكلام الَّذي قبله بوْنٌ بعيدٌ وتفاوتٌ شديدٌ ويزعم أنَّ تزايد الحال توجب له نفي الهزال وهذا لم يرض لنفسه بنحول اللَّحم حتَّى أضاف إليه نحول العظم.

ولبعض أهل هذا العصر:

أهيمُ بذكرِ الكرخِ منِّي صبابةً … وما بيَ إلاَّ حبُّ من حلَّ بالكرخِ

تجرَّعْتُ كأساً من صدودِ محمَّدٍ … فقدْ أوهنَتْ عظمي وجازتْ علَى المُخِّ

فلستُ أُبالي بالرَّدى بعد فقدهِ … وهل يجزعُ المذبوحُ من ألمِ السَّلخِ

وقال آخر:

قالتْ ظلومُ سميَّةُ الظُّلمِ … إنِّي رأيتُكَ ناحلَ الجسمِ

يا من رمى قلبي فأقصدهُ … أنتَ الخبيرُ بموضعِ السَّهمِ

وقال أبو العتاهية:

أخِلاَّيَ بي شجوٌ وليسَ بكمْ شجوُ … وكلُّ امرئٍ ممَّا بصاحبهِ خِلْوُ

رأيتُ الهوَى جمرَ الغضا غيرَ أنَّهُ … علَى كلِّ حالٍ عندَ صاحبهِ حلوُ

وقال جرير:

أتنسى يومَ حوْمَلَ والدَّخولِ … وموقفنا علَى الطَّللِ المحيلِ

وقالتْ قد نحلْتَ وشبْتَ بعدي … بحقِّ الشَّيبِ بعدكِ والنُّحولِ

وقال آخر:

تقولُ وقد كتبتُ دقيقَ خطِّي … إليها لم تجنَّبْتَ الجليلا

فقلتُ لها نحلْتُ وصارَ خطِّي … مُساعدةً لصاحبهِ نحيلا

وقال آخر:

إنَّا منَ الحيِّ أقبلنا نؤُمُّكمُ … أنضاءَ شوقٍ علَى أنضاءِ أسفارِ

والصَّبُّ لا بدَّ أن يُبدي صبابتهُ … إذا تبدَّلَ غيرَ الدَّارِ بالدَّارِ

وهذا مأخوذ من قول امرئ القيس:

أكلَ الوجيفُ لحومهُمْ ولحومَها … فأتوْكَ أنضاءً علَى أنضاءِ

وقال الأحوص:

نفى نَوْمي وأسهرني غليلُ … وهمٌّ هاجَهُ حزنٌ طويلُ

وقالوا قد نحلْتَ وكنتَ جلْداً … وأيسرُ ما مُنيتُ به النُّحولُ

فإنْ يكنِ العويلُ يردُّ شيئاً … فقدْ أعولتُ إن نفعَ العويلُ

وكانتْ لا يُلائمُها مبيتٌ … عليها إنْ عتبتُ ولا مقيلُ

وكنَّا في الصَّفاءِ كماءِ مزنٍ … تُشابُ بهِ مُعتَّقةٌ شمولُ

وأُعجلُ عن سؤالِ الرَّكبِ صحبي … وأكرهُ أن يقالَ لهمْ أقيلوا

فقدْ أصبحتُ بعدكِ لا أُبالي … أسارَ الرَّكبُ أمْ طالَ النُّزولُ

فمنْ يكُ بالقُفولِ قريرَ عينٍ … فما أمسيتُ يعجبُني القُفولُ

كأنَّكَ لم تُلاقِ الدَّهرَ يوماً … خليلاً حينَ يُفردكَ الخليلُ

فصبراً للحوادثِ كلُّ حيٍّ … سبيلُ الهالكينَ لهُ سبيلُ

كان يقال سرُّك أسيرك فإذا تكلَّمت به صرت أسيره وأمَّا إفشاء من يحبُّ سرَّه إلى محبوبه فقد تقدَّم القول فيه بما في بعضه بلاغٌ وأمَّا اطِّلاع سائر النَّاس على وجد المحبّ بالمحبوب فهو خطأ من وجوهٍ أوَّلها تعرُّض المحبوب لما لا يحبّ من القالات والتَّشنيعات ثمَّ تعرُّض المحبّ نفسه للسِّعاية والارتقاب له وإنَّما يوصى بهذه الوصيّة من أمر سرّه إليه فأمّا من قد أخرجت الحال زمام السّرّ من يديه فلا ذنب له ولا لوم عليه وأمّا أسرار المحبوب عند المحبّ مثل مواعيده له وزيارته إيَّاه ومساعدته له على ما يهواه وما يجري بينهما من المعاتبات بل من سرائر المخاصمات فإنَّ غالبات الوجد لا توجب إفشائه بل توجب صونه وإخفائه ولن يشيع مثل ما وصفنا إلاَّ ضعيفٌ في الحال جدّاً فكتمان هذا أبين وجوباً من أن نزيد القول فيه توكيداً وإفشاء المحبَّة وحدها إلى غير المحبوب فواجبٌ على من أطاق كتمها ألاَّ يظهرها ومن عجز فخارجٌ عن باب المنع والوجوب ومن ضاق صدره عن سرِّه فلم يلم غيره على نشره وإن كان في الحقيقة ملوماً لأنَّ للمرء أن يتطوَّع بإظهار سرِّه وعلى المستودع أن لا يظهر سرَّ مستودعه.

ولبعض الأدباء في ذلك:

إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسهِ … فصدرُ الَّذي يُستودعُ السِّرَّ أضيقُ

ورُبَّ فتًى يجفو كرائمَ مالهِ … ويرعى سوامَ الأبعدينَ فيُشفقُ

وقال يزيد بن الطثرية:

ومُستخبرٍ عنها ليعلمَ ما الَّذي … لها في فؤادي غيرَ أنِّي أُحاذرُهْ

وردْتُ به عمياءَ منها ولمْ أكُنْ … إذا ما وشى واشٍ بليلى أُناظرُهْ

وقال آخر:

كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ … إذا استخبروهُ عنْ حديثكِ جاهلُهْ

رعى سرَّكُمْ في مُضمرِ القلبِ والحشا … حفيظٌ عليكمْ لا تخافُ غوائلُهْ

وأكتمُ نفسي بعضَ سرِّي تكرُّماً … إذا ما أضاعَ السِّرَّ في السِّرِّ جاهلُهْ

ومُستسقطي بالجدِّ والهزلِ قد نبتْ … علَى كلِّ حالٍ عن صفاتي معاولُهْ

تسقَّطني عنكُمْ فأخلفْتُ ظنَّهُ … وذو اللُّبِّ قد يُعيي الرِّجالَ تُحاولُهْ

فما رامَ حتَّى عادَ شكّاً يقينهُ … وأخلفهُ منِّي الَّذي كانَ ياملُهْ

وقال آخر:

قد جرَّرَ النَّاسُ أذيالَ الظُّنونِ بنا … وفرَّقَ النَّاسُ فينا ظنَّهمْ فرَقا

فجاهلٌ ينتحي بالظَّنِّ غيركمُ … وصادقٌ ليسَ يدري أنَّهُ صدقا

وقال بعض الأعراب:

وإنِّي لأستحييكِ أن أُطلقَ الهوَى … وأن لا تُعدَّى خلسةَ اللَّحظاتِ

سأطوي الهوَى تحتَ الحشا طيَّ نازحٍ … قضى وطراً إن لم تبُحْ عبراتي

وأصبرُ للهجرانِ حتَّى يملَّني … وأدفعَ عنكِ السَّوءَ بالشُّبهاتِ

وقال آخر:

وما وجدُ مِلْواحٍ منَ الهيمِ خُلِّيتْ … عن الماءِ حتَّى جوْفُها مُتصلصلُ

تحومُ وتغشاها العصيُّ وحولها … أقاطيعُ أنعامٍ تعلُّ وتنهلُ

بأكثرَ منِّي غلَّةً وتعطُّفاً … إلى الوردِ إلاَّ أنَّني أتجمَّلُ

وقال ابن الدمينة:

وكنَّا كريمَيْ معشرِ حُمَّ بيننا … تصافٍ فصُنَّاهُ بحسنِ صوانِ

سيبقى فلا يفنى ويخفى فلا يُرى … وما علموا من أمرنا ببيانِ

وقال ذو الرمة:

فما زلتُ أطوي النَّفسَ حتَّى كأنَّها … بذي الرِّمثِ لم تخطرْ علَى قلبِ ذاكرِ

حياءً وإشفاقاً منَ الرَّكبِ أن يروا … دليلاً علَى مستودعاتِ السَّرائرِ

ولعَمري إنَّ هذه الحال لجميلةٌ بين أهل الصَّفاء غير أنَّها من الأعداء أحسن منها من الأولياء إذْ ليس عجيباً أن يكتم الوليُّ سرَّ وليِّه كما يعجب من كتمان العدوِّ سرَّ عدوِّه.

وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:

وإنِّي وإن شاعتْ لديكَ سرائري … فإنَّ الَّذي استودعتني غيرُ شائعِ

أبى اللهُ لي إلاَّ الوفاءَ لكلِّ منْ … رعى ليَ عهدي أوْ أضاعَ ودائعي

فكُنْ آمناً من أنْ أُذيعَ بسرِّكمْ … فما سرُّ أعدائي لديَّ بذائعِ

وما أنا ممدوحاً بحفظِ وديعةٍ … أقلُّ حقوقِ النَّاسِ حفظُ الودائعِ

وقال آخر:

لعَمركَ ما استودَعْتُ سرِّي وسرَّها … سوانا حِذاراً أن تضيعَ السَّرائرُ

ولا خاطبتْها مُقلتايَ بلحظةٍ … فتعرفَ نجوانا العيونُ النَّواظرُ

ولكنْ جعلتُ الوهمَ بيني وبينها … رسولاً فأدْني ما تجنُّ الضَّمائرُ

أصونُ الهوَى بُقيا عليهِ منَ العد … ى مخافةَ أن يُغرى بذكراهُ ذاكرُ

وقال آخر:

تواقفَ معشوقانِ من غيرِ موعدٍ … وغُيِّبَ عن نجواهُما كلُّ كاشحِ

وكلَّتْ جفونُ العينِ عن حملِ مائها … فما ملكتْ فيضَ الدُّموعِ السَّوافحِ

وإنِّي لأطوي السِّرَّ عن كلِّ صاحبٍ … وإن كانَ للأسرارِ عدْلَ الجوانحِ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لعمر بن أبي ربيعة:

جرى ناصحٌ بالوُدِّ بيني وبينها … فقرَّبني يومَ الحِصابِ إلى قتلي

فلمَّا تواقفنا عرفْتُ الَّذي بها … كمثلِ الَّذي بي حذوكَ النَّعلَ بالنَّعلِ

فسلَّمتُ فاستأنستُ خيفةَ أن يرى … عدوٌّ مكاني أو يرى كاشحٌ فعلي

فقالتْ وألقتْ جانبَ السِّترِ إنَّما … معي فتكلَّمْ غيرَ ذي رقبةٍ أهلي

فقلتُ لها ما بي لكمْ من ضراعةٍ … ولكنَّ سرِّي ليسَ يحملهُ مثلي

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

ألا حبَّذا حبِّي وأرضٌ يحلُّها … وثوبٌ عليها في الثِّيابِ رقيقُ

وفي القلبِ من حبِّي الَّذي ما درى بهِ … عدوٌّ ولم يظهرْ عليهِ صديقُ

وقال آخر:

خشيتُ لساني أن يكونَ خؤونا … فأودعْتُهُ قلبي فكانَ أمينا

وقلتُ ليخفى دونَ عيني وناظري … أيا حركاتي كنَّ فيهِ سكونا

فما إنْ رأتْ عيني لعينيَ قطرةً … ولا سمعتْ أُذني لفِيَّ أنينا

لقد أحسنتْ أحشايَ تربيةَ الهوَى … فها هو ذا كهلاً وكان جنينا

ولم أرَ قلباً خالياً أُودعَ الهوَى … فدانَ لهُ حتَّى اصطفاهُ قرينا

وقال ابن ميادة:

وإنِّي لِما استودعْتُ يا أمَّ مالكٍ … علَى قدمٍ من عهدهِ لكَتومُ

وإنِّي علَى الشَّوقِ الَّذي أنا داخلٌ … إذا باحَ أصحابُ الهوَى لضمومُ

وقال آخر:

وحبٍّ كأطباقِ البحارِ كتمتهُ … معَ القلبِ لم يعلمْ بهِ منْ أُلاطفُ

وإنِّي أكُمُّ السِّرَّ حتَّى أردَّهُ … سليمَ الصَّفا لم تمتهنْهُ الزَّعانفُ

وأُخفي منَ الوجدِ الَّذي ما لوَ انَّهُ … يشيعُ لحرَّ الموطناتِ الألايفُ

وإنَّ البيت الثالث من هذه الأبيات ليس من الكلام الَّذي لا يقع مثله في النَّدرات ولئن كان صادقاً فيما قال إنَّه من صون إلفه لعلى حالٍ توجب له غلبة الوفاء بعهده والرِّعاية لودِّه إنَّ امرءاً يثق من وجده بأنَّ الإشاعة لذكره تدعو المستوطن الآلف إلى مفارقة الوطنين وطن روحه ووطن جسمه ثمَّ يترك ذلك ويتجشَّم مضاضة الكتمان في قلبه على الإشارة بذكر إلفه بما عساه غير مؤدٍّ إلى ضرره لشديد الإبقاء على إلفه ولمتمكِّن القدر على نفسه لأنَّ من ملكه الشّوق ملكاً صحيحاً عجز لأن لا يكون سرّه تصريحاً على أنَّ صاحبنا قد عرّض تعريضاً مليحاً بذكره لموضع إقامة قلبه إذْ هو بلا شكٍّ موضع إلفه وإنِّي لأستطرف قول نبهان العبشمي:

أما واللهِ ثمَّ اللهِ حقّاً … يميناً ثمَّ أُتبعُها يمينا

لقدْ نزلتْ أُمامة من فؤادي … تِلاعاً ما أُبحنَ ولا رُعينا

أظلُّ وما أبثُّ النَّاسَ أمري … ولا يخفى الَّذي بيَ فاعلمينا

أذودُ النَّفسَ عن ليلَى وإنِّي … ليعصيني شواجرُ قد صدينا

يرينُ مشارباً ويُذدنَ عنها … ويُكثرنَ الصُّدودَ وما روينا

فهو أعزَّه الله لم يرض بتسميةٍ واحدةٍ حتَّى سمَّى اثنتين سمَّى الَّتي هو مقبلٌ عليها والَّتي هو يجب الانصراف عنها ثمَّ لا يسكت مع ما جناه حتَّى يمتنَّ بأنه يكاتم هواه ليت شعري ما الَّذي بقي عليه أن يخبر به بعد وصفه لمحلِّ من يهواه من قلبه وإخباره في الشِّعر باسمه ولولا أنَّ هذا بابٌ لا يحتمل لمن ذكرت حاله فيه ما يحتمل لمن ذكر في الباب الَّذي يليه لصفحنا عن هذا وأضعافه.

ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول:

رماني بها قلبي فلمْ يُخطِ مقتلي … ولم يكُ من يرمي تصاب مقاتلُهْ

فإنْ متُّ فابكوني قتيلاً بطرفها … قتيلَ عدوٍّ حاضرٍ ما يزايلُهْ

شكى وكنى عمَّنْ أحبَّ ولم يبُحْ … بأكثرَ من هذا الَّذي هو قائلُهْ

وإنَّ أحقَّ النَّاسِ أنْ يكثُرَ البكا … عليهِ قتيلٌ ليسَ يُعرفُ قاتلُهْ

وأحسن مسلم بن الوليد في قوله:

عندي وعندكَ علمُ ما عندي … من ضُرِّ ما أُخفي وما أُبدي

لا أشتكي ما بي إليكَ ولوْ … نطقتْ بهِ العبراتُ في خدِّي

وجدي عليكَ أراهُ يُقنعُني … من وصفِ ما ألقى منَ الوجدِ

فإذا اصطبرتُ علَى السكوتِ فلمْ … أنطقْ فممَّا بي منَ الوجدِ

وأحسن الَّذي يقول:

وإنِّي لأُغضي الطَّرفَ عنكِ تجمُّلاً … وقلبي إلى أشياءَ عطشانُ جائعُ

فلا يسمعنْ سرِّي وسرَّكِ ثالثٌ … ألا كلُّ سرٍّ جاوزَ اثنينِ شائعُ

وأحسن سوار بن المضرّب حيث يقول:

إنِّي سأسترُ ما ذو العقلِ ساترهُ … من حاجةٍ وأُميتُ السرَّ كِتمانا

وحاجةٍ دونَ أخرى قد بدأتُ بها … جعلتُها للَّتي أخفيْتُ عُنوانا

إنِّي كأنِّي أرى مَنْ لا حياءَ لهُ … ولا أمانةَ وسطَ النَّاسِ عُريانا

وقال كثير:

وقد زعمَتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدها … ومن ذا الَّذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ

تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالذي … عهدْتِ ولم يخبرْ بسرِّكِ مُخبرُ

وقال ذو الرحل لقمان بن توبة القشيري:

خليليَّ سيرا فاسألا أمَّ عاصمٍ … لنا عن بقيَّاتِ العهودِ القدائم

ألمْ تعلمي يا عمرَكِ اللهُ أنَّني … بذكركِ هدَّاءٌ علَى النَّأيِ هائم

وإنِّي علَى الهجرانِ يا أمَّ عاصمٍ … أدومُ علَى عهدِ الخليلِ المكارم

إذا السِّرُّ عندي من خليلٍ تضمَّنتْ … به النَّفسُ لم يعلمْ به الدَّهرَ عالم

ترى بينَ أحناء الفؤادِ وضمِّهِ … إلى القلبِ أحناءَ الضُّلوعِ الكواتم

وقال الحسين بن الضحاك:

أيا منْ سروري به شقوةٌ … ومن صفوُ عيشي بهِ أكدرُ

تجنَّيْتَ تطلبُ لمَّا مللْتَ … عليَّ الذُّنوبَ ولا تقدرُ

وماذا يضرُّكَ من شهرتي … إذا كانَ سرُّكَ لا يُشهرُ

أمنِّي تخافُ انتشارَ الحديثِ … وحظِّيَ في سترهِ أوفرُ

ولو لم يكنْ فيَّ بُقيا عليكَ … نظرتُ لروحي كما تنظرُ

وقال بشار بن برد:

كتمْتُ عواذلي ما في فؤادي … وقلتُ لهمْ لِيُتَّهمَ البعيدُ

ففاضَتْ عبرةٌ أشفقْتُ منها … تسيلُ كأنَّ وابلها الفريدُ

فقالتْ قدْ بكيتَ فقلتُ كلاَّ … وهلْ يبكي منَ الشَّوقِ الجليدُ

ولكنِّي أصابَ سوادَ عيني … عُويدُ قذًى له طرَفٌ حديدُ

فقالوا ما لدمعتها سواءٌ … أكلْتَيْ مُقلتيكَ أصابَ عودُ

فقبلَ دموعِ عينكَ خبَّرتْنا … بما جمجمتَ زفرتُكَ الصَّعودُ

وقال آخر:

شيَّعتهمْ فاسترابوني فقلتُ لهمْ … إنِّي بُعثتُ معَ الأجمالِ أحدوها

قالوا فما نفسٌ يعلو كذا صعَداً … أمْ ما لعينكَ ما ترقا مآقيها

قلتُ التَّنفُّسُ للآدابِ نحوكمُ … وماءُ عينيَ جارٍ من قذًى فيها

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

ونادى بالتَّرحُّلِ بعضُ صحبي … فرحتُ ومُقلتي غرقى بماها

فراحوا والشَّقيُّ له ديونٌ … وأشيا من حوائجَ ما قضاها

فأرخيْتُ العمامةَ دونَ صحبي … علَى عيني وقلتُ جرى قذاها

وما لي حاجةٌ إلاَّ ببكرٍ … وما ذنبي علَى أحدٍ سواها

فقالوا من ضِراري كيفَ بكرُ … وكيفَ تراكَ ترجو أن تراها

فقلتُ اللهُ حمَّ فراقَ بكرٍ … فأرجو أنْ يحمَّ لنا لِقاها

ولبعض أهل هذا العصر:

وكمْ ليلةٍ قد بتُّ أرقبُ صبحها … وأنجمها في الجوِّ ما تتزحزحُ

ويُمنايَ فوقَ القلبِ تُبردُ حرَّةٌ … ويُسرايَ تحتَ الخدِّ والعينُ تسفحُ

فأصبحتُ مجهوداً عميداً منَ الهوَى … وقد كادَ قلبي بالصَّبابةِ يطفحُ

وما علمَ الواشونَ فضلاً عنِ العِدى … بسرٍّ وما مثلي بسرِّكَ بُفصحُ

فإنْ كانَ هذا القولُ عذراً قبلتهُ … وإن كانَ تعذيراً فمثلكَ يصفحُ

ذكروا أنَّ سكينة بنت الحسين ركبت في جواريها فمرَّت بعروة بن أُذينة الليثي وهو يغنِّي فقالت لجواريها: من الشَّيخ؟ قالوا: عروة فعدلت نحوه ثمَّ قالت: يا أبا التَّمام أنت تزعم أنَّك لم تعشق قطّ وأنت تقول:

قالتْ وأبثثْتُها وجدِي فبحتُ بهِ … قدْ كنتَ عندِي تحتَ السِّترِ فاستترِ

ألستَ تبصرُ مَنْ حولِي فقلتُ لها … غطَّى هواكِ وما ألقَى علَى بصرِي

كلُّ مَن ترى حولي مِن جواريَّ أحرارٌ إن كان خرج هذا الكلام من قلبٍ سليمٍ قطُّ.

وقال آخر:

وإنْ أُخفِي حبَّ الحاجبيِّ فطالَما … وإنْ أُبدهِ يوماً فقدْ غُلبَ الصَّبرُ

أقولُ وعينِي تستهلُّ بمائِها … أمَا ليَ في هذا وأمثالهِ أجرُ

وقال أبو ذؤيب الهذلي:

وعيَّرَها الواشونَ أنِّي أُحبُّها … وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها

فإنْ أعتذرْ منها فإنِّي مكذَّبٌ … وإنْ تعتذرْ يُرددْ عليها اعتذارُها

وقال الضحاك بن عقيل:

يقولونَ مجنونٌ بسمراءَ مولعٌ … ألا حبَّذا جنٌّ بها وولوعُ

وما زلتُ أُخفِي حبَّ سمراءَ منهمُ … وتعلمُ نفسِي أنَّه سيشيعُ

ولا خيرَ في حبٍّ يكونُ كأنَّهُ … شغافٌ أجنَّتهُ حشاً وضلوعُ

وقال الحسين بن وهب:

قدْ كتمتُ الهوَى بمبلغِ جُهدي … فبدَا منهُ غيرُ ما كنتُ أُبدي

فخلعتُ العذارَ فليعلمِ النَّاسُ … بأنِّي إيَّاكِ أُصفِي بودِّي

وأنشدني أحمد بن يحيى:

ولي كبدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعُني … بها كبداً ليستْ بذاتِ قروحِ

أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترُونَها … ومَنْ يشترِي ذا علَّةٍ بصحيحِ

وقال معاذ ليلَى:

وما زلتُ أعلُو حبَّ ليلَى فلمْ يزلْ … بيَ النَّقضُ والإبرامُ حتَّى علانِيا

وأشهدُ عندَ اللهِ أنِّي أُحبُّها … فهذا لها عندِي فما عندَها لِيا

قضَى اللهُ بالمعروفِ منها لغيرِنا … وبالشَّوقِ منها والتَّصابِي قضَى لِيا

فلوْ كنتُ أعمَى أخبطُ الأرضَ بالعصَا … أصمَّ فنادتْني أحببتُ المُناديا

خليليَّ إلاَّ تبكِيا ليَ أستعنْ … خليلاً إذا أنفدتُ دمعِي بكَى لِيا

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لامرأة من خثعم:

وإنْ تسألُونيَ مَنْ أُحبُّ فإنَّني … أُحبُّ وبيتَ اللهِ كعبَ بنَ طارقِ

أُحبُّ الفتَى الجعدَ السَّلوليَّ والعصا … منَ النَّبعِ هيَّاها لضربِ المفارقِ

وقال أبو العتاهية:

قالَ لي أحمدٌ ولمْ يدرِ ما بِي … أتحبُّ الغداةَ عُتبةَ حقَّا

فتنفَّستُ ثمَّ قلتُ نعمْ حُ … بّاً جرَى في العظامِ عرقاً فعِرقا

وقال آخر:

وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ … ليعلمنَ ما أُخفي ويعلمنَ ما أُبدِي

أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ … لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ

علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها … وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي

ولبعض أهل هذا العصر:

أرَى كلَّ مرتابٍ يخافُ خيالهُ … كأنَّ عيونَ العالمينَ تراقبهْ

يكادُ لفرطِ الخوفِ يُبدِي ضميرهُ … لكلِّ امرئٍ تُخشَى عليهِ عواقبهْ

عليَّ بوادٍ مَنْ يخافُ اغتيابُهُ … تُبتُّ لديها في الأنامِ مناقبهْ

فإيَّاكُما يا صاحبيَّ ومشهداً … تُنسِّيكما ما سرَّ منهُ عواقبهْ

وإيَّاكُما والذَّنبَ ترتكِبانهِ … وإنْ كانَ في الأحيانِ يعذرُ راكبهْ

فما كلُّ معذورٍ حقيقاً بعذرهِ … ولا كلُّ معذولٍ تعيبُ معايبهْ

وقال الحطيئة:

أكلُّ النَّاسِ يكتمُ حبَّ هندٍ … وما يخفى بذلكَ مِنْ خفيِّ

وما لكَ غيرَ نظَّارٍ إليها … كما نظرَ الفقيرُ إلى الغنيِّ

وقال الأحوص:

لقد سلا كلُّ صبٍّ أوْ قضَى وطراً … وما سلوتُ وما قضَّيتُ أوطارِي

أضمرتُ ذاكَ زماناً ثمَّ بحتُ بهِ … فزادَني سقماً بَوحي وإضماري

أخفيتُ في العرفِ هذا النُّكرَ ذلكمُ … فصرَّحَ الوجدُ عنْ عُرفِي وإنكارِي

وهذا لعمري من حسن الكلام ونفيسه ألا ترى إلى إخباره عن اجتهاده في كتم ما في قلبه حتَّى صرَّح الوجد به من غير قصد له ولا اختيار منه وهذه هي الحال التامة من جهتين إحداهما أن يكون المحبُّ مؤثراً الإسرار على الإعلان والأخرى أن يكون الوجد تملَّكه ملكاً يزول معه الكتمان فيكون ضابطاً لنفسه مؤثراً لكتمان سرِّ ما دام التَّمييز معه إلى أن يغلبه من الوجد ما لا يستطيع أن يدفعه.

ولقد أحسن البحتري غاية الإحسان حيث يقول:

نصرتُ لها الشَّوقَ اللَّجوجَ بأدمعٍ … تلاحقنَ في أعقابِ وصلٍ تصرَّما

وتيَّمنِي أنَّ الجوَى غيرُ مُقصرٍ … وأنَّ الحمَى وصفٌ لمنْ حلَّ بالحمَى

أُؤلِّفُ نفساً قدْ أُعيدتْ علَى الهوَى … شعاعاً وقلباً في الغواني مقسَّما

لقدْ أخذَ الرُّكبانُ أمسِ وغادرُوا … حديثَينِ منَّا ظاهراً ومكتَّما

وما كانَ بادِي الحبِّ منَّا ومنكمُ … ليخفَى ولا سرُّ التَّلاقي ليُعلما

أفلا ترى إلى حسن قسمته لما خفي وما ظهر من سرِّه فأعلمك أنَّ ما به من غلبات الوجد أخرجها الشَّوق عن يده فظهرت لمن بحضرته وأنَّ ما استودعه من السَّرائر الَّتي كانت بينه وبين إلفه لم يكن ليطَّلع عليها غيره وهذا هو الَّذي أطريناه ومدحنا من فعله في الباب الماضي من وجوب ظهور الحال وحدها واستخفاء ما بعدها والعلَّة في ذلك أنَّ مكتوم الحبّ يظهره الدَّمع ومكنون ما جرى من المحبِّين لا يظهره غير النُّطق والنَّاس قادرون على حبس ألسنتهم وعاجزون عن حبس دمعهم سيَّما إذا ملكهم اشتياق أو جدَّ بهم فراقٌ.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

يا حسرَتا قدْ فُقدَ العمرُ … وليسَ لي عنْ مالِكِي صبرُ

وكمْ أُدارِي النَّاسَ عنْ قصَّتي … وليسَ لي عنْ مالِكِي سرُّ

يا ربِّ قدْ عذَّبتني بالهوَى … طفلاً وكهلاً فلكَ الشُّكرُ

وقال جرير:

وما زالَ عنِّي قائدُ الشَّوقِ والهوَى … وذكركِ حتَّى كادَ يبدُو ويُفصحُ

أصونُ الهوَى مِنْ خشيةٍ أنْ تعرَّها … عيونٌ وأعداءٌ منَ القومِ كشَّحِ

فما برحَ الوجدُ الَّذي قدْ تلبَّستْ … بهِ النَّفسُ حتَّى كادَ لي الشَّوقُ يذبحُ

وقال العرجي:

إذا رمتُ كتماناً لوجدكِ حرَّشتْ … عليكِ العدَى عينٌ بسرِّكِ تنطقُ

لها شاهدٌ مِنْ دمعِها كلَّما وفَى … جرَى شاهدٌ مِنْ دمعِها يترقرقُ

وقال يزيد بن الطثرية:

جرَى واكفُ العينينِ بالدِّيمةِ السَّكبِ … وراجعَني مِنْ ذكرِ ما قدْ مضَى حبِّي

وأبدَى الهوَى ما كنتُ أُخفي منَ العدَى … وجنَّ لتذكارِ الصِّبى مرَّةً قلبِي

متى يُرسلِ المُشفِي إنِ النَّاسُ محَّلوا … عيوناً لأكنافِ المدينةِ فالهضبِ

أمتْ كمداً أوْ أضنَ حتَّى يُغيثني … مغيثٌ بسيبٍ مِنْ نداهنَّ أوْ قربِ

حنَا الحائمُ الصَّادي إليها وخُلِّيتْ … قلوبٌ فما يقدرونَ منها علَى شربِ

جعلنَ الهوَى داءً علينا وما لنا … إليهنَّ إذا أورَدْننا الدَّاءَ مِنْ ذنبِ

وقال آخر:

ولمَّا رأَى ألاَّ سبيلَ وأنَّه … هوَ البينُ مقصوراً عليهِ الأضالعُ

تهتَّكَ عنْ أسرارِ قلبٍ وأسجمتْ … مدامعُ عينٍ بينَها السِّرُّ ضائعُ

وقال العباس بن الأحنف:

أمسَى بكاكَ علَى هواكَ دليلا … فازجرْ دموعكَ عنْ أن تفيض همولا

دار الجليس عن الدموع فإن بدتْ … فانظر إلى أفقِ السماء طويلا

وقال آخر:

بين الجوانح منك قلبٌ خافقُ … ولسان دمعك عن ضميركَ ناطقُ

إجهرْ بحبِّكَ طالَما أسررْتَهُ … وإذا استترَ الحبُّ ماتَ العاشقُ

وقال آخر:

لولا تحدُّرُ دمعي حينَ تذكرُ لي … لمْ يعلمِ النَّاسُ مِنْ سرِّي بمكتومِ

فما احتِيالي بعينٍ غيرِ راقيةٍ … تبكِي بدمعينِ مذروفٍ ومسجومِ

نمَّتْ عليَّ فأبدتْ ما استترتُ بهِ … وقدْ يكونُ سَتيراً غيرَ مذمومِ

وقال أبو حفص الشطرنجي:

وقالتْ بحتَ بالأسرارِ عنِّي … وما هذا بفعلِ أخي الكريمةْ

فقلتُ لها فدتكِ النَّفسُ نمَّتْ … بما لاقيتُ مُقلتيَ المشومةْ

فألقتْ نفسَها ضحكاً وقالتْ … قدِ ارتفعَ الحديثُ عنِ النَّميمةْ

ولقد أحسن ابن قنبر حيث يقول:

خُذيني بما يجنِي لِسانِي واصفَحِي … لنا عنْ جناياتِ الدُّموعِ البواردِ

فقدْ شهرتْني مرَّةً بعدَ مرَّةٍ … فأبدتْ برغمي خافياتِ سرائرِي

ولوْ أنَّ عَيني طاوعتْني لاختَفَى … عليَّ الهوَى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ

ولكنَّها تُبدِي إذا ما ذكرتكمْ … بفيضِ مآقيها خَبايا الضمائرِ

وقال أحمد بن أبي قين:

ولمَّا أبتْ عينايَ أنْ تستُرا الهوَى … وأنْ تقِفا فيضُ الدُّموعِ السَّواكبِ

تثاءبتُ كَيْلا ينكرَ الدَّمعُ منكرٌ … ولكنْ قليلٌ ما بقاءُ التَّثاؤبِ

أعرَّضْتُماني للنَّدِي ونمتُما … عليَّ لبئسَ الصَّاحبانِ لصاحبِ

وقال النابغة:

طوَى كشحاً خليلكَ والجناحَا … لبينٍ منكَ يومَ غدَا وراحَا

فيا لكِ حاجةً في صدرِ صبٍّ … رأَى الأظعانَ باكرةً فباحَا

وقال البحتري:

يا أخا الأزدِ ما حفظتَ الإخاءَ … لمحبٍّ وما ذكرتَ الوفاءَ

عذلاً يتركُ الحنينَ أنيناً … في هوًى يتركُ الدُّموعَ دماءَ

كيفَ أغدُو منَ الصَّبابةِ خلْواً … بعدَما راحتِ الدِّيارُ خلاءَ

حجبوها حتَّى بدتْ لفراقٍ … كانَ داءً لعاشقٍ ودواءَ

أضحكَ البينُ يومَ ذاكَ وأبكَى … كلَّ ذِي صبوةٍ وسرَّ وساءَ

فجعلنا الوداعَ فيهِ سلاماً … وجعلنا الفراقَ فيهِ لقاءَ

ووشتْ بي إلى الوشاةِ دموعُ ال … عينِ حتَّى حسبتُها أعداءَ

قد كثَّر النَّاس في شكاية الدَّمع وخبَّروا بأنَّه من أشدّ الأشياء دلالة على السُّرور بما امتنع بضروب من الصَّنائع إمَّا لفرط جفاف في الدِّماغ يحتمل ما ورد عليه من البخارات فلا ينحدر عنه حتَّى يكثر كثرةً غالبةً وربَّما امتنع لشدَّة الكمد حسب ما ذكرناه بديَّا وللهوى دلالات تتبيَّن في الزَّفرات واللَّون والنَّظر والإرشادات لا تكاد تفتقد وجدها ومفتقدها أيضاً يراها وإن لم يعرف لها شبيهاً عند تلاقي المتحابَّين.

أنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

تكلَّمُ عمَّا في الصُّدورِ عيونُنا … وتفقهُ عنَّا أعينٌ وحواجبُ

فمنْ قالَ إنَّ الحبَّ يخفَى لذِي الهوَى … إذا ما رأَى أحبابهُ فهوَ كاذبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

لا خيرَ في عاشقٍ يُخفي صبابتهُ … بالقولِ والشَّوقِ مِنْ زفراتهِ بادِي

يُخفي هواهُ وما يخفَى علَى أحدٍ … حتَّى علَى العيسِ والرُّكبانِ والحادِي

وقال مسلم بن الوليد:

أمَّا الجميعُ فزايلوكَ لنيَّةٍ … فمتَى تراهمْ راجعينَ قفُولا

تاللهِ ما علمَ السُّرورُ ولا الكرَى … أنَّ الفراقَ منَ اللِّقاءِ أُدِيلا

فإذا زجرتُ القلبَ عادَ وجيبُهُ … وإذا حبستُ الدَّمعَ فاضَ هُمولا

وإذا رجعتُ إلى الهوَى بعثَ الهوَى … نفَساً يكونُ علَى الضَّميرِ دليلا

ولبعض أهل هذا العصر:

هُبونِي أخفيتُ الَّذي بي منَ الهوَى … ألمْ يكُ عنْ ما بي ضميرٌ مُترجِما

وما زلتُ أستحيي منَ النَّاسِ أن أُرَى … ظلوماً لإلفِي أوْ أُرَى متظلِّما

وباللهِ ما حلتُ الغداةَ عنِ الَّذي … عهدتَ ولكنْ كنتُ إذْ ذاكَ مُنعما

وقدْ ذابَ قلبِي اليومَ شوقاً وصبوةً … إليكَ وما ترْثِي لقلبِي منهُما

فلا تتعجَّبْ إنْ تظلَّمتُ مُحوَجاً … فقدْ حانَ للمظلومِ أنْ يتظلَّما

وقال آخر:

لو كنتُ أُظهرُ ما أُكاتمكمْ بهِ … هلْ كنتُ إلاَّ مُخبراً بودادِي

أفليسَ في نظَري تأمُّلُ بائنٍ … يُنبيكَ عمَّا في ضميرِ فؤادِي

فهذه الجهات كلّها تنمُّ الهوَى على أهله وتدلُّ مشاهدتها على موضعه وربَّما كان إفراط التَّحفُّظ دالاً على هوى التَّحفُّظ لأنَّ التَّصنُّع الشَّديد يخرج عند العادة فيوقع التّهمة بمن استعمله لقد سمعت فتًى من أهل الأدب يقول لآخر من أهل الهوى وقد أفرط في احتشامه وحاذر أن يطَّلع على شيءٍ من حاله قد والله بلغ منِّي ما أراه بك على أنَّه ما يظهر لي من حالك إلاَّ كتمانك لأمرك.

ولبعض أهل هذا العصر في نحو ذلك:

أريتَنِي النَّجمَ يجري بالنَّهارِ فلا … فرقاً أرَى بينَ إصباحِي وإمسائِي

أخفيتُ حبَّكَ حتَّى قدْ ضُنيتُ بهِ … فصارَ يُظهرُ ما أُخفيهِ إخفائِي

العلَّة في ذلك أنَّ المعاتبة إنَّما هي توقيف على مواضع المصلحة وتبين لما في الحال الَّتي بقي عليها المعاتب من المنقصة فمن كان أصل هواه اختياراً لنفسه فتبيَّن موضع النَّقص في اختياره رجع إلى قول عذَّاله ومن وقع هواه مضطراً بغلبة إلى الانقياد لإلفه لم يعلق العذل بسمعه لأنَّ العذل يأتيه من غير جهته والشَّيءُ لا يوجب زواله إلاَّ ضدُّ ما أوجب ثباته فكما أنَّ الهوَى الاختياريَّ يضادُّه التَّوقيف على مواضع الحال فيوجب على صاحبه أن يختار إزالته فكذلك الهوَى الاضطراريُّ لا يزايله إلاَّ اضطرارٌ يضادُّه والهوَى الاختياريُّ أيضاً على ضعفه لا تمحوه ضروريَّته ولا تعارض في تركه لأنَّها تجيء من غير جهته وهو لا يزول إلاَّ بزوال الجهة الَّتي أوجبته إذْ محالٌ أن يكون شيءٌ علَّةً لشيءٍ فيزول المعلول والعلَّة قائمةٌ.

ولقد أحسن عمر بن ضبيعة الرقاشي حيث يقول:

قضَى اللهُ حبَّ المالكيَّةِ فاصطبرْ … عليهِ فقدْ تجرِي الأُمورُ علَى قدرِ

ألا فليقلْ مَنْ شاءَ ما شاءَ إنَّما … يُلامُ الفتَى فيما استطاعَ منَ الأمرِ

وللبحتري في نحو ذلك:

للحبِّ عهدٌ في فؤادِي لمْ يخنْ … منه السُّلوُّ وذمَّةٌ لمْ تخفرِ

لا أبتغِي بدلاً بسُلمَى خُلَّةً … فلتقتربْ بالوصلِ أوْ فلتهجرِ

وقال يحيى بن منصور:

يلومكَ فيها اللائمونَ كأنَّني … لأمرِ الوشاةِ مستقيدٌ مسلِّمُ

وإنِّي أرَى العينَ الَّتي لا تُنيمُها … إذا جعلتْ عينُ الوشاةِ تُنوِّمُ

فها أنا متروكٌ وبثِّي فإنَّهُ … شتيتٌ بهِ أهواؤهُ متقسِّمُ

ولقد أحسن أبو تمام حيث يقول:

ألمْ ترَني خلَّيتُ عيني وشانَها … ولمْ أحفلِ الدُّنيا ولا حدَثانَها

لقدْ خوَّفتْني النَّائباتُ صروفَها … ولو آمنتْني ما قبلتُ أمانَها

عِنانٌ منَ اللَّذَّاتِ قدْ كانَ في يدي … فلمَّا مضَى الإلفُ استردَّتْ عنانَها

يقولونَ هلْ يبكِي الفتَى لخريدةٍ … متَى ما أرادَ اعتاضَ عَشراً مكانَها

وهلْ يستعيضُ المرءُ مِنْ خَمسِ كفِّهِ … ولو صاغَ مِنْ حرِّ اللُّجينِ بنانَها

وأنشدني أحمد بن يحيى:

لا تلْحِيا في حبِّ ظَبيةَ هائماً … أمسَى بظبيةَ هائماً مشغولا

هَيمانُ يعطشُ بالفراتِ لحبٌّها … ويزيدهُ بردُ الشَّبابِ غَليلا

وقال آخر:

فكادَ يعتبُني في غيرِ فاحشةٍ … بعضِ اتِّباعِ الهوَى والمشربَ الألفُ

يا أيُّها العاذلُ الرَّاجي لأُعتبهُ … ماذا تراكَ منَ التَّلوامِ تَعترفُ

أفي الصِّبى لمتَني أنتَ الفداءُ لهُ … وهلْ عصَى لكَ مِنْ لذَّاتهِ خلَفُ

إذا ذممتَ الصِّبى يوماً فلا ترَني … ممَّنْ يطيعُكَ أوْ يرضَى بما تصفُ

إنَّ القلوبُ إذا نيَّاتها اختلفتْ … فلا تكادُ على الأضغانِ تأتلفُ

وأنشدني أحمد بن يحيى:

وقدْ علمتْ سمراءُ أنَّ حديثَها … فجيعٌ كما ماءُ السَّماءِ فجيعُ

إذا أمرتْكَ العاذلاتُ بصرمِها … هفتْ كبدٌ ممَّا يقُلْنَ صديعُ

وزادني غيره:

وكيف أُطيعُ العاذلاتِ وحبُّها … يورِّقُني والعاذلاتُ هجوعُ

وقال أبو صخر الهذلي:

أرِقتُ ونامَ عنِّي مَنْ يلومُ … ولكنْ لمْ تنمْ عنِّي الهمومُ

كأنِّي مِنْ تذكُّرها أُلاقي … أذًى ما أظلمَ اللَّيلُ البهيمُ

سليمٌ ملَّ منهُ أقرَبوهُ … وعطَّلهُ المُداوي والحميمُ

يلومكَ في مودَّتها رجالٌ … لَوَ انَّهمُ بدائكَ لمْ يلومُوا

قلوبهمُ وأنفسهمْ صحاحٌ … وقلبكَ مِنْ تذكُّرها سقيمُ

فأنتَ وإنْ لحاكَ النَّاسُ فيها … جميعَ النَّاسِ تعصِي أوْ تلومُ

وقال الضحاك بن عقيل الخفاجي:

لقدْ لامَني فيها رجالٌ وقدْ أرَى … مكانَ نساءٍ قدْ مُلئنَ لها حقدا

يُخبِّروني أنِّي سفيهٌ فزادَني … مقالةُ مَنْ قدْ قالَ لي ولَها وَجدا

علَى حبِّها فازددتُ ضعفاً ولم أكنْ … أرَى قبلُ عندِي غيرَ ما استسلفتْ ودَّا

وهذا لعمري من أحسن الكلام وجيده وإن كان في البيت الأخير غلط يسير لأنه زعم أنَّ من ملامهم فيها زاده ضعفاً من محبَّتها والعذل لا يزيد المحبة ولا ينقصها ولكن النَّفس إذا اشتدَّ ضنُّها فغُري العذل بمسامعها عارضها ضربٌ من الإشفاق على حال من عوتبت في محبَّته وخشيت أن يكون العذل مزيلاً له عن مرتبته وكان تحريك خاطرة الضَّنّ بذلك زائدة في القلق ومهيِّجة للفكر فيتوهَّم صاحبها أنَّ محبَّته قد تزايدت وما تزايدت ولا تناقصت وهذا الغلط لم يجر على صاحب هذه الأبيات وحده بل قد جرى على من قبله وبعده.

وقال معاذ ليلى في نحو ذلك:

يقرُّ بعيني قربُها ويَزيدُني … بها عجباً مَنْ كانَ عندِي يعيبُها

وكمْ قائلٍ قد قالَ تُبْ فعصيتهُ … وتلكَ لعمري توبةٌ لا أتوبُها

فيا نفسُ صبراً لستُ واللهِ فاعلَمي … بأوَّلِ نفسٍ غابَ عنها حبيبُها

وقال عمر بن يحيى الطائي:

قالَ العواذلُ لي أينقصُ حبُّها … لا بلْ علَى رغمِ الوشاةِ يزيدُ

تأبَى قرابةُ بينِنا ومودَّةٌ … ولها عليَّ مواثقٌ وعهودُ

طُوِّينَ في حججٍ مضينَ سوالفٍ … حذارَ الوشاةِ فنقضُهنَّ شديدُ

وإذا تعرَّضَ زاجرٌ عنْ حبِّها … قُلنا عليكَ صفائحٌ ولحودُ

وقالت وجيهة بنت أوس:

وعاذلةٍ تغدُو عليَّ تلومُني … علَى الشَّوقِ لمْ تمحُ الصَّبابةَ مِنْ قلبِي

فما ليَ إنْ أحببتُ أرضَ عشيرتِي … وأحببتُ طرفاءَ القُصيبةِ مِنْ ذنبِ

وقال مالك بن حارث الهذلي:

يقولُ العاذلاتُ أكلَّ يومٍ … لسُرُّبةِ مالكٍ عنَقٌ شَناحُ

وقدْ خرجتْ نفوسهمْ فماتُوا … علَى إخوانهمْ وهمُ صحاحُ

ولستُ مقصِّراً ما سافَ مالِي … ولو عُرضتْ لِلَبَّتيَ الرِّماحُ

فلومُوا ما بدَا لكمُ فإنِّي … سأُعتبكمْ إذا انفسخَ المُراحُ

وقال جرير:

إذا ما نمتِ هانَ عليكِ ليلِي … وليلُ الطَّارقاتِ منَ الهمومِ

إذا ما لُمتِني وعذرتُ نفسِي … فلومِي ما بدَا لكِ أنْ تلومِي

وقال القعقاع:

خليليَّ مرَّا بي قليلاً لتؤجَرا … وأنْ تكسَبا خيراً منَ الحمدِ والأجرِ

فقالا اتَّقِ اللهَ العليَّ فإنَّما … تُصلِّيكَ أسبابَ الهوَى لهبُ الجمرِ

فقلتُ أطيعانِي فليسَ عليكُما … حسابِي إذا لاقيتُ ربِّي ولا وِزرِي

عليَّ الذي أجنِي وليسَ عليكُما … وربِّي أولى بالتَّجوُّزِ والغفرِ

أتحرقُني يا ربِّ إنْ عجتُ عَوجةً … علَى رخصةِ الأطرافِ طيِّبةِ النَّشرِ

أما العذل الذي يقع ابتداء فليس على النَّفس منه من المؤونة كما عليها من عذل من أملت عنده من المعونة ولقد كسب هذا البائس على نفسه تعباً كاسراً لمنقلبه ومسقطاً لهمَّته باستدعائه المساعدة من ذكر قصَّته ومن هذا وأشباهه كرهنا للمحبِّ الاطلاع على أسراره ولكن متى غُلب على أمره لم يلم على إفشاء سرِّه.

ولقد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:

فحْواكَ عينٌ علَى نجواكَ يا مَذِلُ … حتَّامَ لا يتقضَّى قولكَ الخطِلُ

وإنَّ أسمجَ مَنْ تشكُو إليهِ هوًى … مَنْ كانَ أحسنَ شيءٍ عندهُ العذلُ

وقال يزيد بن الطثرية:

تذكَّرتُ ذاتَ الخالِ مِنْ فرطِ حبِّها … ضُحًى والقِلاصُ اليَعمُلاتُ بنا تخدِي

فما ملكتْ عينايَ حينَ ذكرتُها … دموعَهما حتَّى انحدرنَ علَى خدِّي

فأنَّبني صحبِي وقالُوا أمنْ هوًى … بكيتَ ولو كانُوا همُ وجدُوا وجدِي

وقالُوا لقدْ كنَّا نعدُّكَ مرَّةً … جليداً وما هذا بفعلِ فتًى جلدِ

ألا لا تلومُوني فلستُ وإنْ نأتْ … بمُنصرمٍ عنها هوايَ ولا ودِّي

ألمْ تعلَمَا أنَّ الرَّعابيبَ لمْ تزلْ … مَفاتينَ قبلِي للكهولِ وللمُردِ

فإنْ أغوَلا تُكتبْ عليكم غوايَتي … أجلْ لا وإنْ أرشدْ فليسَ لكمْ رُشدي

وإنَّ لِذاتِ الخالِ يا صلحِ زُلفةً … ومنزلةً ما نالَها أحدٌ غيرِي

وقال أيضاً:

ألا يا خليليَّ الَّذينَ تواصَيا … بيَ اللَّومَ إلاَّ أنْ أُطيعَ وأسمعَا

قفا فانظُرا لا بدَّ مِنْ رجعِ نظرةٍ … يمانيَّةٍ شتَّى بها القومُ أوْ معَا

لمُغتصبٍ قد عزَّهُ القومُ أمرهُ … يكفُّ حياءً عبرةً أنْ تطلَّعا

فإنْ كنتمُ ترجونَ أنْ تصرِفوا الهوَى … بِيهمَا ويُروَى في السَّرابِ فينقَعا

فردُّوا هبوبَ الرِّيحِ أوْ غيِّروا الهوَى … إذا حلَّ ألواذَ الحشا فتمنَّعا

وقال ذو الرمة:

أعاذلَ قدْ أكثرتِ مِنْ قيلِ قائلٍ … وعيبٌ علَى ذي اللُّبِّ لومُ العواذلِ

أعاذلَ قد جرَّبتُ في الدَّهرِ ما كفَى … ونظَّرتُ في أعقابِ حقٍّ وباطلِ

فما الدَّهرُ مِنْ خرقاءَ إلاَّ كما أرى … حنينٌ وتذارفُ الدُّموعِ الهواطلِ

وقال عدي بن زيد:

وعاذلةٍ هبَّتْ بليلٍ تلومُني … فلمَّا غلتْ في اللَّومِ قلتُ لها اقصِرِي

أعاذلَ قد أطنبتِ غيرَ مُصيبةٍ … فإنْ كنتِ في غيٍّ فنفسكِ فارْشِدي

أعاذلَ إنَّ الجهلَ مِنْ لذَّةِ الفتَى … وإنَّ المنايا للرِّجالِ بمرصدِ

كفَى حزَناً للمرءِ أيَّامُ دهرهِ … تروحُ لهُ بالواعظاتِ وتغتدِي

وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر:

يقولونَ مهلاً يا جميلُ وإنَّني … لأُقسمُ ما بي عنْ بُثينةَ مِنْ مهلِ

أحلماً فقبلَ اليومِ كانَ أوانهُ … أَمَ اخشَى فقبلَ اليومِ أُوعدتُ بالقتلِ

وقال آخر:

تقولُ العاذلاتُ تعزَّ عنها … وداوِ غليلَ قلبكَ بالسُّلوِّ

وكيفَ ونظرةٌ منها اختلاساً … ألذَّ منَ الشَّماتةِ بالعدوِّ

وقال الطائي:

أذكتْ عليكَ شهابَ نارٍ في الحشا … بالعذلِ وهناً أُختُ آلِ شهابِ

عذلاً شبيهاً بالجنونِ كأنَّما … قرأتْ بهِ الورهاءُ نصفَ كتابِ

وقال البحتري:

طفقتْ تلومُ وَلاتَ حينَ ملامهِ … لا عندَ كرَّتهِ ولا إحجامهِ

لمْ يروِ مِنْ ماءِ الشَّبابِ ولا انجلتْ … ذهبيَّةُ الصَّبَواتِ عنْ أيَّامهِ

وقال آخر:

مِنْ أجلكِ ظلَّ العائداتُ يلُمْنني … ويزعمنَ أنِّي في طلابكِ عانِي

ويرفدْنني نصحاً زعمنَ وإنَّهُ … لَفي حرجٍ مَنْ لامَني ونَهانِي

وقال آخر:

أترانِي تاركاً باللهِ … ما أقوَى لِما أهوَى

أنا أشهدُ أنَّ الحبَّ … مِنْ قلبِي إذنْ دعوَى

وذكروا أنَّ العتبي حبس ابناً له في بيتٍ لمَّا ظهر على أنَّه عاشق ليكون الحبس رادعاً له ففتح الباب عنه بعد مدَّة فوجده قد كتب على الحائط:

أتظنُّ ويحكَ أنَّني أبلَى … وأُطيعُ في الهوَى عقلا

ومدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع فلمَّا نظر أبوه إلى ذلك يئس منه فخلَّى سبيله.

وقال آخر:

يلومكَ فيها اللاَّئمونَ نصاحةً … فليتَ الهوَى باللاَّئمينَ مكانِيا

لَوَ انَّ الهوَى عنْ حبِّ ليلَى أطاعني … أطعتُ ولكنَّ الهوَى قدْ عصانِيا

وهذا الكلام لا يكون إلاَّ عن حال ضعيفة أو بعقب ضجرةٍ شديدةٍ لأنَّ صاحبه لم يرضَ بالتَّبرُّم من هواه حتَّى ضمَّ إلى ذلك تمنِّي انصراف الحال إلى سواه وأحسن من هذا قولاً وأجمل منه فعلاً الذي يقول:

تشكَّى المحبُّونَ الصَّبابةَ ليتَني … تحمَّلتُ ما يلقَوْنَ مِنْ بينِهم وحدِي

وكانتْ لنفسِي لذَّةُ الحبِّ كلُّها … فلمْ يلقَها قبلِي محبٌّ ولا بعدِي

وأحسن مجنون بني عامر حيث يقول:

وقالُوا لوْ تشاءُ سلوتَ عنها … فقلتُ لهمْ فإنِّي لا أشاءُ

لها حبٌّ تمكَّنَ مِنْ فؤادِي … فليسَ لهُ وإنْ زُجر انتهاءُ

وقال آخر:

يقولونَ لي اصبرْ وائْتجرْ قلتُ طالَما … صبرتُ ولكنْ لا أرَى الصَّبرَ ينفعُ

فيا ليتَ أجرِي كانَ قسِّمَ بينهمْ … ومِنْ دونِيَ الصَّمانُ فالخبتُ أجمعُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يُعاتبُني أُناسٌ في التَّصابِي … بألبابٍ وأفئدةٍ صحاحِ

إذا اختلطَ الظَّلامُ وهمْ سُكارَى … بكاساتِ الرُّقادِ إلى الصَّباحِ

ولِي سُكرٌ يُجنِّبني رُقادِي … فما أدرِي الغدوَّ منَ الرَّواحِ

أمَا لي في بلادِ اللهِ بابٌ … يؤدِّيني إلى سبلِ النَّجاحِ

بلَى في الأرضِ متَّسعٌ عريضٌ … ولكنْ قدْ مُنعتُ منَ البراحِ

وما يُغنِي العقابَ عيانُ صيدٍ … إذا كانَ العقابُ بلا جناحِ

من كان أوَّل ما وقع به من أسباب المحبة استحساناً ثمَّ ينمي على الترتيب الذي وصفناه حالاً فحالاً حتَّى ينتهي إلى بعض الأحوال الصِّعاب التي ذكرناها كان زوالها إن زال بطيئاً ومن عشق بأوَّل النَّظر سلا مع أوَّل الظَّفر فإن لم يظفر بمن يهواه سلا إذا تعذَّر عليه ما يتمنَّاه فإذا وقع الهوى بأوَّل نظر ثمَّ ارتقى صاحبه ارتقاءً بغير ترتيب حتَّى صار مدلَّهاً بمن يهواه قبل أن تطول معاشرته كان بقاء ذلك الهوى يسيراً وهكذا كل شيءٍ في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير ترتيب انحطَّ انحطاطاً طويلاً ولعمري لقد أحسن الذي يقول:

وما كانَ حُبِّيها لأوَّلِ نظرةٍ … ولا غمرةً مِنْ صبوةٍ فتجلَّتِ

ولكنَّها الدُّنيا تولَّتْ فما الَّذي … يُعزِّي عنِ الدُّنيا إذا ما تولَّتِ

وقال الحسين بن وهب في هذا المعنى فأحسن:

أرَى كلَّ يومٍ لوعةً أستجدُّها … ونفساً يُعنِّيها هواها وجهدُها

وصبوةَ قلبٍ كانَ هولاً بدِيُّها … فعادتْ علَى الأيَّامِ قدْ جدَّ جدُّها

وقال آخر:

شوقي إليكَ علَى الأيَّامِ يزدادُ … والقلبُ بعدكَ للأحزانِ مُنقادُ

يا لهفَ نفسِي علَى إلفٍ فُجعتُ بهِ … كأنَّ أيَّامهُ في الحسنِ أعيادُ

وقال آخر:

وإنِّي وإيَّاها لكالخمرِ والغِنى … متَى تستطعْ منها الزِّيادةَ تزددِ

إذا ازددتُ منها زدتُ وجداً بقُربها … فكيفَ احتراسِي مِنْ هوًى متجدِّدِ

وقال كثير:

يلومكَ في ليلَى وعقلكَ عندَها … رجالٌ ولمْ تذهبْ لهمْ بعقولِ

وما زلتُ مِنْ ليلَى لدُنْ طرَّ شارِبي … إلى اليومِ كالمُلقَى بكلِّ سبيلِ

وقال بعض الأعراب:

سقَى اللهُ مِنْ حبِّي لهُ كلَّ ليلةٍ … ويومٍ علَى مرِّ السِّنينَ يزيدُ

جرَى حبُّها والدَّهرُ في طلقَيْهما … فضُعضعَ ركنَ الدَّهرِ وهو جليدُ

وقال أبو تمام:

هوًى كانَ خَلساً إنَّ مِنْ أبردِ الهوَى … هوًى جلتُ في أفنائهِ وهو خاملُ

ولنْ تنظمَ العقدَ الكعابُ لزينةٍ … كما انتظمَ الشَّملَ الشَّتيتَ الشمائلُ

وقدْ تألفُ العينُ الدُّجى وهو قيدُها … ويُرجَى شفاءُ السُّمِّ والسُّمُّ قاتلُ

وقال مجنون بني عامر:

فلوْ كانَ حبِّي آلَ ليلَى كحادثٍ … إلى وقتِ يومٍ قدْ تقضَّتْ همومُها

ولكنَّ حبِّي آلَ ليلَى فدائمٌ … وأقتلُ أدواءِ الرِّجالِ قديمُها

وقال كثير:

تعلَّقَ ناشئاً مِنْ حبِّ سلمَى … هوًى سكنَ الفؤادَ فما يزولُ

فلمْ تذهلْ مودَّتها غُلاماً … وقدْ ينسَى ويطَّرفُ الملولُ

وأدرككَ المشيبُ علَى هواهَا … فلا شيبٌ نهاكَ ولا ذهولُ

وقال جميل:

علقتُ الهوَى منها وليداً فلمْ يزلْ … إلى اليومِ ينمِي حبُّها ويزيدُ

وأفنيتُ عمرِي بانتظارِي نوالَها … وأبليتُ فيها الدَّهرَ وهو جديدُ

ألا ليتَ شِعري هلْ أبيتنَّ ليلةً … بوادِي القُرى إنِّي إذنْ لسعيدُ

لكلِّ حديثٍ عندهنَّ بشاشةٌ … وكلُّ قتيلٍ بينهنَّ شهيدُ

وقال آخر:

لي حبيبٌ ينعَى إليَّ رجائِي … كلَّما خلتُ قلبهُ لِي يلينُ

للمُنى عندَ ذكرهِ في ضميرِي … حركاتٌ كأنَّهنَّ سكونُ

انتظاري لهُ علَى حادثِ الدَّه … رِ قديمٌ إن انظرَتني المنونُ

يا هوانَ الدُّنيا عليَّ إذا ما … كنتُ فيها ممَّنْ عليكَ يهونُ

وقال آخر:

وقفتُ لليلَى بعدَ عشرينَ حجَّةً … بمنزلةٍ فانهلَّتِ العينُ تدمعُ

وأمرضَ قلبي حبُّها وطلابُها … فيا لعديٍّ دعوةً كيفَ أصنعُ

وأتبعُ ليلَى حيثُ سارتْ وخيَّمتْ … وما النَّاسُ إلاَّ آلفٌ ومودِّعُ

كأنَّ زماماً في الفؤادِ معلَّقٌ … تقودُ بهِ حيثُ استمرَّتْ وأتبعُ

وقال مجنون بني عامر:

تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أرَى … ولُوعي بها يزدادُ إلاَّ تماديا

قضاها لغيرِي وابتَلاني بحبِّها … فهلاَّ بشيءٍ غيرَ ليلَى ابتلانِيا

وقال مسلم بن الوليد:

أُعاودُ ما قدَّمتهُ مِنْ رجائِها … إذا عاودتْ بالنَّاسِ فيها المطامعُ

وما زيَّنتها العينُ لي عنْ لجاجةٍ … ولكنْ جرَى فيها الهوَى وهو طائعُ

وقال البحتري:

تجنَّبتْ ليلَى أنْ يلجَّ بكَ الهوَى … وهيهاتَ كانَ الحبُّ قبلَ التَّجنُّب

فلوْ تلتَقي أصداؤنا بعدَ موتِنا … ومِنْ دونِ رَمْسَينا منَ الأرضِ منكبُ

لظلَّ صدَى رَمسي وإنْ كنتُ رمَّةً … لصوتِ صدَى ليلَى يهشُّ ويطربُ

ألا إنَّما غادرتِ يا أُمَّ مالكٍ … صدًى أينما تذهبُ الرِّيحُ يذهب

لقدْ عشتُ مِنْ ليلَى زماناً أُحبُّها … أخا الموتِ إذ بعضُ المحبِّينَ يكذبُ

وقال آخر:

فلو كنتُ أدرِي أنَّما كانَ كائنٌ … وأنَّ جديدَ الوصلِ قدْ جدَّ غابرهْ

تعزَّيتُ قبلَ اليومِ حتَّى يكونَ لي … صريمةُ أمرٍ تستمرُّ مرائرهْ

وقال عروة بن حزام:

ألفنا الهوَى واستحكمَ الحبُّ بيننا … وليدَيْنِ ما مرَّتْ لنا سنتانِ

فذُقنا رخاءَ العيشِ عشرينَ حجَّةً … أليفينِ ما نرتاعُ للحدثانِ

جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حكمهُ … وعراف حجرٍ إن هما شفياني

فما تركا من حيلةٍ يعلمانها … ولا رُقيةٍ إلاَّ بها رقَيانِي

فقالا شفاكَ اللهُ واللهِ ما لنا … بما حُمِّلتْ منكَ الضُّلوعُ يدانِ

وقال أيضاً

وآخرُ عهدٍ لي بعفراءَ أنَّها … تُريكَ بناناً كفُّهنَّ خضيبُ

عشيَّةَ لا عفراءُ منكَ بعيدةٌ … فتسلَى ولا عفراءُ منكَ قريبُ

وقال آخر:

عشيَّةَ لا خلفِي مقرٌّ ولا الهوَى … أمامِي ولا وجدِي كوجدِ غريبِ

وكلُّ محبٍّ قدْ سلا غيرَ أنَّني … غريبُ الهوَى يا ويحَ كلِّ غريبِ

وقال ابن هرمة:

أرَى الدَّهرَ يُنسيني أحاديثَ جمَّةً … أتتْ مِنْ صديقٍ أوْ عدوٍّ يشيعُها

ولمْ يُنسِنيها الدَّهرُ إلاَّ وذكرُها … بحيثُ تحنَّتْ دونَ نفسِي ضلوعُها

وإنْ لم يكنْ منها لنا غيرُ ذكرةٍ … وقولٍ لعلَّ الدَّهر يوماً يريعُها

فقدْ أحرزتْ منِّي فؤاداً متيَّماً … وعيناً عليها لا تجفُّ دموعُها

أتنسينَ أيَّامِي وأيَّامكِ الَّتي … إذا ذكرتْها النَّفسُ كادتْ تذيعُها

وقال آخر:

أُحبِّكِ أصنافاً منَ الحبِّ لم أجدْ … لها مثلاً في سائرِ النَّاسِ يعرفُ

فمنهنَّ حبٌّ للمحبِّ ورحمةٌ … لمعرفَتي منهُ بما يتكلَّفُ

ومنهنَّ أنْ لا يخطرَ الدَّهرَ ذكركمْ … علَى القلبِ إلاَّ كادتِ النَّفسُ تتلفُ

وحبٌّ بدا بالجسمِ واللَّونُ ظاهرٌ … وحبُّ الَّذي نفسي منَ الرُّوحِ ألطفُ

وحبٌّ هو الدَّاءُ العياءُ بعينهِ … لهُ ذكرٌ تعدُو عليَّ فأدنفُ

فلا أنا منهُ مستريحٌ فميّتٌ … ولا هوَ علَى ما قد حييتُ مخفَّفُ

وقال هدبة بن خشرم:

تذكَّرَ حبّاً كانَ في مَيعةِ الصِّبى … ووجداً بها بعدَ المشيبِ معقَّبا

إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتَها … فيا لكَ قد عنَّى الفؤادَ وعذَّبا

ضنًى مِنْ هواها مُستكنّاً كأنَّهُ … خليعُ قداحٍ لم يجدْ مُتنشَّبا

بعينيكَ زالَ الحيُّ منها لنيَّةٍ … قذوفٍ تشوقُ الآلفَ المتطرِّبا

وقدْ طالَما عُلِّقتْ ليلَى معمَّداً … وليداً إلى أنْ صار رأسكَ أشيبا

رأيتكَ مِنْ ليلَى كذِي الدَّاءِ لم يجدْ … طبيباً يُداوِي ما بهِ فتطبَّبا

فلمَّا اشتفَى ممَّا بهِ علَّ طبُّهُ … علَى نفسهِ مِنْ طولِ ما كانَ جرَّبا

وأنشدنا أحمد بن يحيى لذي الرمة:

أيا ميُّ إنَّ الحبَّ حُبَّانِ منهُما … قديمٌ وحبٌّ حينَ شبَّتْ شبائبهْ

إذا اجتمعا قالَ القديمُ غلبتهُ … وقالَ الَّذي مِنْ بعدهِ أنا غالبهْ

وأخبرنا أبو العباس عليّ ابن الأعرابي أنَّ ميَّة قالت اللَّهمَّ لا تقضِ بينهما.

وقال بشار:

بكيتُ منَ الدَّاءِ داءِ الهوى … إليها وأنْ ليسَ لي مُسعدُ

وقد وعدتْ صفَداً في غدٍ … وقدْ وعدتْ ثمَّ لا تصفِدُ

وإنِّي علَى طولِ إخلافِها … لأرجُو الوفاءَ ولا أحقدُ

إذا أُخلفَ اليومَ ظنِّي بها … يكونُ لنا في غدٍ موعدُ

صبرتُ علَى طولِ أيَّامِها … حفاظاً وصبرُ الفتَى أعوَدُ

وما ضرَّ يومٌ بداءِ الهوَى … محبّاً إذا ما شفاهُ الغدُ

سوَى شوق عَيني إلى وجهِها … وإنِّي إذا فارقتْ أكمَدُ

فهؤلاء البائسون قد صيروا على أحبَّتهم إمَّا طائعين وإمَّا كارهين فإن كانوا طائعين فهو أحمدُ ممَّن يتلاعب وينتقل في كل ساعة عن إلفه إلى سواه وإن كانوا كارهين فإنَّ السبب الَّذي اضطرهم إلى المقام على ما يؤلمهم ويمنعهم عن الانتقال إلى ما يختارونه لو لم يكن سبباً أملك بهم منهم ما عليهم فهم على كل الجهات أتمُّ في الحال ممَّن جعل هواه ضرباً من الإشغال ينفرد له إذا نشط ويتركه إذا كسل كالذين قدَّمنا وصفهم في صدر هذا الكتاب من أنَّهم لم يرتقوا في المحبَّة على من انتهى بل صعدوا بأول نظرة إلى ذروتها فكما كان ارتقاؤهم سريعاً كان انحطاطهم قريباً.

فمنهم الوليد بن عبيد الطائي حيث يقول:

نظرةٌ ردَّتِ الهوَى الشَّرقَ غرْبا … وأمالتْ نهجَ الدُّموعِ الجوارِي

ما ظننتُ الأهواءَ قبلكِ تُمحَى … مِنْ صدورِ العشَّاقِ محوَ الدِّيارِ

كانَ يحلُو هذا الهوَى فأراهُ … عادَ مرّاً والسُّكْرُ قبلَ الخمارِ

وإذا ما تنكَّرتْ لي بلادٌ … أوْ خليلٌ فإنَّني بالخيارِ

وله أيضاً:

أتَى دونَها نأيُ البلادِ ونصُّنا … سَواهمَ خيلٍ كالأعنَّةِ ضمَّرُ

ولمَّا خطوْنا دجلةَ انصرمَ الهوَى … فلمْ تبقَ إلاَّ لفتةُ المتذكِّرِ

وخاطرُ شوقٍ ما يزالُ يَهيجُنا … لبادينَ مِنْ أهلِ الشَّآمِ وحضَّرِ

ولأبي نواس في نحو ذلك:

ألا قلْ لأخلاَّئي … ومَنْ همتُ بهمْ وجدا

ومَنْ كانُوا مَواليَّ … ومَنْ كنتُ لهمْ عبْدا

شربْنا ماءَ بغدادَ … فأنساكمُ جِدَّا

فلا ترعَوْا لنا عهداً … فما نرعَى لكمْ عهْدا

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لإبراهيم بن العباس في نحو ذلك:

بقلبِي عنْ هوَى البيضِ انصرافُ … ويُعجبُني منَ السُّمرِ انعطافُ

فإنْ أنصفنَ في ودِّي وإلاَّ … فليسَ عليَّ مِنْ قلبي خلافُ

وقال جرير:

هوًى بتهامةٍ وهوًى بنجدٍ … فقتَّلني التَّهائمُ والنُّجودِ

أخالدُ قد هويتُكِ بعدَ هندٍ … فشيَّبني الخوالدُ والهنودُ

والأصل البين في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:

لقدْ جلبتكَ العينُ أوَّلَ نظرةٍ … وأُعطيتَ منِّي يا ابنَ عمِّ قَبولا

فأصبحتَ همّاً للفؤادِ وحسرةً … وظلاًّ منَ الدُّنيا عليَّ ظَليلا

ولغيره في مثله:

يا رامياً ليسَ يدرِي ما الَّذي فعَلا … إحبسْ عليكَ فإنَّ السَّمَ قدْ قتلا

أصبتَ أسودَ قلبِي إذ رميتَ فلا … شُلَّتْ يمينكَ لِمْ صيَّرتني مثلا

فأخلِقْ بمن يسقمهُ أوَّل داءٍ أنْ يشفيه أوَّل دواءٍ

بلغني عن بعض الأكاسرة أنه قال كنت أظن أني إذا شبت زهدت في النساء فلم أزل مغموماً بذلك ولم أدر أنِّي إذا شبت كنت أنا فيهنَّ اشدّ زهداً ولعمري إن من قرب من آخر عمره لجدير أن يصرف همَّته إلى ما يعيد عليه نفعاً في آخرته ويتشاغل بأحكام الدَّار الَّتي يصير إليها عن أسباب الدَّار الَّتي ينتقل عنها فإن لم يقع ذلك له اختياراً وقع أكثره به اضطراراً.

أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:

قعدَ الشَّيبُ بي عنِ اللَّذاتِ … ورَماني بجفوةِ الفتياتِ

فإذا رُمتُ سترهُ بخضابٍ … فضَحتهُ طلائعُ النَّاصلاتِ

ما رأيتُ الخضابَ إلاَّ سراباً … غرَّني لمعُهُ بأرضٍ فلاةِ

فإذا ما دَعا إلى الكأسِ داعٍ … قلتُ مَا للكبيرِ والنَّشواتِ

لستُ بعدَ المشيبِ ألتذُّ بالعي … شِ فدعْني وغصَّةَ العبراتِ

إنَّ فقدَ الشَّبابِ أنزلَني بعْ … دكَ دارَ الهمومِ والحسراتِ

ورمانِي بحادثِ الشَّيبِ دهرٌ … قارَعَتني أيَّامهُ عنْ حياتِي

وقال آخر:

في كلّ يومٍ أرَى بيضاءَ قدْ طلعتْ … كأنَّها أُنبتتْ في ناظرِ البصرِ

لئنْ حجبتُكِ بالمِقراضِ عنْ بصرِي … لما حجبتكِ عنْ همِّي وعنْ فكرِي

وأنشدني البحتري لنفسه:

ثنتْ طرفَها دونَ المشيبِ ومَنْ يشبْ … فكلُّ الغوانِي عنهُ مثنيَّةُ الطَّرفِ

وجُنَّ الهوَى فيها عشيَّةَ أعرضتْ … بناظرَتَيْ ريمٍ وسالفَتي خشفِ

وأفلجَ برَّاقِ يروحُ رُضابهُ … حَراماً علَى التَّقبيلِ بسلاً علَى الرَّشفِ

وقال علي بن العباس الرومي:

هيَ الأعينُ النّجلُ الَّتي أنتَ تشتكِي … مواقعَها في القلبِ والرَّأسُ أسودُ

فما لكَ تأْسَى الآنَ لمَّا رأيتَها … وقدْ جعلتْ مرمَى سواكَ تعمَّدُ

كذلكَ تلكَ النَّبلُ مَنْ قصدتَ لهُ … ومَنْ نكَّبتْ عنهُ منَ القومِ مُقصدُ

وعزَّاكَ عنْ ليلِ الشَّبابِ معاشرٌ … فقالُوا نهارُ الشَّيبِ أهدَى وأرشدُ

وكلُّ نهارِ المرءِ أهدَى لسعيهِ … ولكنَّ ظلَّ اللَّيلِ أندَى وأبردُ

وفقدُ الشَّبابِ الموتُ يوجدُ طعمهُ … صُراحاً وطعمُ الموتِ بالموتِ يُفقدُ

أرَى الدَّهرَ أجرَى ليلهُ ونهارهُ … بعدلٍ فلا هذا ولا ذاكَ سرمدُ

وجارَ علَى ليلِ الشَّبابِ فضامَهُ … نهارُ مشيبٍ سَرمدٍ ليسَ ينفدُ

وقال ابن حازم:

لا حينَ صبرٍ فخل الدمع ينهملُ … فقدُ الشبابِ بيومِ المرء متصلُ

كفاك بالشيب ذنباً عند غانيةٍ … وبالشبابِ شفيعاً أيها الرجلُ

لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها … من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ

ربَّ عيشٍ لنا برامةَ رطبٍ … وليالٍ فيها طوالٍ قصارِ

قبلَ أنْ يقبِلَ المشيبُ وتبدُو … هفواتُ الشَّبابِ في إدبارِ

كلُّ عذرٍ مِنْ كلِّ ذنبٍ ولكنْ … أُعوزَ العذرُ مِنْ بياضِ العذارِ

وقال جميل بن معمر:

تقولُ بثينةُ لمَّا رأتْ … فنوناً منَ الشَّعرِ الأحمرِ

كبرتَ جميلُ وأوْدَى الشَّبابُ … فقلتُ بٌثينُ ألا فاقصِرِي

أتنسينَ أيَّامَنا باللِّوَى … وأيَّامَنا بذوي الأجفرِ

وإذْ لِمَّتي كجناحِ الغُرا … بِ تُطلَى بالمسكِ والعنبرِ

قريبانِ مربعُنا واحدٌ … فكيفَ كبرتُ ولمْ تكبَري

وهذا تعريض مليح بل هو تعبير لها صريح لأنه قد ذكر أنَّهما كانا قرينين ومحالٌ أن يكبر واحد ويصغر واحد فهو قد عيَّرها كما عيَّرته وقد يحتمل أن يكون لم يردْ تعييرها وإنما أراد أنَّ السبب الَّذي ظهر له ليس من كبره وإنما هو لأهوال ما يمرُّ به وأحسن من قوله لفظاً وأوضح معنًى.

قول البحتري:

عيَّرتْني بالشَّيبِ وهيَ بدتْهُ … في عِذارِي بالصَّدِّ والاجتنابِ

لا تريهِ عاراً فما هوَ بال … شَّيبِ ولكنَّهُ جلاءُ الشَّبابِ

وبياضُ البازيِّ أصدقُ حسناً … إنْ تأمَّلتِ مِنْ سوادِ الغُرابِ

وقال محمد بن أبي حازم:

نظرتْ إليَّ بعينِ مَنْ لمْ يعذلِ … لمَّا تمكَّنَ طرفُها مِنْ مقلَتِي

لمَّا أضاءتْ بالمشيبِ مفارِقِي … صدَّتْ صدودَ مُفارق متجمِّلِ

فجعلتُ أطلبُ وصلَها بتذلُّلٍ … والشَّيبُ يغمزُها بألاَّ تفعلِي

وقال أشجع:

فإنْ تضعِ الأيَّامَ لي مِنْ متونِها … فقدْ حملتْني فوقَ كاهلِها الصَّعبِ

وموتُ الفتَى خيرٌ لهُ مِنْ حياتهِ … إذا كانَ ذا حالينِ يصبُو ولا يُصبِي

وقال أبو الشيص:

خلعَ الصِّبى عنْ منكبيهِ مَشيبُ … وطوَى الذَّوائبَ رأسهُ المخضوبُ

ما كانَ أنضرَ عيشهُ وأغضَّهُ … أيَّامَ فضلُ ردائهِ مسحوبُ

وقال الحسين بن الضحاك:

تذكَّرَ مِنْ غرَّاتهِ ما تذكَّرا … وأعولَ أيَّامَ الشَّبابِ فأكثرا

وما برحتْ عاداتهُ مستقرَّةً … ولكنْ أجلَّ الشَّيبُ عنها ووقَّرا

يهمُّ ويستحْيي تقاربَ خطوهِ … فيتركُ همَّ النَّفسِ في الصَّدرِ مُضمرَا

ولمْ يبقَ فيهِ إذ تأمَّلَ شخصهُ … شفيعٌ إلى الحسناءِ إلاَّ تنكَّرا

ألا لا أرَى في العيشِ للمرءِ مُتعةً … إذا ما شبابُ المرءِ ولَّى فأدبَرا

وقال أبو تمام:

شابَ رأْسي وما رأَيتُ مَشيبَ الرَّ … أْسِ إلاَّ مِنْ فضلِ شيبِ الفؤادِ

وكذاكَ القلوبُ في كلِّ بؤسٍ … ونعيمٍ طلائعُ الأجسادِ

طالَ إنكارِي البياضَ وإنْ عُمِّ … رتُ شيئاً أنكرتُ لونَ السَّوادِ

زارَني شخصهُ بطلعةِ ضيمٍ … عمَّرتْ مجلِسِي منَ العُوَّادِ

وقال أيضاً

كلُّ داءٍ يُرجَى الدَّواءُ لهُ … إلاَّ الفظيعينِ ميتةً ومَشيبا

يا نسيبَ الثَّغامِ ذنبُك أبقَى … حسَناتِي عندَ الحسانِ ذنوبَا

ولئنْ عِبنَ ما رأينَ لقدْ أنْ … كرنَ مُستنكراً وعِبنَ مَعيبا

لوْ رأَى اللهُ أنَّ للشَّيبِ ظرفاً … جاورتهُ الأبرارُ في الخلدِ شِيبا

وقال إبراهيم بن هرمة:

ألا إنَّ سلمَى اليومَ جدَّتْ قُوى الحبلِ … وأرضتْ بكَ الأعداءَ مِنْ غيرِ ما ذَحلِ

فإنْ تبكِها يوماً تُبكِّ بعولةٍ … علَى لطَفٍ في جنبِ سلمَى ولا بذلِ

سوَى أنْ رأينَ الشَّيبَ أبيضَ واضحاً … كأنَّ الَّذي بي لمْ ينلْ أحداً قبلِي

وقال أيضاً

في الشَّيبِ زجرٌ لهُ لو كانَ ينزجرُ … وبالغٌ منهُ لولا أنَّهُ حجرُ

إبيضَّ وأحمرَّ مِنْ فوديهِ وارتجعتْ … جليَّة الصُّبحِ ما قدْ أغفلَ السَّحرُ

وللفتَى مُهلةٌ في الحبِّ واسعةٌ … ما لمْ يمتْ في نواحِي رأسهِ الشَّعرُ

قالتْ مشيبٌ وعشقٌ رُحتَ بينَهما … وذاكَ في ذاكَ ذنبٌ ليسَ يغتفرُ

وقال أيضاً

يقولونَ هلْ بعدَ الثَّلاثينَ ملعبُ … فقلتُ وهلْ قبلَ الثَّلاثينَ ملعبُ

لقدْ جلَّ قدرُ الشَّيبِ إنْ كنتُ كلَّما … بدتْ شيبةٌ يعرَى منَ اللَّهوِ مركبُ

وهذا لعمري مِن حسن الكلام وفصيحه ومن أحسن ما أعرف في التجلُّد علَى الشيب قول محمد بن عبد الملك:

وعائبٍ عابَني بشيبٍ … لمْ يأْلُ لمَّا ألمَّ وقتهْ

فقلْ لمنْ عابَني بشَيبي … يا عائبَ الشَّيبِ لا بلغتهْ

ولبعض أهل هذا العصر:

وقائلةٍ قدْ كانَ عذركَ واسعاً … لياليَ كانَ الشَّعرُ في الرَّأسِ أسودا

فقلتُ لها والدَّمعُ جارٍ كأنَّهُ … نظامٌ تعدَّى سلكهُ مُتبدِّدا

لئنْ كانَ هذا الشَّيبُ غرَّكِ فاعلَمِي … بأنِّي صحِبتُ الشَّيبَ مذْ كنتُ أمردا

أبِالشَّيبِ يُنهى عنْ مساعدةِ الهوَى … ولولا الهوَى ما كنتُ للشَّيبِ مُسعِدا

وقال علي بن العباس الرومي:

يا بياضَ المشيبِ سوَّدتَ وجهِي … عندَ بيضِ الوجوهِ سودِ القرونِ

فلعمرِي لأُخفينَّكَ جُهدي … عنْ عَيانِي وعنْ عَيانِ العيونِ

ولعمرِي لأُتركنَّكَ لا تضْ … حكُ في رأسِ آسفٍ محزونِ

بسوادٍ فيهِ بياضٌ لوجهِي … وسوادٍ لوجهكَ الملعونِ

وقال البحتري

يُفاوتُ مِنْ تأليفِ شِعبِي وشِعبِها … تناهِي شبابِي وابتداءُ شبابَها

عسَى بكَ أنْ تدنُو منَ الوصلِ بعدَما … تباعدتْ مِنْ أسبابهِ وعسَى بها

ولمْ أرتضِ الدُّنيا أوانَ مجيئِها … فكيفَ ارتِضائيها أوانَ ذهابِها

وقال أيضاً

وأضللتُ حِلمي فالتفتُّ إلى الصِّبى … سِفاهاً وقدْ جزتُ الشَّبابَ مراحِلا

فللهِ أيَّامُ الشَّبابِ وحسنُ ما … فعلنَ بنا لوْ لمْ يكنَّ قلائلا

وقال أبو الشيص:

أبقَى الزَّمانُ بهِ ندوبَ عِضاضِ … ورمَى سوادَ قرونهِ ببياضِ

نفرتْ بهِ كأسُ النَّديمِ فأعرضتْ … عنهُ الكواعبُ أيَّما إعراضِ

ولربَّما جُعلتْ محاسنُ وجههِ … لجفونِها غرضاً منَ الأغراضِ

أيَّامَ أفراسُ الشَّبابِ جوامحٌ … تأبَى أعنَّتها علَى الرُّوَّاضِ

وقال الطائي:

غرَّةٌ بَهْمةٌ ألا إنَّما كنْ … تُ أغرّاً أيَّامَ كنتُ بَهيما

دِقَّةٌ في الحياةِ تُدعى جلالاً … مثلَ ما سمِّيَ اللَّديغُ سَليما

وقال البحتري

عذلَتْنا في عشقِها أُمُّ عمرٍو … هلْ سمعتمْ بالعاذلِ المعشوقِ

ورأتْ لمَّةً ألمَّ بها الشَّيبُ … فرِيعتْ مِنْ ظلمةٍ في شروقِ

ولعمري لولا الأقاحِي لأبصرْ … تَ أنيقَ الرّياضِ غيرَ أنيقِ

وسوادُ العيونِ لوْ لمْ يُحسَّنْ … ببياضٍ ما كانَ بالموموقِ

أيُّ ليلٍ يبهَى بغيرِ نجومٍ … أوْ سحابٍ تندَى بغيرِ بروقِ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

رأتْني خضيبَ الرَّأسِ شمَّرتُ مِئزَرِي … وقدْ عهدتْني أسودَ الرَّأسِ مُسدِلا

فقالتْ لأُخرَى عندَها تعرفينهُ … أليسَ بهِ قالتْ بلَى ما تبدَّلا

سوَى أنَّهُ قدْ لاحتِ الشَّمسُ لونهُ … وفارقَ أشياعَ الصِّبى وتنقَّلا

ولاحَ قتيرٌ في مفارقِ رأسهِ … إذا غفلتْ عنهُ الخواضبُ أنصَلا

وكانَ الشَّبابُ الغضُّ كالغيمِ خَيَّلتْ … سماوتُهُ إذ هبَّتِ الرِّيحُ فانْجَلى

وقال منصور النمري:

ما تنقَضِي حسرةٌ منِّي ولا جزعُ … إذا ذكرتُ شباباً ليسَ يرتجعُ

بانَ الشَّبابُ وفاتَنِي بِشِرَّتهِ … صروفُ دهرٍ علَى الأيَّامِ لِي تبعُ

تعجَّبتْ أنْ رأتْ أسرابَ دمعتهِ … في حليةِ الخدِّ أجراهَا حشًى وجعُ

أصبحتِ لمْ تطعَمِي كلَّ الشَّبابِ ولمْ … تشجَيْ بغصَّتهِ فالعذرُ لا يقعُ

العلَّة في ذلك أنَّ اليأس هو مفارقة النَّفس للرَّجاء الَّتي كانت تعتاض به من حال الصّفات وتتماسك بمسامرته من سطوة الفراق الَّذي مُنيت بمشاهدته فأوَّل روعات اليأس تلقى القلب وهو غير مستعد لمقاومتها ولا مُصاب بمشاهدتها فتجرحه دفعةً واحدةً عادةً إلى غير عادةٍ والرَّوعة الثانية ترد على القلب وقد ذلَّلته لها الرَّوعة الأوَّلة فللثانية ألم المعاودة وليس لها ألمٌ وفقد العادة والرَّوعة الأوَّلة فيها مشاهدة المكروه ومفارقة ما تعوَّدت من المحبوب فإن هي لم تُتلف وفيها مكروهان لم تتلف الثانية وليس فيها إلاَّ أحدهما وكذلك كلّ روعةٍ يجلبها الفكر والتَّذكُّر هي أهون من الَّتي قبلها لأن المتقدّمة قدِ انذرت بها ووطَّأت المواضع لها حتَّى ينحلَّ ذلك أجمع من النَّفس حالاً بعد حالٍ لأنَّ دوام الرَّوعات إنَّما يكون بتنازع المخاوف والآمال فإذا وقع اليأس زال الخوف بوقوع المخوِّف وانقطع الأمل بذهاب المأمول.

ولعمري لقد أحسن البحتري حيث يقول:

حَنيني إلى ذاكَ القليبِ ولوعَتي … عليهِ وقلَّتْ لوعَتي وحَنيني

خلا أمَلي مِنْ يوسفِ بنِ محمَّدٍ … وأُوحشَ فكرِي بعدهُ وظنونِي

وكانتْ يدِي شلَّتْ ونفسِي تخوَّنتْ … ودُنيايَ بانتْ يومَ بانَ ودِيني

فوا أسَفي ألاَّ أكونَ شهدتهُ … فجاشتْ شمالِي عندهُ ويميني

فإذا بقيت الخواطر بغير محرك يزعجها تحللت مضاضة ذلك الألم الَّذي نزل بها ألا ترى أنَّ الحريق إذا صبَّ عليه الماء أفسد الماء موضعاً وأفسدت النار آخر ….. قائمين فإذا ذهبا جميعاً بقي من تأثير النَّار يبس وحرارات ومن تأثير الماء برد ورطوبات ثمَّ تحلَّلا جميعاً على مرّ الأوقات والعلَّة في قتل روعة اليأس الأوَّلة أنَّ القلب يُحمى بورود المكاره عليه وسبيل سائر البدن أن يمدَّ القلب بمثل ما فيه من حرّ أو برد فإذا كثر ذلك انهتك حجاب القلب فكان التَّلف حينئذ لأنَّ القلب لا يصل إليه ألم نيَّة غير الألم الفكرة إلاّ أتلف صاحبه والعامَّة تقول شهق فلان فلا تصدَّعت مرارته ولعمري إنَّ المرارة لتحمى ولو زادت حرارتها لانصدعت ولو انصدعت لأتلفت ولكن إلى أن تحمل المرارة حمَّى تصدِّعها يكون قد حمي القلب وتصدَّع بل تقطَّع ومثل ذلك لو أنَّ قدراً من شمع وقار ثمَّ صبَّ فيها ماء ثمَّ أُوقد تحتها النار فلعمري إنَّ النَّار تذيب القار وإنَّ القار إذا ذاب انصبَّ الماء غير أنَّ قبل ذوب القار يكون انحلال الشمع وتليفةُ النَّار فكذلك القلب ينهتك حجابه بالحرارة المنحازة إليه قبل انهتاك الحرارة بحين طويل وتظنّ العامّة بل كثير من الخاصة أنَّ الزّفير سبب التَّلف وليس الأمر كذلك بل هو إذا أراد الله عزّ وجلّ سبب لدفع التَّلف وذلك أنَّ القلب إذا أفرط الحميُ عليه اجتلبت له القوى الغريزيَّة روحاً تدفع مضرَّة ذلك عنه فتجلبه له من نسيم الهوى الخارج عنه فربَّما جاء من النّسيم ما يدفع مضرَّة تلك الحرارة فيكون زفير ولا يكون تلف وربَّما ضعف النّسيم المجتلب وحمي في المجاري لشدَّة ما يلقاه من الحرارات فيعجز برده عن دفع مضرَّة الحرارة المحيطة بالقلب فتهتك الحرارة الحجاب ويكون التلف فلأنَّهم يرون التَّلف على أثر الزَّفرة يرون أنه قد وقع من أجلها وهو في الحقيقة إنَّما وقع من أجل ضدّها وقد تقتل أيضاً أوَّل مفاجأة الفرح الغالب بإفراط بردها كما تقتل أوَّل مفاجأة الحزن بإفراط حرّها لأنه ينحاز إلى القلب من سائر الأعضاء برد لا تفي به حرارة الغريزيَّة فيجمد دم القلب ويحدث التَّلف ولا يكون معه زفير ولا شهيق لأن النَّفس لا تجتلب الحرارة من خارج البدن كما تجتلب البرودة وقولهم أقرَّ الله عينك وأسخن الله عين فلان إنَّما هو لأنَّ دمعة الحزن حارَّة ودمعة الفرح باردة وكلّ واحدة من الفرح والحزن إذا استوطن النَّفس أنست بمجاورته قليلاً حتَّى يصير كالخلق المعتاد لها وكالطبع القائم بها ومن جيد ما قيل في باب التَّسلِّي عمَّن يئس منه:

هيَ الشَّمسُ مسكنُها في السَّماءِ … فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا

فلنْ تستطيعَ إليها الصُّعودَ … ولنْ تستطيعَ إليكَ النُّزولا

وقال امرؤ القيس:

عيناكَ دمعُهما سِجالُ … كأنَّ شأنيهِما أوشالُ

مِنْ ذكرِ ليلَى وأينَ ليلَى … وخيرُ ما نلتَ ما ينالُ

أنشدني أحمد بن يحيى لأم الضحاك المحاربية:

سألتُ المحبِّينَ الَّذينَ تحمَّلوا … تباريحَ هذا الحبِّ في سالفِ الدَّهرِ

فقلتُ لهمْ ما يُذهبُ الحبَّ بعدَما … تبوَّأ ما بينَ الجوانحِ والصَّدرِ

فقالُوا شفاءُ الحبِّ يُزيلهُ … مِن آخرَ أوْ نأيٌ طويلٌ على هجرِ

أوِ اليأسُ حتَّى تذهلَ النَّفسُ بعدَما … رجتْ طمعاً واليأسُ عوناً علَى الصَّبرِ

وقال آخر:

فيا ربِّ إنْ أهلِكْ ولمْ تُروَ هامَتي … بليلَى أمتْ لا قبرَ أعطشُ مِنْ قبرِي

وإنْ أكُ عنْ ليلَى سلوتُ فإنَّما … تسلَّيتُ عنْ يأسٍ ولمْ أسلُ عنْ صبرِ

وإنْ يكُ عنْ ليلَى غنًى وتخلُّدٌ … فربَّ غنَى نفسٍ قريبٍ منَ الفقرِ

وقال كثيّر:

وإنِّي لآتيكمْ وإنِّي لراجعٌ … بغيرِ الجوَى مِنْ عندكم لمْ أُزوَّدِ

إذا دبَرانٌ منكِ يوماً لقيتهُ … أُؤمِّلُ أنْ ألقاكِ بعدُ بأسعدِ

فإنْ يسلُ عنكِ القلبُ أوْ يدعِ الصِّبى … فباليأْسِ يسلو عنكِ لا بالتَّجلُّدِ

وقال علي بن محمد العلوي:

كانَ يُبكيني الغناءُ سروراً … فأرانِيَ أبكِي لهُ اليومَ حُزنا

آهِ مِنْ خطرةِ الكبيرِ إذا ما … خطرَ اليأسُ دونَ ما يتمنَّى

وقال البحتري

أرجُو عواطفَ مِنْ ليلَى ويُؤيِسُني … دوامُ ليلَى علَى الهجرِ الَّذي تلِدا

ولمْ يعُدْني لها طيفٌ فيفْجَأني … إلاَّ علَى أبرحِ الوجدِ الَّذي عُهدا

وقال أيضاً

يرجُو مُقارنةَ الحبيبِ ودونهُ … وجدٌ يُبرِّحُ بالمَهارِي القُودِ

ومتى يُساعدُنا الوصالُ ودهرُنا … يومانِ يومُ نوًى ويومُ صدودِ

واليأسُ إحدَى الرَّاحتينِ ولنْ ترَى … تعباً كظنِّ الخائبِ المكدودِ

ولبعض أهل هذا العصر:

سأكفيكَ نفسِي لا كفايةَ غادرٍ … ولا سامعاً عذلاً ولا متعتّبا

ولكنَّ يأساً لمْ يرَ النَّاسُ مثلهُ … وصبراً علَى مرِّ المقاديرِ مُنصِبا

وفي دونِ ما بُلِّغتهُ بلْ رأيتهُ … بلاغٌ ولكنْ لا أرَى عنكَ مَذهبا

وله أيضاً:

حاولتُ أمراً فلمْ يجرِ القضاءُ بهِ … ولا أرَى أحداً يُعدَى علَى القدرِ

فقدْ صبرتُ لأمرِ اللهِ مُحتسباً … واليأسُ مِنْ أشبهِ الأشياءِ بالظَّفرِ

فالحمدُ للهِ شكراً لا شريكَ لهُ … ما أولعَ الدَّهرَ والأيَّامَ بالغيَرِ

وقال البحتري

عزَّيتُ نفسِي ببردِ اليأسِ بعدهمُ … وما تعزَّيتُ مِنْ صبرٍ ولا جلدِ

إنَّ النَّوى والهوَى شيئانِ ما اجتَمَعا … فخلَّيا أحداً يصبُو إلى أحدِ

وقال أيضاً

محلَّتُنا والعيشُ غضٌّ نباتهُ … وأفنيةُ الأيَّامِ خضرٌ ظلالُها

وليلَى علَى العهدِ الَّذي كانَ لمْ تغُلْ … نَواها ولا حالتْ إلى الصَّدِّ حالُها

وكنتُ أُرجِّي وصلَها عندَ هجرِها … فقدْ بانَ منِّي هجرُها ووصالُها

ولا قُربَ إلاَّ أنْ يعاودَ ذِكرها … ولا وصلَ إلاَّ أنْ يُطيفَ خيالُها

وقال الأحوص:

تذكَّرتُ أيَّاماً مضينَ منَ الصِّبى … وهيهاتَ هيهاتَ إليكَ رجوعُها

تُؤمِّلُ نُعمى أنْ تريعَ بها النَّوى … ألا حبَّذا نُعمى وسوفَ تريعُها

لعمرِي لراعَتْني نوائحُ غُدوةٌ … فصدَّعَ قلبِي بالفراقِ جميعُها

فظَلتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذ أنا … أخُو جِنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها

وقال آخر:

أمَا واللهِ غيرَ قلًى لليلَى … ولكنْ يا لهُ يأساً مُبينَا

لقدْ جعلتْ دَواوينَ الغَوانِي … سِوى ديوانِ حبِّكِ يمَّحينَا

وقال بشار بن برد:

أُحبُّ بأنْ أكونَ علَى بيانٍ … وأخشَى أنْ أموتَ منَ البيانِ

فقدْ أصبحتُ لا فرِحاً بدُنيا … ولا مُستنكراً دارَ الهوانِ

يُقلِّبُني الهوَى ظهراً لبطنٍ … فما يخفَى علَى أحدٍ يرَانِي

وقال ذو الرمة:

أفِي كلِّ أطلالٍ بها منكَ جنَّةٌ … كما جُنَّ مقرونُ الوَظيفينِ نازعُ

ولا بدَّ مِنْ ميٍّ وقدْ حِيلَ دونَها … فما أنتَ فيما بينَ هاتَينِ صانعُ

أمُستوجبٌ أجرَ الصَّبورِ فكاظمٌ … علَى الوجدِ أمْ مُبدِي الضَّميرِ فجازعُ

وقال مجنون بني عامر:

فيا قلبُ متْ حزناً ولا تكُ جازعاً … فإنَّ جزوعَ القومِ ليسَ بخالدِ

هويتَ فتاةً نيلُها الخلدُ فالتمسْ … سبيلاً إلى ما لستَ يوماً بواجدِ

أحنُّ إلى نجدٍ وإنِّي ليائسٌ … طوالَ اللَّيالي مِنْ قفولٍ إلى نجدِ

وإنَّكَ لا ليلَى ولا نجدَ فاعترفْ … بهجرٍ إلى يومِ القيامةِ والوعدِ

وقال آخر:

خَلتْ عنْ ثرَى نجدٍ فما طابَ بعدَها … ولوْ راجعتْ نجداً لطابَ إذنْ نجدُ

هو اليأسُ مِنْ ليلَى علَى أنَّ حبَّها … مُقيمُ المراسِي لمْ يزل عندَنا بعدُ

وقال آخر:

ألا لا أُحبُّ السَّيرَ إلاَّ مُصعِّداً … ولا البرقُ إلاَّ أنْ يلوحَ يمانِيا

علَى مثلِ ليلَى يقتلُ المرءُ نفسهُ … وإنْ كنتُ عنْ ليلَى علَى النَّايِ طاوِيا

ولبعض أهل هذا العصر:

يقولُ أبَعْدَ اليأسِ تبكِي صبابةً … فقلتُ وهلْ قبلَ الإياسِ بكاءُ

أبكي علَى مَن لستُ أرجُو ارتجاعهُ … وأبكي علَى أنْ لا يكونَ رجاءُ

وقال آخر:

يقولُونَ عنْ ليلَى عَييتَ وإنَّما … بيَ اليأسُ عنْ ليلَى وليسَ بيَ الصَّبرُ

فيا حبَّذا ليلَى إذِ الدَّهرُ صالحٌ … وسَقياً لليلى بعدَما خبُثَ الدَّهرُ

وإنِّي لأهواها وإنِّي لآيسٌ … هوًى وإياسٌ كيفَ ضمَّهما الصَّدرُ

وهذا من أحسن ما مرَّ ويمرُّ لأنه قد جمع لفظاً لطيفاً ومعنًى مليحاً هذا البائس قد علم أنَّ اليأس لا يكون معه هوًى لأحدٍ من النَّاس فأظهر التَّعجُّب منه لأنه خارج عن عادته ووجد في قلبه بقايا من الحزن لألم الفراق وليس هو هوًى قائمٌ ولكنَّه تأثير الاحتراق يزول حالاً بعد حالٍ إذ لم يدركه غليل الإشفاق ولم تحرّكه غلبات الاشتياق فظنَّ لشدَّة مضاضته أنَّ الهوى بعدُ مقيمٌ في قلبه.

وقال آخر:

نظرتُ وأصحابِي بنجدٍ غُديَّةً … لأُبصرهمْ أمْ هلْ أرَى فيَّ مطمعا

بنظرةِ مشتاقٍ رأَى اليأسَ والهوَى … جميعاً فعزَّى نفسهُ ثمَّ رجَّعا

شربتُ حراراتِ الفراقِ فلمْ أجدْ … كمثلكِ مشروباً أمرَّ وأوجَعا

وقاسيتُ تفريقَ الجميعِ فلمْ يدعْ … تفرُّقُ أُلاَّفي لعينيَّ مطعما

وأنشدني أحمد بن يحيى عن زيد بن بكَّار لرجل من بني أسد:

وكنتَ إذا اشتفيتَ بريحِ نجدٍ … وماءِ البيرِ مِنْ غللٍ شفاها

فلمَّا أنْ رأيتَ بها أُموراً … تقادمَ وهلُها وبدَا ثَآها

عرجتَ علَى المنازلِ غيرَ بُغضٍ … وأسمحَ علوُ نفسكَ عنْ هواهَا

وساقتكَ المقادرُ واللَّيالي … إلى أنْ لا تَراكَ ولا تَراها

ولبعض أهل هذا العصر:

أمنتُ عليكَ الدَّهرَ والدَّهرُ غادرُ … وسكَّنتُ قلبي عنكَ والقلبُ نافرُ

وما ذاكَ عنْ إلفٍ تخيَّرتُ وصلهُ … عليكَ ولا أنِّي بعهدكَ غادرُ

ولكنَّ صرفَ الدَّهرِ قدْ عجَّلَ الرَّدى … وأيأسَني منْ أنْ تدورَ الدَّوائرُ

فلستُ أُرجِّيهِ ولستُ أخافهُ … وهلْ يرتَجي ذو اللُّبِّ ما لا يحاذرُ

إذا بلغَ المكروهُ بي غايةَ المدَى … فأهونُ ما تجرِي إليهِ المقادرُ

تناسيتَ أيَّامَ الصَّفاءِ الَّتي مضتْ … لديكَ علَى أنِّي لها الدَّهرَ ذاكرُ

أُثبِّتُ قلبي عنكَ والوّدُّ ثابتٌ … وهل تصبرُ الأحشاءُ والحزنُ صابرُ

إلى اللهِ أشكُو لا إليكَ فإنَّهُ … علَى ردِّ أيَّامِ الصَّفاءِ لقادرُ

وقال العتبي:

فيا ويحَ قلبٍ عذَّبَ العينَ بالبُكا … علَى كلِّ شِفرٍ مِنْ مدامعِها غربُ

ويا ويحَ مشتاقٍ محَا اليأسُ ما رجَا … لحُرقتهِ شرقٌ وليسَ لها غربُ

وقال ذو الرمة:

تحنُّ إلى ميٍّ كما حنَّ نازعٌ … دعاهُ الهوَى فارتدَّ مِنْ قيدهِ قصرَا

ولا ميَّ إلاَّ أنْ تزورَ بمشرقٍ … أوِ الزُّرقِ مِنْ أطلالِها دِمناً قفرَا

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي لبعض الأعراب:

أظنُّ اليومَ آخرَ عهدِ نجدٍ … ألا فاقرأ علَى نجدٍ سلاما

فربَّتَما سكنتَ بحرِّ نجدٍ … وربَّتَما ركبتَ بها السَّواما

وربَّتَما رأيتَ لأهلِ نجدٍ … علَى العلاَّتِ أخلاقاً كراما

وإنِّي للمكلَّفُ حبَّ نجدٍ … وإنِّي للمسرُّ بها السَّقاما

فهؤلاء الذين ذكروا أشعارهم قد سلوا على أوَّل روعات اليأس فمنهم من تشاغل بإظهار الحنين تجمّلاً للنَّاس ومنهم من صرَّح بالسّلوِّ عن نفسه ومنهم من اشتغل بمعالجة ما بقي من الهوَى في قلبه ونحن الآن نذكر طرفاً من أخبار من تمكَّنت الرَّوعة الأولى من نفسه وتظاهر سلطانه على قلبه فبلغ إلى ما لا يمكن منه تلافٍ ولا ينفع فيه استعطاف حدَّثني أبو طاهر الدمشقي قال حدثنا حامد بن يحيى النَّجليّ قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مُزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سريَّة وقال إن رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذّناً فلا تقتلوا أحداً وإنَّا قد لقينا قوماً فأسرناهم ورأى نسوة وهو في ذمَّته فدنا إلى هؤلاء أفض إليهنَّ فدنَا إلى امرأة منهنَّ فقال أسلمي حُبيش قبل نفاذ العيش.

أرأيتِ إذ طالبتكمْ فوجدتمُ … بحَليةَ أوْ ألفيتكمْ بالخوانقِ

ألمْ يكُ حقّاً أنْ ينوَّلَ عاشقٌ … تكلَّفَ إدلاجَ السُّرى والودائقِ

فلا ذنبَ لِي قدْ قلتُ إذ أهلُنا معاً … أثِيبي بودٍّ قبلَ إحدَى الصَّفائقِ

أثِيبي بودٍّ قبلَ أنْ تشحطَ النَّوى … وينأَى الأميرُ بالحبيبِ المفارقِ

قال فقالت وأنت فحييت عشراً وتسعاً وترَا وثمانياً تترَا قال ثمَّ قدَّمناه فضربنا عنقه فنزلت إليه امرأة تخصُّه فأكبَّت عليه فما زالت تحنُّ عليه حتَّى ماتت وقال الجاحظ ذُكرت لأمير المؤمنين المتوكّل لتأديب بعض ولده فلمَّا رآني استشبع منظري فأمر لي بعشرة آلاف وصرفني فخرجت من عنده فلقيت محمَّد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السَّلام فعرض عليَّ الخروج معه وقرَّب حرَّاقته ونصب ستارته وأمر بالغناء فاندفعتْ عوَّادة له فغنَّت:

كلَّ يومٍ قطيعةٌ وعتابُ … ينقضِي دهرُنا ونحنُ غِضابُ

ليتَ شِعري أنا خُصصتُ بهذا … دونَ ذا الخلقِ أمْ كذا الأحبابُ

ثمَّ سكتت وأمر طُنبوريَّة فغنَّت:

وا رحمَتَا للعاشِقينا … ما إنْ أرَى لهمُ مُعينا

كمْ يهجرونَ ويُضربونَ … ويُقطعونَ فيصبِرُونا

فقالت لها العوَّادة فيصنعون ماذا؟ قالت ويصنعون هكذا وضربت بيدها إلى السّتارة فهتكتها وبرزت كأنَّها فلقة قمر فزجَّت نفسها إلى الماء قال وعلى رأس محمَّد غلام يضاهيها في الجَمال وبيده مِذبَّة فلمَّا رأَى ما صنعت ألقى المذبَّة من يده وأتى الموضع فنظر إليها وهي تمرُّ بين الماء فأنشأ يقول:

أنتَ الَّتي غرَّقْتِني … بعدَ القضَا لوْ تعلَمينا

وزجَّ بنفسه في أثرها فأدار الملاَّح الحرَّاقة فإذا بهما معتنقان ثمَّ غاصا فلم يُريا فهال ذلك محمداً واستفظعه وقال لي أبا عمرو ولتحدّثني بحديث يُسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما قال فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعُرضت عليه القصص فمرَّت به قصَّة فيها إن رأى أمير المؤمنين أعزَّه الله أن يُخرج إليَّ جاريته فلانة حتَّى تغنِّيني ثلاثة أصوات فعل فاغتاظ سليمان وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه واسترجع وأتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه فلمّا وقف بين يديه قال له ما الَّذي حملك على ما صنعت؟ قال الثّقة بحملك والاتّكال على عفوك فأمره بالقعود حتَّى إذا لم يبق من بني أُميَّة أحد إلاَّ خرج فأمر فأُخرجت الجارية ومعها عودها ثمَّ قال قل لها غنِّي فقال لها الفتى غنِّي:

أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدلُّلِ … وإن كنتِ قدْ أزمعتِ هجري فاجْمِلي

فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:

تألَّقَ البرقُ نجديّاً فقلتُ لهُ … يا أيُّها البرقُ إنِّي عنكَ مشغولُ

فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:

حبَّذا رجعُها إليها يدَيْها … في يدَيْ درعِها تحلُّ الإزارا

فغنَّته فقال له قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فما استتمَّ شربه حتَّى وثب فصعد على قبَّة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فقال سليمان إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أنِّي أُخرج الجارية إليه وأردُّها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدَّقوا عنه فلمَّا انطلقوا بها نظرت إلى حفرة في دار سليمان قد أُعدَّت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:

مَنْ ماتَ عشقاً فليمتْ هكذا … لا خيرَ في الحبِّ بلا موتِ

وزجَّت بنفسها على دماغها فماتت فسُري عن محمَّد وأحسن صلتي وذكر لنا أنَّ محمَّداً بن حميد الطُّوسي كان جالساً مع ندمانه يوماً فغنَّت جارية له وراء السِّتارة:

يا قمرَ القصرِ متى تطلعُ … أشقَى وغيرِي بكَ مُستمتعُ

إنْ كانَ ربِّي قدْ قضَى كلَّ ذا … منكَ علَى رأْسِي فما أصنعُ

قال وعلى رأس محمَّد غلام بيده قدح يسقيه فرمى بالقدح من يده وقال تصنعين هكذا ورمى بنفسه من الدَّار إلى الدِّجلة فهتكت الجارية السِّتارة ثمَّ رمت بنفسها على أثره فنزل الغاصة خلفها فلم يجدوا واحداً منهما فقطع محمَّد الشُّرب وقام من مجلسه وأخبار هذا الباب أكثر من أن يتضمَّنها مثل هذا الكتاب غير أنَّا اقتصرنا منها على ما يكون معه مضربين عنها ولا مكترثين بها ولقد كادت شهرتها له لتمنعنا عن ذكرها غير أنَّها كانت شاهداً لما قدَّمناه وأحببنا أن يؤيّد بذكرها على ما شرطناه.

من شأن من كان مجاوراً لأحبَّائه وسامحته الأيَّام ببلوغ محابّه أن يصرف خواطره إليهم وان لا يؤثر صحبة أحد غيرهم عليهم بل الجاري من عادة أهل الأدب إذا أقبل عليهم يستثقلون أن يظهروا له المودَّة بل يعتقدونها في الحقيقة فإذا كانت هذه حال أهل الأدب مع من يعاشرهم من غير الأحباب كان أحبابهم أحرى أن يغلبوا على قلوبهم وإنَّما يبين الصَّادق في هواه إذا فارقه أو صدَّ عنه من يهواه فأقام حينئذ عليه ولم ينتقل إلى ما سواه.

أنشدني أحمد بن يحيى النحوي لعمر بن أبي ربيعة:

يقولونَ إنِّي لستُ أصدقُ في الهوَى … وإنِّي لا أرعاكَ حينَ أغيبُ

فما بالُ طرفِي عفَّ عمَّا تساقطتْ … لهُ أنفسٌ مِنْ معشرٍ وقلوبُ

عشيَّةَ لا يستنكرُ القومُ إنْ رأوْا … سفاهَ الحِجى ممَّنْ يُقالُ لبيبُ

ولا نظرةً مِنْ عاشقٍ إنْ مضتْ لهُ … بعينِ الصِّبى كسلَى القيامِ لعوبُ

يُروِّحُ يرجُو أنْ تحطَّ ذنوبهُ … فراحَ وقدْ عادتْ عليهِ ذنوبُ

وما الشَّكُّ أسلانِي ولكنْ لذِي الهوَى … علَى العينِ منِّي في الفؤادِ رقيبُ

ولقد أحسن ذو الرمة حيث يقول:

إذا غيَّرَ النَّأيُ المحبِّينَ لم أجدْ … رسيسَ الهوَى مِنْ حبِّ ميَّةَ يبرحُ

تصرَّفُ أهواءُ القلوبِ ولا أرَى … نصيبكِ مِنْ قلبِي لغيركِ يُمنحُ

أرَى الحبَّ بالهجرانِ يُمحَى فيمتَحِي … وحبّكِ ممَّا يستجدُّ ويذبحُ

أبِينُ وشكوَى بالنَّهارِ شديدةٌ … عليَّ وما يأتِي بهِ اللَّيلُ أبرحُ

هيَ البرءُ والأسقامُ والهمُّ ذكرُها … وموتُ الهوَى لولا التَّنائِي المبرّحُ

إذا قلتُ تدنُو ميَّةُ اغبرَّ دونَها … فيافٍ لطرفِ العينِ فيهنَّ مطرحُ

فلا القربُ يُبدي مِنْ هواهَا ملالةً … ولا حبُّها إنْ تنزحِ الدَّارُ ينزحُ

وقال أيضاً

هواكِ الَّذي ينهاضُ بعدَ اندِمالهِ … كما هاضَ حادٍ متعبٌ صاحبَ الكسرِ

إذا قلتُ قدْ ودَّعتهُ رجعتْ بهِ … شجونٌ وأذكارٌ تردَّدُ في الصَّدرِ

وإنْ قلتُ يسلُو حبَّ ميَّةَ قلبهُ … أبَى حبُّها إلاَّ بقاءً علَى الهجرِ

وقال أيضاً

يزيدُ التَّنائِي وصلَ خرقاءَ جدَّةً … إذا خانَ أرماثَ الحبالِ وصولُها

لقدْ أُشربتْ نفسِي لميٍّ مودَّةً … تقضَّى اللَّيالي وهيَ باقٍ وسيلُها

وقال أيضاً

فلمْ يبقَ ممَّا كانَ بيني وبينَها … منَ الوصلِ إلاَّ ما تجنُّ الجوانحُ

أصيداءُ هلْ قيظُ الرَّمادةِ راجعٌ … لياليهِ أوْ أيَّامهنَّ الصَّوالحُ

سواءٌ عليكَ اليومَ انصاعتِ النَّوى … بصيداءَ أمْ أنحَى لكَ السَّيفَ ذابحُ

إذا لمْ تزرْها مِنْ قريبٍ تناولتْ … بنا دارَ صيداءَ القِلاصُ الطَّلائحُ

وقال أيضاً

ولمْ تُنسِني ميّاً نوًى ذاتُ غُربةٍ … شطونٌ ولا المستطرفاتُ الأوانسُ

إذا قلتُ أسلُو عنكِ يا ميُّ لمْ يزلْ … محلّ لدارٍ مِنْ دياركِ ناكسُ

فكيفَ بميٍّ لا تؤاتيكَ دارُها … ولا أنتَ طاوِي الكشحِ منها فيائسُ

وقال هدبة بن خشرم:

يُجدُّ النَّأيُ ذكركِ في فؤادِي … إذا وهلتْ علَى النَّأيِ القلوبُ

وقدْ علمتْ سُليمى أنَّ عودِي … علَى الأحداثِ ذو وتدٍ صليبُ

عسَى الكربُ الَّذي أمسيتُ فيهِ … يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ

وقال آخر: